أنطون سعاده 1904-1949:
زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه, ومؤلف العديد من الكتب والأبحاث الاجتماعية والفلسفية والفكرية والسياسية والأدبية ومؤسس صحف عدة في الوطن والمهجر وصاحب نظرة فلسفية الى الحياة والكون والفن وعقيدة قومية اجتماعية مميزة.
نشأته:
ولد أنطون سعاده في الشوير – قضاء المتن – جبل لبنان, في أول آذار سنة 1904, من أبويين شويريين لبنانيين. والده هو الدكتور خليل سعاده, وكان طبيباً وعالماً وأديباً, ومن أبرز القادة الوطنيين في المغترب اللبناني في البرازيل, وقد أسس جمعيات وأحزاباً مهجرية وطنية وقومية عدة, كما أنشأ صحفيتي "المجلة" و"الجريدة" في سان بولو – البرازيل.
تلقى أنطون خليل سعاده دروسه الابتدائية في مدرسة الشوير وأكمل دروسه الثانوية في معهد الفرير في القاهرة حيث كان والده قد التجأ, ثم في مدرسة برمانا – جبل لبنان, حيث رفض في الحملة السنوية الرسمية أن يحمل العلم العثماني بوصفه رمزاً للاحتلال الأجنبي.
ترك البلاد في أواخر 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى, وبعد أن شهد بنفسه آثار المجاعة إبّان الحرب في جبل لبنان. غادر الوطن الى الولايات المتحدة الاميركية. وفي شباط 1921 انتقل الى البرازيل حيث أسهم مع والده الدكتور خليل سعاده في تحرير جريدة "الجريدة" ومجلة "المجلة".
لم يُكمل سعاده دروسه الجامعية، ولكنه درس على نفسه حتى أصبح يتقن العربية والإنكليزية والفرنسية والاسبانية والبرتغالية والالمانية والروسية, مما أفسح له من خلال مطالعاته بهذه اللغات الحية أن يكمل على نفسه التعمّق في العلم والفكر الإنساني في اختصاصات عدة شملت التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية والانتربولوجية والأدب, الأمر الذي ظهرت آثاره اطلاعاً واسعاً وإسناداً الى المراجع العلمية الوافرة في ما كتب وألّف.
كان سعاده يمتلك عقلاً تحليلياً مميزاً, وقدرة إبداعية متفوقة تجلت في الغزير من آثاره والجديد من أفكاره.
أسس في البرازيل سنة 1924 جمعية سرية للعمل في تحرير الوطن من الانتداب وانخرط في جمعيات عدة لهذا الغرض، ولكنه وجد ان النضال الفعلي انما هو الذي ينطلق من الوطن لا من المهجر, لذلك عاد الى الوطن في تموز 1930 وكتب قصة "فاجعة حب" سنة 1931, فطبعت مع قصيدة "عيد سيدة صيديانا" في كتاب واحد للمرة الأولى في بيروت 1933.
تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي:
انتقل الى دمشق سنة 1931 حيث اشترك في تحرير "الايام" الدمشقية. وعاد الى بيروت سنة 1932 وهو عازم على إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي مفضلاً الشروع في الوسط الملائم الذي هو وسط الطلاب, وبالتخصيص حيث كانت اللغة الالمانية مقررة لطلاب الجامعة الاميركية. وفي 16 تشرين الثاني 1932 أسس سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي من خمسة طلاب في الجامعة الاميركية, ثم ومن هذا الوسط, انتشرت دعوته الى المناطق بحيث انتظم ألف عضو في غضون سنة واحدة من العمل السري. وقد انكشف أمر الحزب في 16 تشرين الثاني 1935 من سلطات الانتداب الفرنسي فاعتقل سعاده وعدد من معاونيه وصدرت بحقهم أحكام مختلفة أقصاها الحكم على سعاده مدة ستة أشهر بموجب القرار 115 ل. الذي حظر تأسيس الجمعيات والأحزاب في ظل سلطات الانتداب.
يقول سعاده في رسالته الموجهة من السجن في 15 كانون الاول 1935 الى محاميه الاستاذ حميد فرنجية "في ما دفعني الى إنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي", "كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914, ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك وكان اول ما تبادر الى ذهني وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت ما شعرت وذقت ما ذقت بما مُني به شعبي, هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذ الويل؟ ومنذ وضعت الحرب اوزارها اخذت ابحث عن جواب لهذا السؤال, وحل للمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق الى ضيق فلا تنقذه من دب الا لتوقعه في جب. وكان ان سافرت في اوائل 1920 وقد بعثت الأحقاد المذهبية من مراقدها, والأمة لما تدفن أشلاءها, اما الحال في المهجر فلم تكن أحسن إلا قليلاً".
هذه صورة عن حالة امتنا في تلك المرحلة انطبعت في ذهن سعاده ووجدانه وهو يعود الى المهجر لتظهر في كتاباته الأولى في 1921 في مجلة "المجلة" وجريدة "الجريدة" المهجريتين وفيهما المخاض بالقضية التي سينشئ والحزب المصارع الذي سيؤسس.
فقد عاد الى المهجر حيث أهله بعد أن عانى ما عانى, كما ذكر, وشاهد ما شاهد في الوطن الجريح الممزق الحزبيات المذهبية, الوطن الذي ينهض من كارثة ليواجه كارثة, ينحسر عنه الاستعباد العثماني فيتلقفه الاستعماران الفرنسي والبريطاني بمدية التجزئة في سايكس – بيكو كي يوطّد عبر وعد بلفور موطأ قدم للاستيطان الاستعماري العنصري الصهيوني في فلسطين, لقد شهد سعاده ذلك كله ويشهد معه المؤتمر السوري الكبير في دمشق في 1919- 1920 وهو يعلن وحدة البلاد السورية فتدوسه سنابك الخيول الفرنسية الزاحفة في معركة ميسلون المشرفة التي تنتهي بغلبة جيش الاستعمار وامتداد قبضة الجنرال غورو على شمال سوريا, ويشهد سقوط فلسطين عبر الانتداب البريطاني المكرّس لسياسة وعد بلفور في قبضة المخططات الصهيونية.
كل تلك المعاناة القومية تبرز في كتابات سعاده الأولى 1921 الى 1925 في الصحف المهجرية وهي فترة المخاض بالحزب وفكرة تأسيسه.
لقد شهد سعاده وهو بعد فتى في الوطن إبان الحرب العالمية الأولى كيف مات شعبه جوعاً من دون ان يقاتل ومصيره يتقرر بدون إرادته. في تلك المرحلة كتب جبران خليل جبران "مات أهلي" نادباً شعبه ومصيره. ولكن سعاده وقد شاهد كيف مات أهله ومات شعبه جوعاً يختزن في نفسه بوادر الثورة والتغير, فبدل ندب الأطلال يتجه اتجاه الثورة لتغير الأحوال وحلّ "المعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق الى ضيق". وهذا هو الفاصل بين الزعيم القائد الذي يكتنز مرحلة تاريخية في نفسه فيضع أسس التغيير والشاعر والأديب الذي تنبض في نفسه الآلام فتفيض أدباً شفافاً.
