بداية اشكر مؤسسة سعاده الثقافية لتنظيمها هذه الندوة، في محاولة للكشف عن مكنونات الحزب التي كادت ان تضيع في عالم النسيان، مؤسسة تحارب على جبهة القلم. في هذه الجبهة، البون شاسع بين " قلمُ رصاصٍ" والقلمُ الرصاصُ". الأول ينتمي إلى عهد بداية الفرد بالكتابة، ومع الزمن يبرى وتنمحي كلماته. والثاني يدوّن التاريخ، يحفره عميقاً في جبين الوطن.
بعضهم كًتبَ وكُتِب عنه بالنوع الأول، وبعضهم كتب وقفات العز بالرصاص. على هديّ الزعيم وقدوته سار غسان جديد ليرسم طريق مجد الأمة بمحطات لامعات في حياته توجهها بالشهادة، باذلاً الدماء وديعة الأمة إلى أمته وشعبه وحزبه.
سمعت أول ما سمعت، عن غسان جديد من خلال حكايا المساءات للرفيق الوالد والرفيقة الوالدة حينما كان المرئي لم ير النور بعد، والمذياع حكراً على البيوتات الميسورة. هذه الحكايا التي ضمت بين مفرداتها بطولات غسان جديد، وفضل الله ابو منصور، ومحمود نعمه، وأكرم بشور، وضاهر عقيل، وبعدها شوقي خيرالله وفؤاد عوض وعلي الحاج حسن وغيرهم كثر. هؤلاء منسيون بفعل التغييب لغاية في نفس يعقوب.
ربما كانت هذه الحكايا سبباً لدخولي السلك العسكري بعد انتمائي للحزب في أواخر ستينات القرن الماضي. وتخرجت من الكلية الحربية مع بداية الحرب الأهلية التي وضعتني مباشرة في معمعتها منخرطاً في العمل العسكري الحزبي. كانت البداية مع الأمين بشير عبيد حين استدعاني من المتين لتشكيل نواة قوة نظامية مركزية للتدخل في منطقة الجبل وكان آنذاك الأمين عبيد مندوباً مركزياً لها. فأقمت ثكنة عسكرية في سوق الغرب، اسميتها ثكنة "الشهيد غسان جديد". لا أنكر ان حتى ذلك التاريخ لم أكن قد اطلعت علمياً على إرث المقدم المقدام بل اقتصرت معرفتي على بعض الحكايا الإضافية، حتى وقعت بين يديَ مذكرات فوزي القاوقجي، وبعض قصاصات لجريدة البناء في بداية خمسينات القرن الماضي ومن ثم استحصلت على صورة لكتاب "محكمة الثورة" الذي اصدرته الدولة العراقية بعد الإنقلاب على العهد الملكي. فكتبت مقالاً هو أقرب إلى دراسة عن النهج الثوري عند غسان جديد عام 1985 حللت به بعض الجوانب المهمة، والواقع كلها مهمة، في هذا النهج.
تأتي هذه الندوة لاستكمال قرائتي للشهيد غسان من زاوية تقنية عسكرية، ربما تضيء على جانب لم يعالج حتى الآن لقائد فذّ عرف كيف يجمع بين العلم العسكري السوري المنشأ والإيمان بالقضية القومية المحيّية لتراثنا في العلم والفن والفلسفة.
سأحاول اليوم ان أركّز على عنوانين ومن خلالهما نحلل شخصية غسان الجديد التي ربما تحتاج إلى مجلد كامل لشرح تاريخه النضالي وأعماله الفذّة وعقله المنظِم والمنظَم.
بين العام 1941 والعام 1943 كان الحراك الشعبي في كل من الشام ولبنان في أوجّه لنيل الإستقلال عن فرنسا الدولة المنتدبة عليهما بموجب تقسيمات سايكس - بيكو وكان الشهيد غسان جديد ضابطا ًحديث العهد يخدم ضمن قطعات جيش الشرق (تسمية للجيش الشامي اللبناني تحت القيادة الفرنسية).
