لمحة تاريخية
بعد قيام دولة (إسرائيل) في 1949، ما انفكت الحركة الصهيونية عن التخطيط لإيجاد صيغة تصبح فيها الدولة اليهودية جزءاً لا يتجزأ من نسيج المنطقة الاجتماعي يضمن لها الاستمرارية والشرعية والهيمنة. أول من كشف عن هذه الخططـ، كان الصحفي الهندي كارانجيا في كتابه “خنجر اسرائيل”[1] في العام 1957، الذي تضمن وثيقة سريّة صهيونية عن خطة تقضي بتقسيم الجمهورية السوريّة إلى ثلاث دويلات طائفية، ولبنان إلى دولتين، والعراق إلى ثلاث دول. وثيقة أخرى، نشرت في مجلة “كيفونيم” فى عام 1982 التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية، بعنوان “استراتيجية اسرائيلية للثمانينيات”، دعت أيضاً إلى تقسيم العراق، وتقسيم لبنان الى دويلات طائفية، وفصل جنوب السودان. كذلك بعد الغزو الأميركي للعراق، نشر الصحافي رالف بيترز المقرّب جداً من وزارة الدفاع الأميركية في 2006، خريطة “حدود الدم”[2] التي أظهرت المشروع الأميركي / الصهيوني لتقسيم المنطقة إلى دولة كردية في شمال العراق وشرق سورية وجنوب تركيا، وشيعية عربية في جنوب العراق، وسنيّة عراقية تشمل وسط وغرب العراق، وسنيّة سورية تشمل دمشق وحلب، وفيدراليات أقلوية في لبنان “الأكبر” على الساحل، تضم كيانات شبه مستقلة، درزية، ومسيحية، وعلوية، وغيرها.
هَندَسةُ (الشرق الأوسط الجديد)
لتنفيذ هذه الخطط، استعان مهندسو الشرق الاوسط الجديد بأنظمة حكم تُضْعف الدولة المركزية وتُقوي سلطة الأقاليم، فيصبح التعامل مع مكونات طائفية وعرقية بدل المجتمع والشعب الواحد، ويسهل التلاعب بمصيرها. أهم هذه الأنظمة هو “الديمقراطية التوافقية” التي حدد عالم السياسة الأمريكي آرنت ليبهارت في كتابه “الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد”[3] أهم خصائصها وهي الحكم بواسطة ائتلاف الفعاليات السياسية الواسع، وامكانية استعمال الفيتو المتبادل، ومرور التوظيف في الإدارات عبر القوى (المتوافقة) ووجود درجة عالية من الاستقلالية لكل مكون في إدارة شؤون (منطقته). كذلك وجد هؤلاء المهندسون في الصيغة الفيدرالية أو الاتحادية ما يتناغم مع الديمقراطية التوافقية بتوفيره لكل إقليم استقلالاً ذاتياً، له حق السيادة على حدوده والانفصال عن الاتحاد إذا أراد ذلك.
هذه الخطط الطويلة المدى لا يمكن تنفيذها عبر الحروب التقليدية، أو تغيير الأنظمة، بل تتطلب خارطة طريق من عدة مراحل، قد تتداخل ببعضها البعض وتتغير أساليبها حسب واقع كل دولة، لكن اجمالاً يمكن وضع عناوين عريضة لمراحل الخطة على الشكل التالي:
1. المرحلة الأولى : ضرب وإضعاف الدولة المركزية وفرزها طائفياً وعرقياً وتأسيس نواة للكيانات الطائفية العرقية.
2. المرحلة الثانية : تشريع الدولة (الصورية) وتثبيت الكيانات المناطقية الطائفية العرقية وزرع الشلل وصولاً إلى تكريس واقع وحالة فشل الدولة.
3. المرحلة الثالثة : تأسيس نظام فيدرالي ضمن حدود دول سايكس – بيكو الحالية، تُشرْعن فيها الأقاليم الطائقية والعرقية ككيان وسلطة ذاتية على مواردها الاقتصادية وأمنها وقضائها.
4. المرحلة الرابعة : تأسيس سايكس-بيكو-2 الاجتماعية بدول (جديدة) عرقية طائفية، وذلك عبر فصل وضم وقضم الكيانات الفيدرالية في الدول الحالية.