استشراف سعاده للخطر الصهيوني:
ولقد كان استشراق سعاده المبكر للخطر الصهيوني على كامل وجودنا ومصيرنا القوميين منذ مطلع العشرينيات باعثاً أساسياً على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ففي شباط 1925 يكتب سعاده في مجلة "المجلة" أن "الحركة الصهيونية تقوم على خطة نظامية دقيقة إذا لم تقم في وجهها حركة نظامية أخرى معاكسة لها كان نصيبها النجاح ولا يكون ذلك غريباً بقدر ما يكون تخاذل السوريين كذلك إذا تركوا الصهيونيين ينفذون مآربهم ويملكون فلسطين. إننا نواجه الآن اعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا". وانصرف منذ ذلك الحين فكر سعاده الى كيفية وضع خطة التصدي النظامية الدقيقة المعاكسة للصهيونية التي تهدد مصيرنا القومي كله. وفي مقالات "سوريا تجاه بلفور" و"الجنسيات" يوضح سعاده انه لما كانت الحركة الصهيونية متجهة الى تهديد المصير القومي كله, فمحاربة الحركة الصهيونية لا يجب ان يقتصر على فلسطين التي هي جزء من سوريا بل يجب ان يتناول سوريا كلها التي يجب ان لا يحول دون تضامنها الفعلي لحفظ كيانها ونيل استقلالها التام التقسيم السياسي الذي وضعه سياسيو أوروبا وفقاً لأغراض ومقاصد دولهم التي اخفتها تحت اسماء الوصاية والانتداب.. فسعاده أدرك ان التصدي يجب أن يكون على قاعدتها القومية في البيئة القومية في كل محيط فلسطين الطبيعي, في سوريا الطبيعية التي مزقتها اتفاقات الاستعمار الاوروبي.
سعاده في مواجهة محكمة الانتداب 1936:
إن المعادلة الثورية القومية الضامنة إحباط مخططات الصهيونية والاستعمار في تلك التي تستطيع أن تتصدى لعوامل التجزئة السياسية وعوامل التناقض والتفكك الداخليين, لذلك كان الحزب السوري القومي الاجتماعي حزب الوحدة القومية الاجتماعية, يعلن في مبادئه الاساسية الهوية القومية الواحدة لسوريا الطبيعية ومجتمعها القومي ويولد الهوية القومية الواحدة المتصدية لسياسة الاستعمار والصهيونية. ولقد برز ذلك جلياً في المحاكمة الأولى التاريخية في 1935 حين وقف سعاده يتحدى قضاء الانتداب الفرنسي بقوله "أنا متّهم بخرق وحدة البلاد وانتهاك حرمة الأرض. فأراني مضطراً علمياً لا بالعاطفة للقول إن خرق وحدة وطننا القومية وانتهاك حرمة أرضنا قد تم بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان والمسؤولون عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي الاجتماعي".
لقد تحوّل سعاده من مدّعى عليه في محكمة استعمارية إلى ممثل للحق القومي يوجه هذا الاتهام لمعاهدات الاستعمار التي جزأت بلاده. وولّد صوته، صوت القضية القومية الواحدة، تياراً داخل الحزب وخارجه قوياً كما انتصرت في الامتحان الأول إرادة المجابهة على كل إرادة أخرى، انتصرت مجدداً.. لقد حكمت عليه المحكمة الفرنسية التي مثل أمامها بالسجن ستة أشهر.
في سجنه الأول وضع "نشوء الأمم":
أول كتاب في علم الاجتماع الحديث
وظف سعاده فترة السجن في عمله الإنشائي القومي فانكبّ على تأليف كتابه العلمي "نشوء الأمم" وهو في رأي الدارسين أول كتاب في علم الاجتماع باللغة العربية في العصر الحديث، والإنجاز الثاني بعد مقدمة ابن خلدون في هذا المجال.
وفي "نشوء الأمم" الذي ينقسم إلى سبعة فصول: "نشوء النوع البشري"، فـ"السلائل البشرية"، فـ"الأرض وجغرافيتها"، فـ"الاجتماع البشري"، فـ"المجتمع وتطوره"، فـ"نشوء الدولة وتطورها"، فـ"الأثم الكنعاني"، يدرس سعاده "كيفية نشوء الأمم وتعريف الأمة"، مرسياً هذا البحث كله لا على النظريات السياسية المجردة كما كان في مدارس الفكر الأوروبي الكلاسيكي بل على علم الاجتماع، فالأمة هي المتحد الأتم Community في سلم المتحدات البشرية وهي كذلك لأنها تمثل "الاتحاد في الحياة" عبر "الدورة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة" الناشئة عن عملية التفاعل بين الإنسان والأرض عبر التاريخ.
وعلى هذا الأساس: "فالأمة متحد اجتماعي أو مجتمع طبيعي من الناس قبل كل شيء آخر". وخلافاً لكل المدارس الكلاسيكية في الفكر القومي، لا يخوض سعاده جدل الأوصاف والصفات والعوامل بالتجريد، بحيث يدور الخلاف حول هذا العامل او المجموعة من العوامل في نشوء الأمم بل بروز كل العوامل في ضوء قانون التفاعل الناشئ عن ارتباط "جماعة من الناس... بالبقعة الطبيعية الواحدة من الأرض".
في سجنه الثاني والثالث وضع كتاب
"شروح المبادئ" و"نشوء الأمة السورية"
خرج من سجنه الأول ليعود ثانية في أواخر حزيران 1936، وأثناء فترة سجنه وضع كتاب شرح مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي.
وفي أوائل تشرين الثاني خرج سعاده من السجن ليعود إليه للمرة الثالثة في أوائل آذار 1936، وفي هذه الفترة كتب كتاب "نشوء الأمة السورية". لكن سلطات الانتداب الفرنسي صادرت أوراق هذا الكتاب ولم تُعِدْها إليه. وهي لا زالت مفقودة حتى الآن.
خرج سعاده من سجنه الثالث في أواخر أيار 1937، فأسس جريدة "النهضة" في تشرين الثاني التي صدرت لعام واحد، كما تابع قيادته للحزب.
القائد سعيد العاص أول شهيد في ثورة فلسطين 1936:
في 1936، شارك القوميون الاجتماعيون في ثورة فلسطين وكان في مقدّمتهم القائد سعيد العاص الذي استشهد في تلك الثورة بعد إبلائه البلاء المميز في القتال، كما استشهد غيره من القوميين الاجتماعيين من رفقاء لبنان والشام وفلسطين.
وفي 1937، ندد سعاده بسياسة سلخ الاسكندرون عن سوريا ودعا إلى الدفاع عنه بجيش سوري. وفي 14 تموز 1937، وجه مذكرته باسم الحزب إلى عصبة الأمم رداً على تقرير بعثة اللورد بيل رافضاً تقسيم فلسطين ومحذراً من خطر قيام كيان صهيوني على جزء منها. وكانت من أولى المذكرات الحقوقية في الدفاع عن فلسطين. وعلى مبادئها ركّز فارس الخوري، مندوب سوريا في الأمم المتحدة، مذكّراته في تسفيه الادعاءات الصهيونية العام 1947.