في منطقة طرابلس، كان الملازم غسان، آنذاك، على تنسيق كامل مع رجال الثورة، ومنهم عبد الحميد كرامي وعدد من الثوار في منطقة حمص وتحديداً في تلكلخ من آل الدندشي. شكَّ الفرنسيون بهذه العلاقة فتم نقله إلى منطقة بشمزين الكورة. فقرر عل أثر ذلك ان يستولي على مخزن أسلحة الموقع ويذهب بعملية بطولية وجريئة إلى تلكلخ بعد ملاحقة الجيش الفرنسي له واشتباكه مع مخفر درك العبده. وحين وصوله وزّعَ الأسلحة على الثوار وأكثرهم من القوميين الاجتماعيين، ثم قام بتنظيمهم وهاجم مركز الحامية الفرنسية رافعاً بنفسه أول علم سوري على ثكنة عسكرية للاحتلال حتى تاريخه.
في مرحلة تحشد الجيوش العربية ومنها جيش الإنقاذ وقبل انسحاب البريطانيين من فلسطين، كان غسان جديد قد تطوع في جيش الإنقاذ تحت قيادة فوزي القاوقجي. فاستأذنه القيام بعملية نوعية تؤمن سلاحاً وذخيرةً. وعلى رأس مئة وعشرين مجاهداً متموهين بلباس الجيش الأردني اخترق غسان جديد مواقع الجيش الإنكليزي عبر يافا إلى حيفا وصولاً إلى المطيرة حيث الهدف المقصود واشتبك مع حاميته مستولياً على الأسلحة والذخائر، عائداً دون اي خسائر تذكر. سميت أثنائها هذه العملية بخطة غسان جديد الجنونية.
في المأثرتين السابقتين تحلى غسان جديد بالجرأة والجسارة وقوة الإرادة والعزم، لكن في الحالتين لم يكن العمل نزقاً ثوريا، أو جنوناً كما اسماه البعض، بل خطة مدروسة بدقة رغم مخاطرها. ألم تكن التفافاً عميقاً غير متوقع على أسلوب القائد السوري العظيم هنيبعل باجتيازه لجبال الألب لملاقاة الجيش الروماني؟ الم تكن عملية تهدف تحقيق المفاجأة التكتية؟ والمفاجأة في هذا السياق أول شروط الانتصار هجوماً ودفاعاً. هذه العمليات التي تسمى عسكرياً بالتسرب وهي غير التسلل اعتمدها جيش العدو الغاصب فيما بالعديد من عملياته البرية وخاصة في حرب الأيام الستة عام 1967، وفي حرب 1973 عندما تسرب شارون مع حاشيته المقربة وصنع الدفرسوار لتطويق الجيشين المصريين الثاني والثالث.
نظراً لقناعته المطلقة بأن التحرير طريق وحدة الأمة، وان القوة هي القول الفصل في احقاق الحق القومي، وان فلسطين هي سوريا الجنوبية وبالتالي وجوب منع العصابات اليهودية من السيطرة وإقامة دولتهم الكرتونية عليها (التعبير لغسان). تطوع غسان جديد في جيش الإنقاذ وسلم قيادة الفوج المتمركز على جبهة صفد بعدما كانت وحدات جيش الإنقاذ قد انسحبت من صفد دون مقاومة تذكر، بل أكثر من ذلك انسحبت بناء على أوامر غلوب باشا الإنكليزي قائد الجيش الأردني آنذاك، قبل ان يبدأ العدو بهجومه.
لم تكن مهمة هذا الفوج سهلة في منطقة سلمت لقدرها في بداية الحرب حيث دخل اليهود إلى البلدة والمناطق المجاورة وعملوا على تحصينها ودعمت بوحدات من اللواء اليهودي النظامي الذي كان جزءاً من الجيش البريطاني في الشرق، نظراً لأهمية المنطقة الإستراتيجية من حيث موقعها. كونها تفصل بين بحيرة طبريا وسهل الحولة من جهة، وكونها قريبة (حوالي 4 كلم) من نقاط تمركز الجيش الشامي شرقاً من جهة ثانية.
كانت نقاط التمركز لفوج غسان، قد احتلت على عجل في تلال العموقة التي تبعد حوالي كلم ونصف عن صفد وفي ماروس وجبل المخبى. واستناداً لمذكرات فوزي القاوقجي التي وثقها ببرقيات صادرة عن الرئيس (رائد) غسان. تشرح بحدود معينة مجريات المعارك التي تدور في هذه المنطقة التي تعرضت لهجمات متلاحقة من اللواء النظامي اليهودي.
