كما ركّز سعاده في المحاضرات العشر ومحاضراته ومقالاته وخطبه في 1947- 1949 على شرح القضية القومية في ضوء نكبة فلسطسن الأولى, سنحاول شرح القضية القومية في هذا الطور في ضوء نتائج الغزو الصهيوني للبنان.
قال سعاده في أول آذار 1938:
"لن يكتفي اليهود بالاستيلاء على فلسطين, ففلسطين لا تكفي لإسكان ملايين اليهود.. فهم منذ اليوم يقولون: الحمدلله أننا أصبحنا نقدر أن نمارس الرياضة الشتوية على أرض إسرائيل.
يعني التزحلق على الثلج في لبنان. أيدرك الآن اللبنانيون المغرقون في لبنانيتهم ما هي الأخطار التي تهدّد الشعب اللبناني".
ماذا في 1983.. اليهود يتزلّجون على جبال الباروك بعد تزلّجهم على جبل الشيخ.
هذه الحرب الإسرائيلية علينا التي استشرف سعاده نتائجها قبل أربعين عاماً، ماذا أثبتت؟
أولاً – إن الخطة الصهيونية ماضية، كما توقع سعاده في إنجاز أهدافها، بسبب عدم انتصار الخطة القومية النظامية, المعاكسة. هذه هي الحقيقة الأساسية.
بعض المشككين اعتبر أن الغزو الإسرائيلي أطاح بالمقولة القومية, أسقط القضية القومية. لكن الذي سقط هو الوضع اللاقومي, الوضع الكياني, الوضع الطائفي, وضع تمزق المجتمع القومي وتمزق الوحدة القومية. هذا الوضع لم يثبت أمام زحف الخطة الصهيونية, وقد توقع سعاده هذه النتيجة في غياب انتصار مبادئ الخطة القومية النظامية المعاكسة. فلم تكن انتصارات العدو مفاجأة بل إن التحليل الموضوعي لسعاده أشار إلى أنه في غياب الخطة القومية النظامية المعاكسة تتقدم الخطة الصهيونية في النجاح.
ماذا كان يسود بلادنا عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان؟
1- التجزئة والتناقضات الكيانية.
2- التجزئة والتناقضات الطائفية.
إن استمرار هذا الوضع ثبت أنه وهم في الإعصار الصهيوني. لقد سقطت كل الصيغ اللاقومية اجتماعية.
ثانياً – طوال اربعين عاماً جربت محاولات الوحدة العربية في مختلف نماذجها لكن الحقيقة الأولى هي أن حزب البعث بقيادة الرئيس حافظ الاسد توصّل الى أن الوحدة السورية هي أساس التحرك العربي السليم. وحدد الرئيس الاسد فلسطين بسوريا الجنوبية, وسوريا من طوروس الى سيناء, ومارست القيادة السورية دورها القومي في التصدي لمخططات الصهيونية – الأميركية على مدى الاردن ولبنان – ضد مشروع ريغن وضد الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي.
المقاومة الفلسطينية طرحت صيغة القوات المشتركة أثناء حرب لبنان, القوات الفلسطينية اللبنانية – فرض الصراع على المستوى الشعبي نقضاً قومياً لحدود سايكس – بيكو، وهو هذا النقض الذي لم يكن يجيز من بعد الكلام عن "القرار الوطني المستقل" إزاء المصير القومي الواحد.
صحيح أن حرب لبنان 1982 ضد العدو كانت حرباً لبنانية – فلسطينية – شامية، ولكن في غياب الاستراتيجية القومية الاستراتيجية القومية الواحدة والقيادة القومية الواحدة والقرار القومي الواحد نشأت الاستراتيجيات الوطنية المتناقضة التي لم تثبت في وجه العدو الصهيوني. ويمكن القول إن نكبة فلسطين كانت بسبب غياب المحور القومي في الهلال الخصيب واستبداله بمشاعية الجامعة العربية. وهذا موضوع طروحات الزعيم، أما غزو لبنان فقد كان بسبب استبدال القرار القومي بـ"القرارات الوطنية" المتناقضة فضلاً عن غياب الجبهة العربية المعادية للاستعمار التي دعا اليها الحزب السوري القومي الاجتماعي في صلب غايته.
ثالثاً – وعلى المستوى العربي أصبحت وحدة المغرب العربي هي شعار المرحلة، كما تمّ التكامل بين مصر والسودان وقام مجلس التعاون الخليجي في العربة. وحدة الهلال الخصيب هي التي يعرقل العدو الصهيوني الامبريالي قيامها ويقاومه، لأن قيامها يشكل الضربة القاصمة للوجود الصهيوني والمخططات الاستعمارية.
هذه هي الحقيقة المفروض التركيز عليها.