فيما يلي عرض سريع لواقع دول المشرق المستهدفة والمرحلة التي وصل إليها المشروع في كل منها:
لبنان
يمكن اعتبار نشوب الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 بداية تنفيذ هذا المشروع الذي فرز معظم المناطق على أساس طائفي، وأكملته اسرائيل بعد غزوها لبنان في 1982 بخلق صراع مسيحي-درزي في جبل لبنان أدى إلى فرز المسيحيين والدروز إلى كيانين منفصلين، وبذلك اكتمل تأسيس نواة كيانات طائفية غير معلنة في معظم لبنان. اعترافاً بهذا الواقع واضعافاً للدولة المركزية توصل زعماء الكيانات الطائفية إلى اتفاق “الطائف” في السعودية سنة 1989 على أساس “الديمقراطية التوافقية” التي قلصت صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني وجعلت السلطة بيد زعماء الطوائف الذين يشكلون مجلس الوزراء التوافقي. بين الفيتوات الميثاقية المتبادلة والمحاصصة الطائفية والدعم المالي الغربي والعربي، تضخم القطاع المصرفي بسبب الفائدة العالية وزاد الدين العام وضربت القطاعات الانتاجية وتفشى الهدر المؤسساتي والفساد إلى أن وصلت الدولة اليوم إلى الإفلاس والانهيار المالي الشبيه بـ’ سلسلة بونزي‘[4] بعد أن أوقف الغرب وحلفائه الدعم المالي. هذه التطورات جعلت البيت الابيض يعلن عن “وجود مؤشرات إلى أن لبنان يسير نحو الفشل” في الشهر الماضي.
أمام الحصار المالي الدولي بوسائل عربية وغيرها ومنع أو تأجيل استخراج النفط والغاز من الساحل اللبناني وتفجير مرفأ بيروت، وأمام الانقسام العامودي بين زعماء الطوائف، واتهام حزب الله بالمسؤولية عن الحصار، تعلو أصوات هنا وهناك عن وجود مناطق منتجة وأخرى غير منتجة من ألوان طائفية مختلفة وبأن التركيبة الحالية سقطت وأن لا حل إلاَّ بالفيدرالية.
العراق
إنَّ انتصار الثورة الاسلامية الشيعية الإيرانية بعد تخلي الغرب عن الشاه في 1979 كان نقطة تحول كبيرة في الشرق الأوسط. العراق بدعم من الممالك والمشيخات الخليجية خاض حرب استنزاف ضد إيران لثمان سنوات. بعد إعلان انتصاره دخل الجيش العراقي إلى الكويت، فشَلّت أميركا قدراته بعد طرده من الكويت ووضعت عقوبات على العراق وفرضت حظر طيران على الشمال والجنوب فكانت النواة لإنشاء إقليم كردستان في 1991.
رغم هذه الاجراءات الأميركية التي أضعفت الدولة المركزية، وجدت أميركا – بسبب ضغط منظمات (المسيحيين الصهاينة) واللوبي الإسرائيلي – بأن تنفيذ المراحل المقبلة من المشروع التقسيمي يتطلب غزو العراق. في آذار 2003 بدأ الغزو وسقطت الدولة العراقية سريعاً، فحلت أميركا الجيش وفرضت دستوراً جديداً في 2004، عرف باسم الحاكم الأميركي “بريمر”، على أساس الديمقراطية التوافقية التي جعلت من المواطنين جماعات مذهبية وطائفية وعرقية. الدستور الجديد كذلك أقر مبدأ الفيدرالية كأساس لشكل الدولة فشرع إقليم كردستان الذي منح صلاحيات واسعة. رغم تشجيع الدستور على إنشاء فيدراليات أخرى غير أنَّ المحافظات (السنية والشيعية) لم تشكل فيدراليات حتى الآن[5] .
إنَّ الامتيازات المالية الكبيرة وغيرها التي حصل عليها إقليم كردستان، والشعور بالغبن والظلم الذي تعبّر عنه الطائفة السنيّة، والولاء للأجنبي، وتفشي الفساد المالي والإداري، كلّها عوامل ساهمت في ظهور تنظيم داعش في الموصل وتوسعه في سياق الحرب ضد الدولة المركزية، مع محاولة إقليم كردستان للانفصال التام، بالإضافة إلى سيطرة تركية وإيرانية شبه كاملة على مياه نهري دجلة والفرات والروافد تُهدد العراق بالتصحر وخسارة ثلث الأراضي الزراعية. كل هذا أدى إلى تصنيف العراق ضمن قائمة “الدول الفاشلة” - 13- في 2018 رغم غناها النفطي.