الصدام مع الانتداب يزيد الحزب قوة وانتشاراً:
في 1937 – 1938، انتشر الحزب السوري القومي الاجتماعي انتشاراً واسعاً في مختلف المناطق اللبنانية والشامية والفلسطينية وبعد الانتخابات اللبنانية في 1937، جرت انتخابات في اللاذقية فخاضها الحزب وفازت جبهته في منطقة تلكلخ – الحصن، أما في لبنان فخاض الحزب معركة المواطن السياسية والحريات الشعبية والفكرية والسياسية في وجه نظام الانتداب. وقد وجه الزعيم بياناً مشهوراً بهذا الصدد في آذار 1937، على أثر الصدام الدامي بين القوميين الاجتماعيين وقوى السلطة في ذلك اليوم المشهور بيوم بكفيا وجاء فيه: "إذا كان للبنان كيان فهو كيان الشعب اللبناني كله إلا إذا كانت الطبقة الحاكمة في لبنان تعتبر أنها هي لبنان وأن الشعب ليس سوى الجماعة المحكومة، فلنا الشرف أن نعلن أن من أهم اهداف الحزب السوري القومي الاجتماعي إزالة هذه الصورة السيئة لحياتنا القومية صورة الحاكم والمحكوم، والقضاء على الامتيازات المدنية في الدولة".
سعاده ينشر الحزب في المغتربات:
في 1938، غادر سعاده البلاد إلى أميركا اللاتينية في جولة بواعثها:
أ- اهتمامه بتنظيم المغتربات، وهو الذي نشأ وترعرع فيها، فقد بدأ مخاضه بالتفكير بالحزب وهو في البرازيل يكتب في الصحف المهجرية، لذلك تميّز الحزب القومي الاجتماعي بقيادة سعاده باهتمام خاص بالمغتربات التي أنشأ فيها فروعاً قومية كفروعه في الوطن شملت كل القارات التي تنزل فيها جاليات سورية من مختلف كيانات الأمة.
ب- ما ورد في إحدى رسائله ان القصد في الجولة تأمين مصدر تموين ثابت للحزب من فروعه في المغترب، وكان الرقم الذي ذكره في رسالته هو 1500 ليرة شهرياً.
ت- وفي البرازيل اعتقل سعاده لمدة شهرين بوشاية من قبل عملاء الاستعمار تبين بطلانها. ثم انتقل بعد تأسيسه جريدة "سوريا الجديدة" إلى الارجنتين، حيث داهمته الحرب العالمية الثانية العام 1939 فبقي حتى العام 1947. وخلال الاغتراب القسري أسس سعاده جريدة "الزوبعة" في الأرجنتين التي حملت صوت الحزب في المغترب وكان يحرّرها وينضد حروفها ويوزعها بنفسه، كما ألّف "الصراع الفكري في الأدب السوري"، وقد طبع الطبعة الأولى في بوانس ايريس، وفيه نظرات في الأدب والفلسفة الاجتماعية.
ث- وكان أهم سلسلة دراسات ظهرت بقلمه في "الزوبعة" ما تمّ جمعه في الوطن لاحقاً في كتابيه "الإسلام في رسالتيه" و"جنون الخلود"، ويشكل الكتاب الأول اول دراسة من نوعها في مقارنة الأديان وصولاً عبر درس الدين كظاهرة اجتماعية إلى تأكيد الوحدة الروحية للأمة السورية في الإسلام الموحّد في رسالتيه المسيحية والمحمدية. أما الكتاب الثاني فيتناول بالنقد الشديد أدب عصر الانحطاط ودغدغة الغرائز. كما يضع مقاييس وقواعد للأدب القومي الصحيح بعد قيام النهضة والتي كانت تباشيرها قد بدأت تطل على العالم العربي في الأربعينيات.
ولقد كان لوجود سعاده في المغترب الأميركي أثر كبير في قيام تنظيم المغتربات القومية الاجتماعية وبلغت رسائله إلى المغتربين من رجال الحزب وأصدقائهم المئات وقد جمع عدد منها في أجزاء من آثاره الكاملة وفيها مناقشات وتوجيهات وتحليلات فكرية وتنظيمية وأدبية وسياسية ومناقبية.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وانهيار العقائد والأنظمة العالمية وتصادمها كان سعاده يُطل على عالم الغد بنظرة جديدة غير النظرة المادية الأحادية وغير النظرة الروحية الأحادية، وقد وصف نظرته الجديدة بالمدرحية او بالمادية الروحية، وهي نظرة إلى الاجتماع والتاريخ وتفسيرهما وتطورهما لا علاقة له بالماورائيات التي أكد الحزب بالنسبة إليها احترامه للمعتقدات الفردية فيها.
سعاده رائد سياسة عدم الانحياز:
إبان الحرب العالمية الثانية رفض سعاده مبدأ الانحياز أو التبعية لأي محور أجنبي مؤكداً مبدأ الاستقلالية القومية ومنفتحاً على العلاقات الدولية من زاوية تأمين المصلحة القومية العليا وحقنا في الحياة والسيادة.
ولهذا الموقف جذوره التاريخية في فكر سعاده وموقفه.
ففي خطابه المنهجي الأول بعد تأسيس الحزب في أول حزيران 1935- قبل انكشاف أمر الحزب من السلطات ببضعة أشهر قال متوجهاً إلى القوميين الاجتماعيين في اول مؤتمر إداري حزبي لمسؤوليهم: "إننا نشعر الآن بوجود دعاوة إيطالية قوية في هذه البلاد خصوصاً وفي الشرق الأدنى عموماً. وكذلك نشعر بمثل هذه الدعاوة من جهة ألمانيا وبمثل ذلك من دول أخرى.
إن زعامة الحزب السوري القومي الاجتماعي تحذر جميع الأعضاء من الوقوع فريسة الدعاوات الأجنبية. إننا نعترف بأن هناك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بين سوريا والدول الأجنبية وخصوصاً الأوروبية ولكننا لا نعترف بمبدأ الدعاوة الأجنبية".
وعلى هذا الأساس نجده بعد وصوله إلى اميركا الجنوبية، آتياً من روما وبرلين، وقد اندلعت الحرب العالمية الثانية التي حالت دون عودته إلى الوطن، يوجه رسالة إلى أسرة تحرير جريدة "سورية الجديدة" التي أسسها في سان باولو يقول فيها:
1- إن سياسة الحزب السوري القومي الاجتماعي هي سياسة سورية قومية مستقلة غير مختلطة مع أية سياسة أجنبية، كما هو مبين ومشروح في مبادئ الحزب وخطب الزعيم ومقالاته.
ولذلك فإن سياسة "سورية الجديدة" ينبغي ألا تخرج عن التوجيهات الرسمية.
2- إن سياسة الحزب السوري القومي ليست فاشية.
3- إن سياسة الحزب السوري القومي ليست نازية.
4- إن سياسة الحزب السوري القومي ليست "ديمقراطية".
5- إن سياسة الحزب السوري القومي ليست شيوعية او بلشفية.
6- إن سياسة الحزب السوري القومي هي سياسة سورية قومية لا تخضع لغير المبدأ من مبادئه الأساسية القائل:
"مصلحة سوريا فوق كل مصلحة" (10 نوفمبر 1939) (الآثار الكاملة لسعاده – الرسائل – الجزء الأول، ص. 105).
