في مرحلة سابقة تحدثت عن الرفيق الشاعر وليم صعب وعن كتابيه "حكابة قرن" و "الديوان".
الرفيق وليم كان نشط حزبياً، ثم التحق بما سمي الانتفاضة عام 1957 واودت الى إيجاد تنظيم عُرف "تنظيم عبد المسيح".
من "حكاية قرن" انقل ابرز ما جاء في الفصل الثامن تحت عنوان "المرحلة الحزبية ابتداء من العام 1935"
*
كنت ادرّس في بلدة جل الديب عام 1935، في معهد اسسه الطيّب الذكر عبده زينون، عندما انتميت الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكانت مديرية جل الديب بين مديريات الطليعة في الحركة القومية الاجتماعية. أحببت هذا الحزب لرسوليِة أعضائه الذين كانوا يضحون كل شيْ في سبيل قضية وطنهم وامّتهم. ووجدت فيه ما تحتاج إليه أمّتنا في سبيل نهوضها من حال الانحطاط التي بلغتها.
في تلك السنة عينها تعرّفت على مؤسس الحزب الزعيم أنطون خليل سعادة. كان هو في الحادية والثلاثين وانا في الثالثة والعشرين. كان أنطون سعادة يجذب اليه من اول نظرة كل من يراه. واذكر ان أحداً لم يتمكن من التحديق في عينيه أكثر من لمحات، لأن بريقاً ساحراً فيهما كان يجذب ويسيطر. وكنا، قبل ان نمارس مسؤولياتنا في الحركة في اخر شارع المعرض في بيروت، نبكر مرات الى محلة السور لنأخذ قوة وعزيمة بمشاهدته مقبلاً من هناك الى المركز بجبهته الشامخة واطلالته الرائعة وعينيه النفّاذتَين المليئتين محبةً وصدقاً وجاذبيةً.
بهذه المواهب، إضافة الى مواهبه الخُلقية والعقلية واجتهاده العلمي، تمكّن سعادة من ان يدير الحزب وان يقوم على مؤسساته ذلك القيام الذي جعله محور هذه المؤسسة طوال حياته، القصيرة سناً (45 سنة)، المليئة عطاءً. كان يتقن عدة لغات. وكان يتكلم بفصاحة وسلطان، وكان يخاطب كل الناس، حتى بناته الثلاث الصغيرات، بالعربية المشكّلة التي علمهنّ إيّاها.
أراد سعادة الحزب مستقلاً كحزب: امر الدين يُترك لله، وهو علاقة بين الشخص وخالقه، في حين تبقى مؤسسة الحزب علاقة بين المواطن ووطنه بواسطة هذا الحزب. وامرُ الزعيم مع الشاعر القروي رشيد سليم الخوري مشهور، عندما حاول القروي اثارة النعرات الطائفية. وبسبب ما اتاه في البرازيل، كتب سعادة بين 1941 و1942 مجموعة مقالات نُشرت بعد ذلك في كتـــاب بعنــوان "الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية"، وفيه جملته الشهيرة "كلنا مسلم لرب العالمين: فمنّا من أسلم لله بالانجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالحكمة. وليس لنا عدو يقاتلنا في وطننا وديننا الا اليهود".
انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي عدد كبير من الشبان أصحاب الهمم العالية. وكانوا يؤدون واجباتهم الحزبية بكل نشاط، مترفّعين عن الأمور الدنيوية، صاهرين أنفسهم في بوتقة هذا المجتمع الذي أراد مؤسس الحزب ان يصهرهم فيه. وكان الحزب نموذجاً للوحدة الاجتماعية الصحيحة بتوحيده بين مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق، حتى انطفأت النعرات الطائفية تماماً داخله.