في 2007 دعى جو بايدن، الرئيس الأميركي الحالي، إلى “نظام فيدرالي فعّال” يقسم العراق إلى ثلاث مناطق كردية وسنية وشيعية [6] . وأمام ربط أميركا للملف النووي بتقليص النفوذ الإيراني على خط العراق-سوريا-لبنان وهزيمة القوى الشيعية الموالية لإيران في الانتخابات الأخيرة، وارتفاع أصوات سنية وشيعية تطالب بالفيدرالية وسعي كردي دائم للانفصال، ينتطر (الفيدراليون) انحسار الدور الإيراني العسكري وقطع “الهلال الشيعي” لإكمال وتكريس الفدرلة وانفصال كردستان.
الجمهوريّة السوريّة
أسلوب مشروع الشرق الأوسط الجديد في الجمهورية السورية ابتعد عن الغزو المباشر واسْتُبدل بإرسال المال والعتاد والرجال من 82 دولة لدعم التنظيمات الطائفية في ضرب الدولة المركزية. هذا المشروع ابتدأ من تونس بعد ما سمي بالـ (ربيع العربي)، وبدأت شرارته في درعا في 2011 لكنه لم يفلح في اسقاط الدولة المركزية بسبب تماسك الجيش السوري ودعم حزب الله وإيران وروسيا له.
من ناحية أخرى، نجح جزئياً بخلق كيان كردستاني بقيادة تنظيم (قسد) بمنطقة الجزيرة شرق الفرات، وشبه كيان سني مدعوم من تركيا شمال غرب الفرات في عفرين وادلب، وكذلك نجح بزرع خلايا انفصالية في درعا والسويداء. بالإضافة إلى ذلك نتج عن الحرب وجود قوات إيرانية وروسية (شرعية) في مناطق سيطرة الدولة، وقوات أميركية محتلة في قاعدة التنف بالقرب من الحدود الأردنية وفي شرق الفرات وذلك للسيطرة على منابع النفط، وقوات أخرى تركية محتلة في الشمال والشمال الغربي.
قبل نهاية 2012، قال كيسنجر لصحيفة وول ستريت جورنال إنَّ الهدف في سوريا هو “وضع ترتيب لتقاسم السلطة بين المجموعات السكانية المختلفة على غرار المؤسسات التعددية في لبنان المجاور “. في حديث لقناة س.ن.ن. في 2016، صرح رئيس الاستخبارات الأميركية السابق مايكل هايدن أن الحدود التي رسمت في معاهدات فرساي وسايكس – بيكو قد بدأت بالانهيار وبأن “سوريا والعراق لم يعودا موجودين ولن يعود كلاهما، ولبنان يفقد الترابط،” [7] . الروس أيضاً في 2013 ومن ثم في 2017 في مؤتمر استانة طرحوا دستوراً جديداً يعتمد على ذات الاسس العامة لدستور بريمر العراقي و’دستور‘ الطائف اللبناني. بموجبه، نُزعت صلاحيات الرئيس ومنحت لمجلس الوزراء ومجلس الشعب الذي لديه صلاحية إعلان الحرب وتنحية الرئيس، كما أنَّ تعيينات الوزراء تجري حسب التمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والإثنية، ويكون لـ (الفيدراليات – المناطق)” برلماناتها وتسمى “جمعية المناطق” ومنها المنطقة الكردية حيث ينص الدستور صراحة على تمتعها بحكم ذاتي[8] . قبل مؤتمر استانة كان سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي قد صرح بأن “روسيا ترى إمكانية إنشاء جمهورية فيدرالية …” وعن تصور روسيا لهذه الجمهورية، أوضح مدير مركز الأبحاث السياسية الروسي فلاديمير يفسييف أنه “يبدأ بإعطاء الحكم الذاتي للأكراد في مناطق سيطرتهم، وإعطاء المناطق الواقعة تحت حكم تنظيم الدولة الاسلامية للقبائل السنية، في حين تبقى دمشق وحمص وحماة ودرعا ومناطق سيطرة العلويين تحت سيطرة نظام الأسد، وتحصل السويداء الدرزية على نوع من الحكم الذاتي بالاتفاق مع النظام”[9] .