إن هذه الرسائل صدرت بعد انتصارات المحور الأولى في أوروبا واكتساح الجيش الألماني بولونيا والنمسا ودول البلطيق وفي عز الانتصارات الألمانية. وفي هذا دليل مادي وتاريخي على الموقف القومي المستقل الذي انتهجه سعاده منذ ذلك الزمن المبكر. فرغم حملته القومية على الانتداب الفرنسي والبريطاني إلا أنه رفض الإنحياز للمحور والتوهم أن في انتصاره انتصاراً لقضيتنا القومية.
وهو يقول في رسالته المشار إليها أعلاه ما يلي إيضاحاً لهذا النهج في الاستقلالية القومية وإعلان المصلحة: "موقف الحزب السياسي من محور روما – برلين ينبغي أن يُقصد منه، بالدرجة الأولى، توليد ضغط كافٍ على فرنسا وبريطايا ليجعلهما تغيّران موقفهما السلبي من سوريا ونهضتها القومية، ولا يجوز أن يُقصد منه الثقة بسياسة المحور المذكور". ويتابع رسالته موصياً:
"أن تكون الحملة على فرنسا وبريطانيا مستمدة من وجهة نظر السياسة السورية القومية لا من وجهة نظر التضارب العقائدي أو النظري بين الجبهتين الكلية والديمقراطية".
وجاء أيضاً في رسالته التوجيهية إلى يوسف الغريب المؤرخة في 6 يوليو 1941:
1- التشديد على أن الحركة السورية القومية لها مستقبل وأنها الوحيدة المعبرة عن مطامح الشعب السوري.
2- أن الدول التي تزعم أنها تريد استقلال سوريا ليس لها غير التفاهم مع إدارة هذه الحركة.
3- إن زمن اعتماد السوريين على مجرد التصريحات من أية جهة كانت قد مضى، وأن الطريق الوحيد لإيجاد صلات ثابتة مع سوريا هو الذي أعلنه الزعيم في خطابه
في 1 يونيو 1935، وفي تصريحه "للجريدة السورية اللبنانية" في الأرجنتين.
4- من الوجهة السياسية الحركة السورية القومية تحارب كل محاولة، أياً كان مصدرها، لسلب الأمة السورية حق سيادتها.
وهي في الحرب الحاضرة على الحياد لأنها لم تحصل على ضمانات، لا من هذا الفريق ولا من ذاك، لسيادتها القومية وحقوقها.
هذه الاستقلالية الفكرية العقائدية تجعل سعاده رائداً في سياسة عدم الانحياز، لأنه في تقييمه للاستعمار لا يميّز بين دوله.
وهو يعتبر أنه "لو كان تم الانتصار لألمانيا في الحرب التي مضت كنا رأينا تكتيك التسلط على الجماعات القومية بأجمل وأقوى وأروع وأقبح صورة يمكن أن ترسم لها. أن اتجاه ألمانيا هو ان تكون هي المركز الصناعي الأكبر الذي تحيط به مراكز زراعية محض تحرم باتفاقات انترنسيونية من حق إنتاج صناعي ثقيل، وأن تنصرف للزراعة بآلات ألمانية تعطيها بدلها المحصولات الزراعية". (المحاضرات العشر، ص. 147). وهذه نظرة واضحة للأمبريالية لا تميزها عن الأمبريالية البريطانية والفرنسية التي كانت تتقاسم بلادنا.
لذلك بقي القوميون الاجتماعيون إبان الحرب العالمية الثانية في السجون حتى بعد تسلّم الجنرال دانيتز مقاليد الأمور في سوريا ولبنان ووجود البعثة الألمانية المشرفة على سلطات فيشي في بيروت. وكانت محاكم الاستعمار الفرنسي قد اصدرت إبان الحرب العالمية الثانية أحكامها بالسجن على قيادات الحزب وعدد من أعضائه وتراوحت الأحكام بين العشر والعشرين سنة ومثلها بالنفي. وقد نال سعاده غيابياً أقسى هذه الأحكام، عشرين سنة سجناً، وعشرين سنة نفياً.
الحزب يخوض معركة الاستقلال في لبنان والشام:
وبين 1943 و1945 شهد لبنان والشام انتفاضة شعبية من أجل الاستقلال، كان القوميون الاجتماعيون طليعتها. سقط منهم شهيد الاستقلال الوحيد في لبنان سعيد فخر الدين في معركة بشامون ضد الدبابات الفرنسية. كما رفع عسكريون قوميون اجتماعيون كغسان جديد وميشال الديك وسواهما الأعلام السورية فوق دور الحكومة في حمص وتلكلخ ودرعا والرقة متحدين سلطات الانتداب الفرنسي.
وكانت سلطات الانتداب قد اعتقلت العشرات من القوميين الاجتماعيين نتيجة مواقفهم الصلبة والمتصدية لسياسة الانتداب وكان لبعض المعتقلين في قلعة راشيا دور مميز أثناء اعتقال رئيس الجمهورية اللبنانية وأفراد من حكومته في 11 تشرين الثاني لجهة تصليب موقف رجالات الحكم من الانتداب.
عودة سعاده الى الوطن "العودة إلى ساحة الجهاد"
ويعود سعاده الى الوطن بعد اغتراب قسري دام تسع سنوات منع سلطات الانتداب الفرنسي له من العودة الى ساحة الوطن خوفاً من دوره ومواقفه من الاستعمار المعروفة.
وفي طريق العودة قابله في القاهرة نعمة ثابت رئيس المجلس الأعلى آنذاك وعدد من قياديي الحزب ليضعوه في صورة ما اعتبروه "تطوّرات جديدة" وكان الحزب بقيادة نعمة ثابت قد انحرف عن فكر سعاده القومي الوحدوي الداعي للوحدة القومية متخذاً من الواقع اللبناني الجديد حيزاً لعمله دون سائر كيانات الأمة السورية مسلّماً بواقع التجزئة الكيانية التي فرضها الاستعمار في معاهدة سايكس – بيكو ومنحرفاً عن نهج الحزب الثوري التغييري.
لكن الرد على كلام المتراجعين كان خطاب سعاده في الجماهير الشعبية والصفوف الحزبية التي استقبلته عند عودته في 2 آذار 1947: "كلمتي إليكم أيها القوميون الاجتماعيون العودة الى ساحة الجهاد". بهذا اختتم سعاده خطاب العودة, بعد أن ثبّت من جديد هوية الحزب القومية رافضاً تدجين الحزب او احتواءه من قبل النظام الكياني اللبناني.
وفي إيضاحه لموقف الحزب من الكيان اللبناني قال: "ماذا يريد اللبنانيون من كيانهم بأن يكون فيه النور وأن يكون مترابطاً بالظلمة؟ فإذا كان في لبنان نور فحق هذا النور أن يمتد في سوريا كلها". ووصف الحالة التي يمر بها لبنان والأمة, أي حالة الاستقلالات الكيانية, على انها خروج من القواويش, من الحبوس داخل البناية ولكن الأمة لم تزل ضمن السور الكبير. ومن بعدها فتح سعاده معركة تطهير الحزب من المنحرفين فطرد نعمة ثابت رئيس الحزب وغيره.