في هذه المعركة اتبع غسان جديد خطة هنيبعل في معركة كني التي شرحها الزعيم في محاضراته، بحيث سمح للقوات المهاجمة ان تخترق وسط الجبهة ليصار فيما بعد الاطباق عليها من الجوانب بعد تثبيت تقدمها في منطقة وادي عين التينة وجبل ماروس مستهدفة الوصول إلى ترشيحا ومن ثم بلدة تربيخا.
قام غسان بالهجوم المعاكس من الجناحين رغم قلة العديد والوسائل واسترجع النقاط الحساسة وثبت مواقعه وطلب من القيادة تعزيزه بسرية إضافية لتشكيل الإحتياط الضروري من أجل تحقيق تلاقي مع قوات الجيش الشامي ليصار إلى فصل هذه المنطقة الشمالية بكاملها عن باقي ميدان الحرب.
على ضوء هذه الوقائع ذهب فوزي القاوقجي إلى القصر الجمهوري لشرح الأهمية الإستراتيجية لهذه المعركة وطلب الاإدادات اللازمة لاستكمال خطة غسان جديد.
في 13 ايلول 1949 عقد اجتماع بين القاوقجي ورئيس الجمهورية جميل مردم بيك بحضور حسني الزعيم ورياض الصلح رئيس الحكومة اللبنانية.
عرض القاوقجي بشكل مستفيض أهمية المعركة وأثنى على أعمال غسان جديد طالباً الدعم لإنهاء المعركة موضحاً ان الذخائر لم تعد تكفي وانه بحاجة إلى مدافع "مورتر" وقذائف، وسرية إضافية، لتشكيل الاحتياط اللازم واتمام المهمة.
ان معرفة حضور هذا الاجتماع تفضي بالتأكيد إلى معرفة النتائج التي اسفرت عنه. بالطبع رفضت الطلبات حتى ان جميل مردم بك قال للقاوقجي "اليهود ماسكينا بالخناقة، ليش تتحركشوا فيهم، روحوا انسحبوا من ماروس". تجدر الإشارة هنا، ان جيش الإنقاذ قد أنشأ بناء على توصية انكليزية بديلاً عن الجيوش النظامية لدول الطوق، وهو ما يفسر تواجد رياض الصلح، رجل المخابرات الانكليزية، في هذا الاجتماع.
الجميع يعرف الدور الذي لعبته الحكومات العربية في ضياع فلسطين والتي تلعبه الآن لترسيخ وجود الكيان الزائل. انما ما يهمنا ان غسان جديد كان يدرك وإلى حد بعيد خطوط المؤامرة المحاكة فلم ينتظر اجوبة الحكومات، بل استكمل مهمته بتكثيف الحركات الإلتفافية في مناورته دون الاعتماد على القاعدة النارية التي لم تكن موجودة بالفعل.
هذه التجربة - الخبرة اسعفته فيما بعد لقيادة مناورة القيادة الوسطى للجيش الشامي في منطقة الكسوة بكونه رئيس اركان اللواء الرابع. هذه المناورة نالت اعجاب الملحقين العسكريين المدعوين اليها، وخاصة الملحقين الالماني والفرنسي. رغم ان غسان لم يتبع دورات عسكرية خارجية باستثناء دورة تطبيقة لسلاح المشاة في فرنسا، إلا انه بالإضافة إلى خبرته هذه اطلع على مجريات الحرب العالمية الثانية وقراءات عن القائد السوري هنيبعل.
وربما افضل ما يمكن القول عنه هو ما كتبه قائد المنطقة الوسطى. "قائد ممتاز علماً وعملاً، ثقافته العامة والعسكرية متينة جداً، سريع الخاطر، قوي الارادة، جلود، يعمل بدون كلل في مصلحة جيشه وبلاده ......" إلى ان يخلص إلى القول ....."قائد له مستقبل زاهر... مندفع عن ايمان راسخ، وعقيدة قومية ووطنية... كل ذلك يضاف إلى امكانياته الواسعة وجرأته وشجاعته."
ربما كانت هذه الكلمات لم تمدح غسان بل وصفته كما هو، انما اوغرت صدور اترابه حقداً، وأدت مع ما كان يخطط للحزب إلى اغتيال قائد قومي، ما عرف الاستكانة، بل ظل مناضلاً شرساً، حتى أدركته رصاصات الغدر في 19 شباط 1957.