بعد فشل كل المحاولات العسكرية لإسقاط الدولة، غيّر الأميركيون أسلوبهم باستعمال السلاح الاقتصادي وفرض حصار خانق على دمشق عبر ما يعرف بقانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في منتصف 2020. يستهدف القانون ضرب البنية المالية ووضع قيود على حركة التبادل التجاري مع الدولة وفرض عقوبات على الشركات والأشخاص الذين يتعاونون تجارياً مع النظام. من ناحية أخرى، القانون يسمح للرئيس الأميركي برفع العقوبات إذا لمس “جدية في التفاوض من قبل نظام الاسد”[10] . بالإضافة إلى ذلك، حُرمت الخزينة السورية من عائدات النفط في مناطق سيطرة القوات الأميركية واهتز الأمن الغذائي للشعب السوري في السنتين الأخيرتين بسبب ازدياد الحرائق المفتعلة لمحاصيل القمح في مناطق سيطرة قسد وداعش. بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي، تتعرض الأراضي السورية لضربات جوية اسرائيلية ممنهجة يهدف بعضها لمنع فك الحصار عنها، وكان آخرها ضرب مرفأ اللاذقية الحيوي لمنع استيراد النفط وغيره من الدول الصديقة. الجدير بالذكر أن الروس لا يمنعون هذه الغارات رغم قدرتهم على ذلك.
أمام كل هذه الضغوط الكبيرة على الشعب السوري لتجويعه وجعله يخضع للإملاءات التقسيمية، وأمام (الجَزَرْة) التي تُعرض على الرئيس الأسد كالاعتراف به رئيساً لدولة المستقبل وانفتاح بعض الدول الخليجية على نظامه ووعود بالعودة إلى الجامعة العربية وبالإعمار واستخراج الثروات المكتشفة على الساحل، تجد الجمهورية السورية نفسها أمام خيارات صعبة ستحدد مصيرها ربما لمئة عام اخرى.
المشرق على مفترق طرق
إذا نظرنا بصورة شاملة للمشرق من العراق في الشرق وصولاً إلى لبنان في الغرب، تتضح لنا معالم الخطة التي وضعت وتنفذ مرحلة إثر مرحلة، للوصول إلى سايكس-بيكو-2 الاجتماعية العنصرية التي تصفي القضية الفلسطينية وتضمن وتشرعن وجود اسرائيل كدولة يهودية عنصرية. أهم العوائق الحالية في وجه هذه المشروع هو رفض الدولة السورية لحد الآن ورفض حزب الله وحلفائه الوحدويين والعلمانيين في لبنان لهذا المشروع والتأثير والنفوذ الإيراني بشكل عام من العراق إلى لبنان وذلك لتناقض المشروع مع الغاية الايرانية في الوصول إلى المتوسط عبر ما يسميه البعض بــ (الهلال الشيعي). إنَّ مفاوضات فيينا بشان سلاح إيران النووي والتهديد بضرب المفاعل النووي، وادراج أميركا لموضوع إلغاء النفود الإيراني العسكري في المشرق كشرط أساسي للاتفاق ، ومحاولات تقليص هذا النفود في العراق ولبنان عبر الانتخابات وفي الشام عبر الضربات الجوية، ستحدد مسار المشروع الاميركي، فإما أن تتنازل إيران عن مشروعها وتنهي وجودها العسكري في المشرق بعد تلقي ضمانات (جَزَرْ) بنفوذ اقتصادي في الفيدراليات الشيعية أو الأقلية في العراق والشام ولبنان، وإما أن تقرر المواجهة العسكرية مع اسرائيل وأميركا وتخاطر بتدمير المفاعل النووي والبنية التحتية لإيران.
إنَّ المشرق أمام مفترق طرق مصيري والطريق الأسلم دون شكّ، يتمثل في قيام وحدة وطنية وتحالف بين دول المشرق تؤدي إلى طرد الأجنبي وإحلال السيادة القومية. لكن هذا الطريق يبدو صعب المنال و(غير واقعي) اليوم بسبب انعدام الوعي للمخاطر والانقسام والتقاتل الداخلي على السماء. أمام هذا الواقع، نواجه خيارين محددين، فإما أن نختار بين دولة جارة تعادي عدونا ونفوذها لا يدمّر المجتمع المشرقي بشكل ممنهج ويمكن معالجته وتطويره إلى تحالف بين أمتين متساويتين، أو مواجهته في المستقبل، وبين تهديد وجودي يفتت المجتمع عامودياً إلى كيانات متناحرة من قوميات دينية وعرقية، سيكون من الصعب جداً إعادة اللحمة والإخاء القومي إليها وسيجعل (إسرائيل) تتحكم بمصيرنا جميعاً لفترة طويلة.
[4] الأمم المتحدة: احتيال يشبه سلسلة بونزي وراء الانهيار المالي في لبنان. العربية
[9] روسيا تطرح الفدرالية حلا للأزمة السورية- – الجزيرة