وعلى أثر خطاب العودة الذي حدد فيه موقف الحزب المتصدي أصدرت الحكومة اللبنانية مذكرة توقيف بحق سعاده فاعتصم في المناطق القومية الاجتماعية في جبال لبنان مدة سبعة أشهر حتى تم سحب المذكرة.
وبالرغم من مذكرة التوقيف والملاحقات المتتالية خاض سعاده المعارك على كل صعيد: أدان التزوير لإرادة الشعب اللبناني الذي حدث في انتخابات أيار 1947 ووجه نداءاته الى الشعب اللبناني بهذا الصدد. وضع برنامجاً سياسياً للحزب في الانتخابات طرح فيه مبادئ الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المرحلي للبنان. ولم يزل ما طرح من العلمنة وفصل الدين عن الدولة الى إصلاح الادارة وتنظيم الاقتصاد وبناء الدولة وعلاقة لبنان بمحيطه القومي دفاعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً, لم يزل في مقدمة بنود الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي تطرح في مطلع الثمانينيات في برنامج الجبهات والحركات السياسية والوطنية.
سعاده في 1948: الكفاح المسلح والنفط طريقنا للتحرير
شهدت مرحلة 1947- 1948 كارثة فلسطين وبوادر القطيعة بين لبنان والشام (تكرست في 1951) وقد كان لسعاده في الموضوعين مواقف مميزة.
لقد حمّل سعاده السياسات العشائرية والإقطاعية مسؤولية كارثة فلسطين كما حمّل المسؤولية للاستعمار البريطاني واتفاقية سايكس – بيكو والتجزئة الكيانية. وسعى جاهداً لتأمين السلاح للقوميين الاجتماعيين للقتال في فلسطين، لكن الرجعية العربية رفضت إعطاء السلاح. ومع ذلك فقد قاتلت فرقة قومية اجتماعية بين اللد والرملة وعرفت باسم "فرقة الزوبعة" وكانت بقيادة مصطفى سليمان وأبلت في القتال بلاء متميّزاً.
وكان سعاده بدأ بإعداد الحزب عسكرياً ليخوض معركة فلسطين, ففي بلاغ أصدره في صدد قرار تقسيم فلسطين في 1 كانون 1947, أعلن سعاده أن "القوميين
الاجتماعيين هم اليوم في حالة حرب من أجل فلسطين" ودعا للانضمام الى "الجيش القومي الاجتماعي".
ولقد خاض الحزب معركة التصدي للذين أضاعوا فلسطين. وبعد أن حمّل جميع من كانوا مسؤولين عن الكارثة مسؤوليتهم ركّز على مفصلين: النفط, والكفاح المسلح طريقاً وحيداً للتحرير. وكانت هاتان المقولتان أخطر ما يُطرح في أواخر الأربعينيات.
كان سعاده على وعي مبكر جداً بأهمية النفط كسلاح في معركتنا القومية من أجل فلسطين فكتب مقاله (البترول سلاح انترنسيوني لم يُستعمَل بعد) على أثر تصديق معاهدة العام 1949 (مراحل المسألة الفلسطينية، ص. 127) وفيه يقول "فيتضح من مجرد تصديق اتفاقية التابلاين الأميركانية أننا لم نستعمل هذا السلاح البترولي للحدّ من تأييد الولايات المتحدة لليهود وجارينا بتصديق اتفاقية حسّاسة هامة تهمها جداً لمستقبل العمليات الحربية المقبلة".
ولقد كان هذا الوعي الاستراتيجي لأهمية النفط في المعركة القومية التي سبق اهتمام العالم العربي في هذا الاتجاه نحو ربع قرن على الأقل سبباً مباشراً في تآمر الاستعمار العالمي عليه؛ تضاف إليه دعوة سعاده الصريحة المستمرّة إلى الكفاح المسلح وحرب التحرير القومية الشعبية.
ويقول في آخر خطاب له في أول حزيران 1949 في برج البراجنة رداً على خطاب بن غوريون في تخريج أول دفعة من ضباط الجيش الإسرائيلي: "إن الدولة اليهودية تخرج اليوم ضباطاً عسكريين وإن الدولة السورية القومية الاجتماعية التي أعلنتها سنة 1935 تخرّج هي أيضاً بدورها ضباطاً عسكريين", ويدعو الى حرب التحرير للتصدي للعدو "وتطهير أرض الآباء والاجداد وميراث الأبناء والأحفاد من نجاسة تلك الدولة الغريبة".
هكذا اقترن نهج الكفاح المسلح بنهج استخدام النفط في حرب التحرير وكلاهما يصيبان مقتلاً عند الامبريالية الأميركية وحليفتها الصهيونية.
ويشير مايلز كوبلاند في كتابه "لعبة الأمم" إلى أن المخابرات الأميركية كانت قد أتت بحسني الزعيم ليوقع اتفاقية التابلاين واتفاقية الهدنة مع إسرائيل. وهكذا بدا سعاده وحزبه عقبة شامخة في وجه الخطط الصهيونية والامبريالية، خصوصاً بعد أن بات واضحاً النفوذ الكبير الذي يتمتع به الحزب في أوساط الضباط العسكريين في الشام.
هذه المواقف الجذرية والواضحة من معركة فلسطين التي حمّل خسارة فلسطين وغيرها من الأجزاء السورية المغتصبة للرجعية العربية ودعوته الى الكفاح المسلح واستخدام سلاح النفط في خدمة المعركة كسلاح استراتيجي, وفضحه دور الامبريالية الاميركية في هذا المجال, كل ذلك دفع بالامبريالية والصهيونية والرجعية العربية الى التخطيط والتآمر بهدف تصفية سعاده وحزبه, فأوعزت الامبريالية الى الرجعية العربية ممثلة بملك مصر الملك فاروق, وحسني الزعيم رئيس الجمهورية الشامية, للتخلص من سعاده وحزبه.
وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي قد توسّع انتشاره بالإضافة الى جميع المناطق اللبنانية, وخاصة في قلب بيروت, وفي مناطقها المحمدية التي نازع فيها نفوذ رئيس الحكومة آنذاك رياض الصلح, وفي المناطق المارونية التي نازع فيها حزب الكتائب اللبنانية التي تمثل الفكر الانعزالي الذي كان سعاده قد استشرف خطره وتصهينه, وكان الرائد في العالم العربي بوعيه المبكر لهذه الظاهرة: "غريبة هي, في هذا الصدد, أعمال الرجعية الانعزالية في لبنان المؤسسة في تفكير الدولة الدينية. فهناك ترحيب هائل بغفلته بقيام الدولة اليهودية الى جانب الدولة المسيحية التي لا تزال تراود افكار الفئة الرجعية الانعزالية وتتردد في أحلامها" (الجيل الجديد, العدد 2, 1948).
وهكذا فقد تلاقت قوى الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية والكتائب اللبنانية على هدف التخلص من "الخطر" الذي يمثله سعاده وحزبه على مصالحهم, فتمت الصفقة بين هذه الأطراف للقضاء على سعاده وحزبه.