غسان جديد واحد من كثيرين اغتالهم القلم الرصاص مرة بالإشاعة كما قال رفيقه بل توأم نضاله سعيد تقي الدين، ومرة بالرصاص الرصاص.
غسان جديد واحد من كثيرين، على نهج الفادي انطون سعاده استشهد قائلاً "لسورية هذا القليل" ليجسِّد البطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة.
1- هذه المحاضرة ارتكزت على عمليتين ثوريتين تدللان على جسارة واقدام غسان جديد، وعلى عمليتين في نطاق العمل العسكري النظامي تدللان على قدرته في التخطيط والتنظيم. وكنت اعتمدت في دراسة سابقة عام 1985 على خطتين هما خطة "الفداء" وخطة "النجاح" في محاولة لتبيان فكره العسكري العلمي والاستراتيجي.
2- ان ما كتب عن الشهيد غسان جديد باعتباره رمزاً حزبياً، كان بالواقع أقرب إلى السرد التاريخي الوجداني منه إلى قراءة في العلوم العسكرية، وهذا ما دفعني إلى التدقيق ببعض المصادر التي اعتمدت الذاكرة، وهي مسألة جيدة كونها حفظت وحافظت على هذا التراث، لكن هذا لا يعفينا من مقاربتها علمياً. وسأعطي مثالاً على ذلك مناورة الكسوة 1954.
أ- في هذه المناورة كان الزعيم شوكت شقير رئيساً للأركان (1953 – 1956). وبالتالي لا يعقل ان يشترك بمناورة على قاعدة التنافس مع أحد مرؤوسيه، بل بإمكانه زج ودفع لواء آخر إلى المناورة دون ان يظهر متدخلاً، علماً انه يصعب بل يستحيل هذا ان لم يكن مخططاً له.
ب- في المناورة عادة ما تكون أهداف الرمايات الحيّة من مدفعية وغيرها، أهداف رمزية بعيدة عن مراكز توضع القوى المنفذة لتجنب الإصابات البشرية. وبالتالي ظهور عناصر من لواء غسان مكشوفة لم تكن خطأ او صدفة، انما هي عنصر من عناصر التضليل لإبعاد نظر الخصم عن الأماكن المحتملة للهجوم. هذه العملية دفعت الضباط الأجانب إلى إطلاق لقب رومل عليه (التضليل هو الأسلوب الذي اعتمده الجنرال الالماني في معارك شمال افريقيا)
ج- ان المناورة هي عملية مدروسة بدقة ومحسوبة لأبعد الحدود وتهدف عادة إلى تدريب الوحدات الصغرى والأفراد المنضوين في وحدة كبرى على سلوك تلقائي DRILL كما تسعى بنفس الوقت إلى اختبار أنماط وتكتيكات جديدة للوحدة الكبرى نفسها، لوضع هذه التكتيكات موضع التنفيذ في المعارك الحقيقية. وان نجاح المناورة في هذا السياق ليس انتصاراً لقوة على قوة اخرى بقدر ما هي الوصول إلى دقة تنفيذ المخطط المرسوم بأقل عدد من الأخطاء.
جئت على هذا الشرح لأفسر مضمون كلام عدنان المالكي لشوكت شقير:
"لم نوفق مع غسان اليوم"، أي انه لم يستطع كشف أخطاء في التخطيط والتنفيذ، وهذا ما أكده قائد المنطقة الوسطى في معرض تقييمه لأداء غسان في هذه المناورة. غير انه يستدل من فحوى هذا الكلام بان نية ما مبيّته جرى الحديث عنها مسبقاً بين شقير والمالكي. قد تؤشر إلى مسألة الصراع بين غسان والمالكي على استلام رئاسة الشعبة الثالثة (شعبة العمليات والتدريب) في اركان الجيش.
ان المؤامرة على الحزب انذاك اعتمدت على هذه النقطة بالذات خلفية للتحقيق بقضية المالكي دون أي إثباتات او وقائع او حتى قرائن تطال الحزب او الشهيد غسان شخصياً.
يبقى علينا القول، ان ذكاء غسان الجديد وقدرته على التنظيم الدقيق وديناميته وتأثيره في محيطه ومعرفة كل هذه الصفات من قبل عبد الحميد السراج قد سرعت بالشروع لعملية اغتياله، فكانت الفاجعة بشخصية استثنائية بتاريخ الحزب.