رابعاً – جبهة الخلاص الوطني اللبنانية تتخذ من دمشق مركز انطلاقها. وهذا لم يضرّها لبنانياً لأنها تقف على أرض شعبية لبنانية صلبة.
هذه نقطة هامة في التماسك القومي الذي تفرضه وقائع الحياة وتشابك المصير القومي.
في مواجهة العدو الصهيوني ضاق الخيار, فالصراع صراع قومي في الأساس وإزاء ارتهان أعداء القضية القومية للعدو كان لا بد لكل وطني شريف أن لا يجد عن العمق القومي بديلاً, هكذا حقائق الحياة والمصير تفرض نفسها.
خامساً – تحت وطأة الغزو الصهيوني ثبت أن مفهوم استقلال لبنان خارج الارتباط بالمصير القومي يوصل الى الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي, وهذا هو المفهوم الانعزالي للاستقلال, وتصبح إسرائيل هي الحليف والشام هي العدو.
كما أن استقلال فلسطين خارج الارتباط بالمصير القومي يوصل الى التسوية مع العدو عبر مشروع ريغن.
الصراع ضد العدو هو صراع قومي.
النضال الوطني هو صيغة نضالية ضرورية إنما مرتبطة بالمصير القومي.
إن أبرز استهدافات الغزو الصهيوني للبنان هو إسقاط القضية القومية أو المقولة القومية وتكريس الفصل بين كيانات الأمة بحيث تتكرس تعددية "قضاياها" المنفصلة الواحدة عن الأخرى بل المتناقضة إحداهما عن الأخرى, فتقوم "قضية لبنانية" لا حلّ لها الا بالتناقض مع "القضية الفلسطينية" وتقوم "قضية فلسطينية" لا حلّ لها إلا بالتناقض مع "القضية الشامية" فتنقل نتائج سايكس – بيكو من الانفصال الى التناقض وتسقط أبسط درجات التنسيق بين هذه الكيانات ليصبح السلم مع العدو الإسرائيلي هو المطروح على قاعدة التناقض بين الكيانات، ومن التناقض بين الكيانات الى التناقض في الكيان الواحد بين الطوائف والفئات فتصبح الحرب الأهلية بديلاً عن الحرب القومية ضد العدو.
وبينما يجري المخطط المعادي على أساس التفتيت في قضيتنا الواحدة الى مجموعات من القضايا المتناقضة فإنه يربطها كلها من زاويته بقضية واحدة "حل أزمة الشرق الأوسط".
لذلك مفروض أن نواجه خططه هذه بوحدة قضيتنا مهما اقتضى التكتيك من أشكال النضال.
تحت وطأة الغزو الصهيوني ارتفع شعار "جلاء جميع القوات الأجنبية" والمساواة بين قوات العدو والقوات الشامية والفلسطينية. هذه نتائج النظرة الكيانية التي تغلغلت حتى الى بعض الأوساط الوطنية.
بالصمود تبدلت المفاهيم, وأصبحت معارضة الاتفاق مع العدو ترتكز على صمود الشام.
سادساً – ظهر مخطط العدو في الرمال اللبنانية المتحركة على أنه يراهن اولاً واساساً على التناقضات الطائفية لتطبيع علاقاته بالطوائف, وهي خطة صهيونية منذ مراسلات بن غوريون – شاريت – ساسون 1945.
وقبل ذلك كما كشفت وثائق صهيونية رسمية نشرت مؤخراً منذ 1948 قامت علاقة العدو بحزب الكتائب وخطط لمشروع كسب "يهود الداخل ليهود الخارج" وهذا ما كشفه سعاده منذ 1948 في مقالاته وخطبه.
وظهر أن الطائفية تصبح سلاحاً ماضياً في يد المؤامرة, وأخطر ظاهرة هي أن تصبح "مصالح الطائفة بديلاً عن مصالح الأمة في العلاقات الخارجية فتبرر الخيانة القومية بالمصلحة الطائفية ويصبح مفهوم الولاء الطائفي نقيضاً للولاء القومي وبديلاً عنه في الداخل والعلاقات الخارجية".
فإذا كان العدو يعرض استسلام مصر في كامب ديفيد فهو يعرض فناء وزوال مجتمعنا زوالاً كلياً, كحلّ وحيد لتنازع البقاء والوجود على أرضنا, بين مشروع استيطانه واقتلاعنا من وطننا باقتلاع مواطنينا من مجتمعهم في رهانه على التمزق الطائفي لإقامة نظام الدويلات الطائفية الدائرة في فلكه.
فتصبح إسرائيل الدولة الكبرى بتوسّعها ويصبح مجتمعنا ممزقاً إلى مجموعة دويلات طائفية تدور في فلك "إسرائيل الكبرى".