وهكذا بعد افتعال حادثة الجميزة ومهاجمة حزب الكتائب والأمن العام اللبناني لمطابع الحزب وإحراقها صدرت مذكرة توقيف بحق سعاده وليس بحق الذين اعتدوا على الحزب, ونشطت حملة اعتقال القوميين الاجتماعيين بالمئات, وحين أعلن سعاده (الثورة القومية الاجتماعية الأولى) مرتكزاً على تحالفه مع حسني الزعيم خانه الحليف الذي بدا وكأنه قائد انقلاب تقدمي بينما كشفت مذكرات كوبلاند بعد سنوات أنه كان زرعة المخابرات الأميركية في جيش الشام, فسلّمه الى جلاديه وقد اشترط عليهم أن يتم اغتياله وهو في الطريق من دمشق إلى بيروت، لكن تهيُّب مدير الأمن العام اللبناني أوصل سعاده الى المحكمة العسكرية فعقدت جلسة سريعة وبصورة سرية بناء على إلحاح حكام دمشق وبيروت. فخلال 24 ساعة حوكم وحُكم وأُعدم وقد غادر محامي الدفاع النائب امين لحود قاعة المحكمة احتجاجاً على عدم إعطائه الوقت الكافي للاطلاع على أوراق الدعوى وهو يقول "إني أشم رائحة البارود".
استقبل سعاده حكم الموت هادئاً ونام قرير العين في زنزانته في سجن الرمل الساعات القليلة التي فصلت بين الحكم عليه وتنفيذ حكم الإعدام, وحين أيقظه الحارس سأله "هل حان الوقت؟" ثم طلب فنجان قهوة وسيجارة. ومشى إلى مكان الاستشهاد ثابت الخطى, حين سأل ما اذا كان ضرورياً عصب عينيه: "أنا لا أخاف الموت". قيل له انه القانون فقبل تنفيذ أحكام القانون.. وحين أُركع أحس بحصى تحت ركبتيه فطلب نزعها لأنها تؤلمه. وحين نُزعت ابتسم لجلاديه "شكراً". وينطلق الرصاص على الوجه الباسم. ويقول القائد كمال جنبلاط في استشهاد سعاده في استجواب قدّمه في 9 ايلول 1949 الى الحكومة اللبنانية عبر مجلس النواب اللبناني: "وفي الواقع وفي نظر كل من اطلع على خفايا الأمور, لقد تدخلت بعض الدول الأجنبية المعروفة في قضية سعاده وضغطت بحيث إن أكثر الاعمال الاعتباطية التي صدرت عن الحكومة اللبنانية بهذا الشأن إزاء الحزب القومي ومن ضمنها المحاكمة والقضاء على سعاده وبعض أتباعه بهذه السرعة وبهذا الشكل قد تمّت بناء على توصيات وتدخلات وتأثيرات دول أجنبية وعربية معروفة".
بلاغ قيادة الثورة القومية الاجتماعية العليا الأولى عن الثورة وأساليبها وأهدافها:
"في مساء الخميس الواقع في 9 حزيران 1949 جرى اجتماع ضم بعضاً من تشكيلة الـ phalanoes libanaises أمام بناء المطبعة التي تطبع فيها جريدة الحزب السوري القومي الاجتماعي في شارع فيليب الخازن بمحلة الجميزة, وبعد إلقاء خطب مهيّجة من قبل خطباء كتائبيين قام جمهور المتجمّعين باعتداء مسلح على المطبعة وإدارة نشر الجريدة القومية الاجتماعية. كانت نتيجته جرح خمسة رفقاء قوميين اجتماعيين جراحاً متفاوتة، منها بعض جراح خطرة وحرق ورق المطبعة وتخريب بعض الآلات, وقد استعمل المهاجمون الاسلحة الكرّارة.
في ذات المساء وبعد مدة قليلة من الحادث اجتمع مجلس وزراء الجمهورية اللبنانية, برئاسة رئيس الجمهورية, بعد مخابرته تلفونياً الى منزل فضول حيث كان يسهر ويلعب بالورق, وفي هذا الاجتماع قررت الحكومة اغتنام فرصة الحادث ومفاجأة الحزب القومي الاجتماعي بحملة تنكيل وإرهاب مستهدفة القضاء على هذا الحزب. وقد كان حادث الجميزة ستاراً مخفياً حقيقة مقاصد الحكومة, فلم تنكشف هذه المقاصد الا بعد مرور نحو ثمانٍ وأربعين ساعة على ابتداء الحكومة حملتها. وقد اتخذت تدابير الحكومة كل صفات الحملة التي لا يخطئها النظر ففي الليل عينه, على أثر استدعاء الحكومة, استدعى قائد الجيش اللبناني الجنرال شهاب أركانه وأصدر أوامر تحركت بموجبها وحدات من بعض مناطق بيروت, وسارت وحدات اخرى الى الجبل وفي جميع مناطق الجمهورية اللبنانية لمساعدة عمل الدرك والبوليس في حملة الأسر وفي بعض ساعات كانت هذه الحملة قد قبضت على بعض مئات من اعضاء الحزب القومي الاجتماعي والمسؤولين الادرايين فيه الذين أُخذوا بغتة وهم نائمون آمنون في بيوتهم.
وقد كان الهدفان الاوليان الرئسيان للحملة: منزل الزعيم في رأس بيروت بقصد اعتقاله والاستيلاء على اوراقه, ومكتب الحزب المركزي الكائن في شارع المعرض, فأخفقت الحملة في مهمة أسر الزعيم ونجحت في الاستيلاء على أوراق الحزب في المكتب المركزي.
لم تتوقف الحملة العسكرية على الحزب عند هذا الحد, بل استمرت في ترتيب تصاعدي حتى بلغت في بضعة ايام حداً عالياً من الشدة الإرهابية في جميع المناطق بلا استثناء. فاستمرت مداهمة البيوت في الليل والنهار والقبض على مئات من القوميين الاجتماعيين وإيداعهم السجون في أقصى درجة المقدرة على القبض والنقل والإيداع. وقد اخرجت الحكومة الموظفين في اجهزتها المنتمين الى الحزب القومي الاجتماعي وقبضت عليهم بلا تهمة معينة ولا مبرر. الأمر الذي لا بد من ملاحظته هو انه في جميع أعمال المداهمة والإرهاب مدة تجاوزت الثلاثة أسابيع لم تجرِ من قبل اعضاء الحزب أية مقاومة، ولكن جرت حوادث فرار من وجه الاضطهاد المسلح.
والى هذه الساعة التي يعلن فيها الحزب القومي الاجتماعي الثورة على الاضطهاد والإرهاب والطغيان المسلح لم يبد ما يدل على أن حملة الحكومة ستقف عند حد.
لاشك في ان حملة الحكومة الارهابية والتنكيلية على الحزب القومي الاجتماعي تشكل اعتداء صريحاً على حقوق أعضاء الدولة المدنية والسياسية, وطغياناً على الشعب نادر المثيل, يذكرنا بأزمة الدولة الطغيانية الأولى التي لا تحترم للشعب إرادة ولا حقاً اذ الارادة هي ارادة الحاكم المطلق, الامير او الملك في تلك الأزمنة وقاطع الطريق السياسي في هذا العصر.