اول عملي في الحزب كان تلخيص صحف الصباح وتقديمها الى الزعيم ليطّلع على الاخبار اليوميّة بدون ان يصرف وقتاً على مطالعة الصحف كلها، فيتوفّر له بذلك الوقت الكافي للقيام على الإدارة الحزبية. وقدّمتُ اليه ذات يوم زجليّة ضمّنتها مبادىْ الحزب الأساسية والاصلاحية. وهذا مطلعها:
نحنا القوم المتحدين السوريين القـــــــــــــوميين
اول مبدأ بيجمعنــــــــا: سوريــــــــــــــا للســــــــــوريين
اول مبدأ بيجمعنــــــــا: سوريـــّــــا إلنـــــــــا جِـمـلِــــه
ما بدنا معاون معنـ ا صرنــــا أمــه مـكـتـمـلــــه
قـــــوميتنا بترفعنــــــــــــــــا، وان صِرنا قدّ الحملـه
اسم الأمّة بيجمعنـــــــا متفقيــــــــــن ومقتدريــــــن
والمقطع الأخير من تلك الزجليّة يعبّر عن المبدأ الخامس من مبادىْ الحزب الإصلاحية:
البند الخامس: بدنا نْعِدّ من الامة جيش معــــــــــلّم
يوقَف سدّ بوجه الضــــــدّ بحقـّو الناطــــق يتكـــــــــــلّم
ساعتها منِنْجَح عن جـدّ وما منِشقى وما منتألّـــــم
بالإخــلاص منرفـع يَــــــــد منهتُــف: تحيــــا سوريّـــــا
ويحيا محيي السوريين
كان الحزب سرياً أيام الانتداب الفرنسي حتى ذلك الحين. واكتشف امره، ودخل زعيمه وبعض أعضائه السجون عام 1937، وكنتُ بينهم. وممّن اعتُقل معنا: نعمة ثابت، عبد الله الجميل، محمد راشد اللاذقي، خالد اديب، صلاح الشيشكلي. وكان رفيقنا عبد الله الجميل ابتكر لغتين رمزيّتين يتخاطب بهما القوميون: واحدة مكتوبة وواحدة بالإشارة. لغة الإشارة هذه كانت تتم بواسطة الأصابع. وهذا ما نراه اليوم في تعليم الصمّ. ولعل عبد الله الجميل اخترع هذه اللغة ولم يسمع بها، كما لم يسمع بها أحدنا، قبل ذلك الحين. أما اللغة المكتوبة فكانت للرسائل. وذات يوم قبض مدير السجن محمد جواد – وهو شاعر في المشكَّلة والعاميّة – على رسالة. فجاء بها واخذ يبحث عن كاتبها. ثم حملوا تلك الرسالة ليحلّلوها عند المترجمين القانونيين الذين كانت مكاتبهم شرق العدليّة في محلّة سرايا بيروت. الا ان أحداً منهم لم يتمكن من فك رموز الرسالة. وظلّت تلك اللغة مجهولة.
وكان القوميون داخل سجن الرمل في محل، والزعيم في محل آخر. وفي أوقات النزهات كنا نشاهد بعضنا بعضاً من بعيد. وقدّمتُ عرائض كثيرة لإدارة السجن، طلبتُ في اثنتين منها اخلاء سبيلي. وكان المدّعي العام المولج التحقيق معنا آنئذ جورج مراد. وهو مستنطق رفيع المزايا، تفهّم قضيّـتنا تفهُماً واعياً، وكان يصغي الى الزعيم بثقة ومحبة واهتمام. ووجّهتُ إليه في المرة الثالثة عريضة إخلاء سبيل زجليّة، ما أزال أذكر منها بعض الأبيات:
يا حضرة مستنطِـقــنــــــــا كيف تا هَـيـك معَــوّقـــنـــــــا؟
وبالإستـنطــــــــــاق الأوّل لا كذِبنـــــــــا ولا تــنــافــقــــنـــــــــــا
بـــالإستنطــــــــــاق الأول في دايــــِــــــــــرةِ التــــحــــــــــــرّي
حكينا وقرّينا مطـــــــــوّل وبيّن خيـــــــــــــري من شـرّي
كيف بيِرجـــــــــــع يِتـــأوّل الجُـــوّي بمعنى الــــــــــــبرّي؟
ما كنّــــــــــــا عمنِـتســــوّل ولا نصبنا ولا سْرقنــــــــــــــــــا
تحمّمنا وجَخّينا جـَـــــــــخ نهار السبت، وخوذ وهـــات
حلقنا وكنا بكشف المخّ تمشّينــــــا مثل الـــــــــــــــــــــــذوات
ما عرِفنــــــا هيـــــكي منتخّ ونكســــــــــــدر بالكلبجـــــــــــــــــــات
بسوق المعرض كان الفخ: طلعنــــا، دخلنـــــــــــا وعلِقنـــــــا
وعـينـين عيونك لو شفــــت النّظــــــــــاره والشيـــخ محمــــــــود
نيشانـــــو نيشــــــــان الجـفت، بسيكـــــــــــــاره ما كـــــــان يجــــــود
نمنـــــا نومــــه مثــــل الزفـــت: الفرش بــــلاط، اللحف زنــــــــود
قعدت، قلبت، قلقت، قرفت وعدنـــــــا بسلامــــــــــــة فقنـــــــــــــــا
بعد تبلغه هذه العريضة، أرسل المستنطق مراد يطلبني. وكانت الابتسامة على وجهه وهو يبادرني بالسؤال: " كم يوماً لك هنا في السجن؟" فأجبته على الفور:
إلنـا سبعــــــــــة وستين يــــــــــــوم لحـــــــــد اليـــــــــــوم بنـــومتنــــــــــــــا
ويا فضيحتنـــــا بين القـــــــــــــوم ان ظلــــــت هيك حكومتنــــــــــــــــا
وكل الذين أوقفوا آنذاك أمضوا المدة في السجن دون ان يحقق معهم. وقال لي جورج مراد: "سأخلي سبيلك".