إن تنفيذ المخطط الصهيوني هو في قيام حكم طائفي متطرف (الكتائبي) يؤدي اضطهاده لباقي الطوائف الى تفجير الوضع الطائفي تفجيراً عاماً. إن شعار 10542 كيلومتراً الذي رفعه الحكم الكتائبي يتحدّث عن الهيمنة على الأرض اما الشعب وحدة الشعب, فلا وجود له في هذه المعادلة التي تقوم على القهر الطائفي الفاشي لباقي المواطنين. المطلوب السيطرة على الأرض من دون الشعب.
إن نتيجة هذا المخطط كانت استقطاباً طائفياً مضاداً للمشروع الكتائبي الطائفي القمعي. وحسمت معارك كثيرة ضد المشروع الكتائبي انطلاقاً من هذا الاستقطاب الطائفي المضاد الذي اتخذ الخانة الوطنية في الصراع – هكذا انتقض الشيعة في بيروت وضاحيتها بقيادة أمل والدروز بقيادة الحزب التقدمي الاشتراكي في الجبل وحركة التوحيد الإسلامي في طرابلس وفيما كان المشروع الكتائبي يخطط لحكم عشرات السنين من الهيمنة بدأ بانقضاء السنة الأولى من حكمه يهتز ويترنح تحت ضربات القوى المتآلبة ضده وضد ظلمه وبطشه الطائفي.
إن المشروع الكتائبي الطائفي مثل حكاية لحس المبرد القصيرة النظر, لينتحر وينحر معه المسيحيين الذين ادعى حمايتهم، فجلب عليهم الويل قبل غيرهم بردات الفعل الطائفية.
إن المشروع الصهيوني فشل في استقطاب الطوائف الأخرى التي وجدت في حلفه مع الكتائب الحافز الوطني لمقاومة المشروع الصهيوني – الكتائبي.
إن كسب الوطن للمجموعات الطائفية هو كسب هام، لكن قضية الوطن هي قومية لا طائفية. وهذا هو المعبر التاريخي الصعب بين قتال المجموعات الطائفية الوطني وبين عبورها الى الموقع القومي اللاطائفي.
إن أهم خلاصة لأحداث لبنان ونتائج الغزو الصهيوني ورهانه على المقولة الطائفية هو تأكيد مصداقية وصوابية المقولة القومية الاجتماعية بوجوب تنزيه الولاء القومي عن اختلاطات الطائفية وإرساء القضية القومية على مضمون علماني جذري.
إن مفهوم الأكثرية والأقلية الطائفية مسؤول عن الكارثة.
وهو ما لم يلحظه الفكر المادي التقدّمي الأحادي البعد حين اعتبر كل المشكلة الاجتماعية في التناقضات الطبقية. فالانعزالية الطائفية ظهرت كسلاح في يد الصهيونية لإفناء مجتمعنا بتمزيقه حتى النزف الأخير.
وهنا تظهر خطورة خطة الحزب القومية النظامية المعاكسة للخطة الصهيونية في بناء المجتمع القومي الواحد, في القضاء على التمزيق الطائفي, في إسقاط سلاح المؤامرة, في صهر المسيحيين والمحمديين والدروز في بوتقة قومية اجتماعية واحدة.
سابعاً – كل ادعاءات العدو أنه يريد من حربه إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان من دون المس بلبنان أظهرت الممارسة سقوطه وأن العدو طامع بلبنان أرضاً ومياهاً ومتآمر على وحدة شعبه وارضه وسيادته كما اكد الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي الذي قوّض سيادة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. وظهر لأكثرية اللبنانيين بعد أربعين عاماً أن الخطر الحقيقي على لبنان هو الخطر الصهيوني، كما حذر سعاده بأنه ليس خطراً على فلسطين فحسب، بل على لبنان في الصميم، كما هو خطر على الشام في الصميم، كما هو خطر على فلسطين في الصميم.
إن خطر التطبيع مع العدو الصهيوني هو خطر على حياة اللبنانيين, اقتصادهم, زراعتهم, صناعتهم, تجارتهم ومركزهم المالي.
ثامناً – إن أبرز نتائج غزو لبنان هو ان العدو واجه خلال سنة من احتلاله مقاومة وطنية مسلحة ورفضاً شعبياً متنامياً، وبالتالي إن شعبنا لم ينهزم وإن محاولة التطبيع مع الطوائف واجهها رفض شعبي ومقاومة مسلحة فلم يستطع المخطط الصهيوني أن يمرّ بكل حساباته وتقديراته.
وهذه نقطة سنبحثها مطولاً في درس لاحق:
المقاومة الفلسطينية المسلحة للعدو ومقولاتها.