من تصريحات رجال الحكم المنشورة في الصحف ومما نشر إلى الآن عن اعتداء الحكومة الوحشي يتبين ان الحكومة مسؤولة عن التخريب والتنكيل بأعضاء الدولة الآمنين تتذرع بتبرير اعتدائها على الحزب واعضائه بحجة أن تقارير وردت الى دائرة الامن العام من عمالها تفيد ان الحزب القومي الاجتماعي كان قد هيّأ وثبة على الحكم ستجري في...
لسنا ندري هل وردت الحكومة فعلاً تقارير, وهل لهذه التقارير أية قيمة إخبارية صحيحة, ولكن الطريقة التي تصرفت بها الحكومة تدل إما على أن التقارير المزعومة مختلقة, وإما انها موجودة. فالحكومة لم تداهم مركزاً معيناً تجري فيه المؤامرة وتوجد الأدلة عليها. لم تسدد هجومها على اشخاص معينين يجب أن تحوي التقارير, ان كانت موجودة وصحيحة, أسماءهم, ولم تكتشف مستودعاً واحداً من السلاح الذي يجب أن تفيد التقارير عنه, لو كانت موجودة وصحيحة, بل العكس وجهت الحكومة حملة عامة على جميع مناطق الحزب, وباشرت إلقاء القبض على جميع المسؤولين الاداريين الرئيسيين والثانويين والصغار وعلى الأعضاء عموماً بلا فارق, الامر الذي يدل على ان الحكومة قصدت مهاجمة الحزب مهاجمة متعمّدة والتنكيل به, لا القبض على متآمرين لإحباط مؤامرة ومنع ( coup d,état ) مزعوم.
سارت الحكومة بهذا النهج على قاعدة اضرب أولاً ثم ابحث عن المبررات المنتظرة. ظلت مستمرة في الحملة الجارفة بكل هياجها وتعديها في مداهمة البيوت في جميع جهات لبنان وإخراج أبناء الشعب من بيوتهم وسوقهم الى السجن وتفتيش البيوت وإبقاء جميع المأخوذين اسرى على هذا الشكل في السجون بلا ذنب غير انتمائهم إلى حزب قانوني مرخص به من الحكومة, التي يقوم رجالها بشن هذه الحملة البربرية عليه. فهذا النهج الذي تنهجه الحكومة هو مخالفة للمبادئ الديمقراطية وخرق لحقوق أعضاء الدولة المدنية والسياسية وظلم لا يُطاق.
انها ليست المرة الأولى التي يسلك فيها رجال الحكم المتحكمون في الحياة والحقوق السياسية في لبنان هذه الطريق بقصد التنكيل بالقوى السياسية التي تريد تحقيق مبادئ الحكم الديمقراطي وتنفيذ إرادة الشعب الحر التي يضع رجال الحكم ضدها إرادتهم الخصوصية, فإن رجال الحكم الحاضرين هم انفسهم اتخذوا تدابير مخالفة لقواعد حرية الفكر والقول ضد زعيم الحزب القومي الاجتماعي يوم عودته من أميركا الجنوبية, فبمجرد وصول الزعيم وإلقائه خطاباً أعلن فيه الى جانب المحافظة على الوضع السابق في لبنان, رأيه في الشؤون السياسية الجارية, أصدرت الحكومة تعليمات الى ادارة الامن العام بوجوب ملاحقة الزعيم, ثم زوّرت على الزعيم قضية مبنية على اتهامات باطلة, وحولتها الى القضاء لملاحقة الزعيم قضائياً عابثة بقواعد الحرية والعدل وبحاجة الشعب الى أمن عام ومبادئ حياة اجتماعية وسياسية تؤمن الناس على حقوقهم وكرامتهم وتسير بهم في تطور نحو الخير العام والنهوض الاقتصادي والثقافي. وقد اضطر الحزب القومي الاجتماعي الى الوقوف في وجه الحكومة بالسلاح مدة سبعة اشهر انتهت بتراجعها عن موقفها الظالم, ثم ان وسائل الحكومة تجاه الحزب القومي الاجتماعي ظلت كل المدة بين سنة 1947 وسنة 1949 وسائل حد وعرقلة فلم تكن تسمح باجتماعات عامة للحزب في الساحات العمومية, ومن الادلة على ذلك منعها اجتماعاً للحزب في 2 تشرين الثاني 1947 كان مقرراً ان يجري في بيروت واجتماعات عامة اخرى, ثم محاولتها منع اجتماع جزئي لمنفذية بيروت العامة في اليوم السابق لتذكار ميلاد الزعيم مؤسس الحركة القومية الاجتماعية مع ان الاجتماع كان يجري في حديقة منزل خصوصي, تلك المحاولة التي كانت تؤدي الى اصطدام مع جمهور الشباب المجتمع للاحتفال بعيد مولد الزعيم على اثر خيبة الحكومة في محاولتها منع الاجتماع المذكور منعت اقامة الحفلة الرسمية التي كان الحزب مزمعاً على إقامتها في فندق نورمندي يوم ميلاد الزعيم, فاضطر الحزب الى اقامتها في منزل احد الرفقاء تحت مظاهر الإرهاب العسكري وحشد عدد من البوليس السري اساء الى الصفة الاجتماعية المسبغة على الحفلة.
لم تجد الحكومة من الرغم من اتساع الاضطهاد والتحريات حتى تشمل جميع انحاء الجمهورية اللبنانية أي مبرر حقيقي لحملتها الارهابية على الحزب فلجأت الى ما يسد سد المبررات تجاه الرأي العام، فأوعزت الى بعض الصحف التي تعمل بإيعاز رئيس الوزراء ان تذيع الاخبار الكاذبة عن العثور على كميات اسلحة كبيرة في منزل الزعيم وعن اكتشاف وثائق مزعومة عن علاقة الحزب بدولة إسرائيل, وغير ذلك من الأمور الملفقة, والواضح ان قصد الحكومة وعمالها في القضاء والصحافة من نشر الاخبار الكاذبة المشار اليها وهو الاستناد الى مبررات كاذبة.
ولا بد من الاشارة الى وحشية التنكيل التي نفذت بها حملة الاضطهاد. فقد حمل جنود الحكومة تعليمات بإطلاق النار على كل من يحاول الهرب من وجه الاضطهاد. فأطلق الرصاص على عدد من القوميين الاجتماعيين في عين عنوب, واطلق الرصاص على الرفيق منير الشعار في عيناب, واطلق الرصاص على الرفيق فؤاد فرح مفرج فجرح في يده وفخده وسقط جريحاً واقتيد الى السجن في هذه الحالة. وكان إطلاق النار في جميع الحالات على عزل من السلاح لم يحاولوا اية مقاومة, بل كل ما حاولوه هو الهرب من وجه الطغيان المسلح.