فأجبته: "لست مستعداً ان اترك السجن اليوم. فلندع المسألة الى يوم غد" وكان الزعيم في تلك الاثناء مع المحقق في الغرفة، وقد أتوا به للأستجواب أيضا". وقال لي مراد: "يجب ان تترك السجن اليوم". فقلت: "لا املك اجرة الطريق من سجن الرمل الى الاشرفية". واعطاني الأجرة، وهي ليرة لبنانية في ذلك الزمان، وتركتّ السجن الى البيت.
قبل سفري إلى المهجر أواخر 1946، عملت مندوباً عاماً للحزب في منطقة واسعة، ضمنها قضاء عاليه وقسم من المتن والساحل والجنوب. وفي الخمسينات عملت منفذاً لمنطقة عاليه، كما تسلمت مسؤولية عمدة المالية.
ومن إنجازات منفذية عاليه في الحزب تعبيد الطريق الوعرة بين بشامون وسرحمول. وهي كانت طريق رجل ودواب. وقد عمل الأعضاء بهمة دائبة، حتى عبدوها واوصلوها الى بلدة عرمون أيضاً. وكان ذلك أواسط الخمسينات.
في مدرسة الشويفات التي أسسها القس طانيوس سعد وكان يديرها ابنه شارل سعد، أنشأت مديريتين للطلبة. وكان شارل سعد من الأعضاء الأول الذين دخلوا الحزب لكنه علّق نشاطه لانشغاله باهتمامات أخرى. وأبلغني احتجاجه على وجود المديريتين في مدرسته، فقلت له: " اذا وجدت واحداً من طلبة المديريتين كسولاً او ذا اخلاق غير مقبولة فبلّغني عنه. لقد اوجدت هاتان المديريتان كي تكونا منارة لطلاب هذه المدرسة علماً واخلاقاً، فينهجوا على نهجهما". هكذا كانت مديريّات الحزب في المدارس: لا للتشويش ولا لاعمال التخريب، بل كانت منارات للقدوة الحسنة.
أذكر انني في ليالٍ كثيرة كنت أقف بعد منتصف الليل ساعات على الطرق منتظراً سيارة أجرة تعيدني الى بيروت. ذات ليلة كنت على الطريق الساحلي في الشويفات، في مكان بين حي المراء وحي القبة. انتظرت أكثر من ساعتين، والسيارات تمر ولا تتوقف. وأظن ان سائقيها حسبوا ان شقياً يقف هناك للسطو عليهم. لكن سيارة واحدة بعد ان تجاوزتني مئتي متر، عادت الى الوراء وإذا بسائقها شخص فرنسي نقلني معه الى بيروت.
ومن ذكرياتي قبل ذلك التاريخ أني، لدى وصولي الى مدينة سان بولو في البرازيل رأيت الزعيم في حلم. وكان ذلك في العشرين من شهر حزيران عام 1949. وكان الحلم مزعجاً اذ رأيت الزعيم على رمل بيروت حيث جرى اغتياله بعد ثمانية عشر يوماً. وفي صباح اليوم التالي للحلم اتصلت بشقيقه أدوار المقيم في البرازيل راوياً ما تراءى في المنام ومبدياً قلقي. ولم يسكن روعَنا الا إحالة ذلك الحلم على فصائل الاضغاث. وفي التاسع من تموز، وكنت قد وصلت الى عاصمة الارجنتين، حملَت أسلاك البرق أنباء جريمة الغدر والاغتيال. وكان وجوم وسخط هناك بين أهلنا الذين عرفوا الزعيم بينهم وأدركوا ما كان يتمتّع به من صفات ومزايا عالية نادرة، وما قدّم لأمتّه من الخدمات والتضحيات الجليلة.
وصادف ان الجالية كانت تستعد لإقامة حفلة تكريمية وداعية لمستشار السفارة اللبنانية هناك الشاعر الاديب عبد الله النجار (1) وطُلب مني أن ألقي قصيدة في الحفلة التي أقيمت في 15 آذار 1949، وكانوا ينتظرونها زجلية، لكنها جاءت مشكّلة، وهنا مطلعها وخاتمتها:
يا رسول الأرز، خذ مني سلاماً لبنــي قومي وأوصِله هيامـــا
من محبّ ذاب شوقاً وغرامـــا يومُه أصبح في الغربة عاما
انّه لعنـاتُ أجيــــــــــالٍ السنينـــا وقَفت تُـنذِر: ويل المجرمينا
انّ للأمة صبراً فانتقاماً
وفي الارجنتين عرفتُ أن الزعيم، الذي كانت تصل اليه مجلّتي، كان يبعث بها الى احدى المديريّات ويطلب منها ان ترسلها، بعد قراءتها، الى مديرية أخرى، حتى تجول على كل المديريات.
اذكر، عندما مررتُ بمدينة كوماسي في الشاطئ الذهبي عام 1950، أنى دُعيتُ للتكلم في النادي القومي الاجتماعي، حيث ألقيتُ حديثاً استغرق أربع ساعات. في منتصف الحديث شَعرتُ بحركة عَرفتُ منها انهم يجمعون تبرعات (مكافأة لي) بعدما تأثروا بما سمعوا، فتركت المنبر وتوجهتُ الى الخارج. لكنهم لحقوا بي وسألوني عن الامر، فقلت لهم: "اعيدوا كل مبلغ دُفع الى صاحبه حتى اعود وأكمل حديثي". وهكذا كان.
وفي طريق عودتي الى لبنان هبطتُ في مطار دمشق. وهناك زرتُ الأمينة الأولى، زوجة الزعيم أنطون سعادة، وهي وبناتها في هول الفجيعة. وفي لبنان استأنفتُ إصدار مجلّتي المخصصة للشعر الشعبي، تحت اسم جديد هو البيدر. وكانت سجلاً حافلاً للزخم الحزبي الجبّار، خصوصاً خلال عقد الخمسينات. وجاءت معظم افتتاحياتي وكتاباتي في "البيدر" طوال الخمسينات قصائد من وحي العقيدة القومية الاجتماعية والنضال الحزبي. وهي قصائد دارت على افواه الآلاف من الرفقاء والمواطنين في كل انحاء الوطن والمهجر.
إن الزعيم الشهيد، قبل دقائق من ترويته ارض بلاده التي احبّها بدمه الزكي، قال هذه الآية: " أنا اموت، أما حزبي فباق". إنه كان يدرك تمام الادراك ويؤمن كل الايمان انه سيأتي بعده من يكمل رسالته التي جاء بها نور هدىً لأمّته. ولا خلاص لأهل بلادنا الا باعتناق مبادئ هذا الحزب وتطبيقها. ولا يمكن ان تطبّق مبادئ الحزب، وخصوصاً المبدأ الإصلاحي الذي يقول بفصل الدين عن الدولة، الا بأن يعود أعضاء هذا الحزب ومتسلّمو ازمته والقائمون بالأمانة على ما ترك الزعيم الى رسوليّة الحزب الأولى والى مناقبيّته _ هاتين الصفتين اللتين كانتا من ابرز صفات الزعيم".
سنوات الفتنة كانت قاسية جداً. فهي فرّقتنا كما فرقت الكثير من العائلات اللبنانية التي لا يكاد يخلو بيت من غياب فرد واحد منها. هذا التشتت القسري ذكّرني بذلك القول القديم المأثور الذي كان يردّده الأجداد: هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان".
هذه الفتنة في لبنان جعلت اهله أعداء يعضهم لبعض. ان مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أعلن انه يريد ان ينتصر حتى بالذين ناصَبوه العداء من أبناء أمّته. وهنا أكرر ما قلتُه من انّ خلاص لبنان واللبنانيين موجود في تعاليم أنطون سعادة، وانه من المستحيل تطبيق مبادئ حزبه الا بعودة أعضائه وقادته الى رسوليّة الحزب الأولى ومناقبيّته، وهما الصفتان الاساسيتان للزعيم.
أما هذا العالم _ من شرقه الى غربه، من شماله الى جنوبه، هذا العالم الذي يكتشف إلا الخير مما تركه له الله ولم يخترع إلا الشر، هذا العالم الغائص في مهاوي الفساد والتائه في همجيّته وبربريّته بسبب ان افراده طردوا الله من بيوتهم _ فلا فلاح له ولا خلاص الا إذا أعاد أفراده الله الى بيوتهم، لأنه "ان لم يَبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون".
قال احمد شوقي في قصيدة معروفة: "والذكرياتُ صدى السنين الحاكي".
وانا اعددتُ هذه الذكريات لتلقي ضوءاً على حياتي وتأتي بمثابة مقدّمة لديواني الشعري الذي لا يختلف عن المذكّرات، لانّه سيرة حياة هو أيضاً.
فإذا كنتُ في سيرة حياتي قد اتيتُ شيئاً حسناًـ، فمرجعه الى الله. وكل شيء سيئ بدرَ منّي هو من صَنيعي.