الخلاصة:
إن الرجال المتسلطين على الشعب اللبناني بطرق الارهاب والتزير في الانتخابات والتنكيل بالقوى السياسية الفتية الناهضة بمبادئ الحياة الاجتماعية الجديدة قد داسوا ارادة الشعب الحر, ووقفوا حجر عثرة في سبيل حريته ومحاربين للمبادئ السياسية العامة التي تؤمن خيره وارتقاءه, وعبثوا بسلامة الأفراد والعائلات وعرضوا حياة الافراد الآمنين للخطر وعائلاتهم للترويع وقصدوا إذلال النفوس بواسطة الإرهاب والتنكيل, فشكلوا نوعاً خطراً من قطع الطريق السياسي والحكومي فضلاً عما وزعوه من مفاسد ملأوا بها الدواوين.
لذلك :
فإن الحزب القومي الاجتماعي يعلن ان الحكومة طاغية خارجة عن ارادة الشعب, معرضة خيره للمحق وسلامته للخطر ويثبت هنا ما اعلنه من قبل في صدد المجلس النيابي الذي تشكل بتزوير فاضح للانتخابات التي جرت سنة 1947 في جو من مطاردة السياسيين وإرهاب المعاكسين, أي أن هذا المجلس ليس مجلساً شرعياً ولا يمكن ان يمثل ارادة الشعب ويعلن الثورة الشعبية العارمة لأجل تحقيق المقاصد التالية:
1- إسقاط الحكومة وحل المجلس النيابي واعتبار مقرراته التشريعية في السياسة الداخلية الناتجة عن مساومات خصوصية باطلة.
2- تأليف حكومة تعيد الى الشعب حقوقه وحريته وإرادته المسلوبة.
3- وضع دستور صحيح ينبثق من ارادة الشعب يحل محل الدستور الحاضر الفاقد الصفة الدستورية الصحيحة ويضمن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لأبناء الشعب ويجعل التمثيل السياسي على اساس المصلحة القومية بدلاً من اساس المصالح الطائفية والعشائرية الخصوصية.
4- عدم التعرض للوضع السياسي السابق.
5- توطيد الاستقلال اللبناني على اساس ارادة الشعب الحرة.
6- احترام المعاهدات والاتفاقات المعقودة مع دول أجنبية.
7- المحافظة على الأمن العام والأملاك الخصوصية.
8- مقاومة التهديد الشيوعي للنهوض القومي الاجتماعي وتحرير العمال من الإقطاع السياسي الشيوعي.
9- تحقيق المبادئ القومية الاجتماعية الإصلاحية التالية:
أ- فصل الدين عن الدولة.
ب -منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القومي.
ج – إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب في الاجتماع والثقافة.
د – إلغاء الإقطاع وتنظيم الإقطاع القومي على اساس الإنتاج , وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.
ه – إنشاء جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.
10- تطهير ادارة الدولة من الرشوة والفساد والتحكم.
11-تخطيط سياسة اقتصادية قومية ترتكز على الوحدة الاقتصادية في البلاد السورية وضرورة قيام نهضة صناعية – زراعية على أسس متينة.
12- المباشرة بسرعة بإزالة الحيف عن العمال والمزارعين.
13- القضاء على الاحتكار والطغيان الرسماليين.
14- إطلاق سراح المأسورين والتعويض عليهم عن خسائرهم المادية بسبب أسرهم غير المبرر.
15- اعادة كل قومي اجتماعي فقد عمله بسبب عمليات الاعتقال والاضطهاد الى عمله، وكذلك كل من سببت له الاعتقالات فقد عمله, وإن لم يكن من اعضاء الحزب القومي الاجتماعي.
16- اعادة كل قومي صُرف من وظيفته الحكومية بسبب انتمائه الى الحزب القومي الاجتماعي الى وظيفته السابقة والتعويض عليه.
17- إلغاء جميع الأحكام المعطلة الحقوق المدنية والسياسية.
ان الحكومة اللبنانية الخائنة حرية الشعب, العابثة بحقوق أبنائه قد فرضت بجشعها ورعونتها الثورة للدفاع عن الحرية المقدسة وعن حياة ابناء الشعب وارادته, وقد قبلت حركة الشعب الكبرى التحدي وأعلنت الثورة.
فإلى الثورة على الطغيان والخيانة ايها الشعب النبيل".
الثورة الانقلابية 1961-1962:
العام 1961 يقرر الحزب السوري القومي الاجتماعي قلب نظام الحكم الطائفي الرجعي في لبنان, نظام التزوير والارهاب والتنكيل بالقوى الوطنية, نظام الاربعة بالمئة المستغلة لقيم ارضية وطنية وشعبية راسخة على اساس من العدالة الاجتماعية, تعيد للمجموع العظيم من الشعب, عماله وفلاحيه, حقهم في الحياة والعز, بالعدالة الحقوقية الاجتماعية والحقوقية الاقتصادية والعمل على تمتين علاقة لبنان بمحيطه القومي وعالمه العربي وقوى الثورة والتقدم في العالم.
فكانت المحاولة ليل 1| 1| 1962 التي كان نصيبها الفشل, وكانت الفرصة السانحة للنظام اللبناني الفاسد, للانقضاض على الحزب في وسط من الارتياح لدى القوى الأجنبية والقوى الداخلية المرتبطة معها. قضى خلالها قسم من أبطال الحزب شهداء قضيتهم القومية, وقضى آخرون سجناً وملاحقة واضطهاداً.
ولكنهم في كل هذه الفترة كان الحزب يحاكم السلطة في محاكمها وليس العكس إلى أن خرج القوميون الاجتماعيون من السجون العام 1969 ليعودوا الى الساحة النضالية التي عرفوها وعرفتهم.
لو كتب للمحاولة الانقلابية النجاح, لما دفع الشعب اللبناني الكثير من التضحيات ولما تعرض للكثير من المآسي التي شهدت هولها الحرب خلال أعوام 1975- 1983.
الجميزة الأولى والجميزة الجديدة:
في ظل هذه الظروف وقعت الجميزة الأولى 1949, يوم تحرش الانعزاليون من كتائب ورجال امن النظام اللبناني بسعاده وحركته في سلسلة من الاحداث ادت الى استشهاد سعاده في 8 تموز 1949.
لقد ادركت الانعزالية الطائفية ان سعاده هو وحده عدوها لأنه ادرك كنهها وحقيقتها وفضحها وحلل اسبابها ونتائجها وأعلن حربه عليها من دون هوادة, وهي حرب خطيرة لانها حرب عقائدية وفكرية ونفسية تستقطب ألوف الشباب المسيحيين وتنقذهم من سمومها. فكانت مؤامراتها عليه في 1949 في حادث الجميزة الذي كان منطلقاً لاغتيال الزعيم.
وفعلاً كانت الجميزة الأولى مؤامرة الانعزاليين على القوة القومية التي تصدت لهم في الجبل, وكانت الجميزة الثانية في 1975 – 1976 مؤامرتهم الاستعمارية الصهيونية الكبرى في سبيل تحقيق مشروعهم في إنشاء إسرائيل مسيحية التي حذر منها سعاده في 1948.
في 1949 تآمرت الانعزالية الطائفية على البديل القومي العلماني التقدمي الذي قدّمه سعاده ضدها في عقر دارها. وفي 1975- 1976 استطاعت الانعزالية الطائفية مستفيدة من غفلة العالم العربي والأمة السورية الوطنية أن تنفذ مؤمراتها ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية, ولقد كان سعاده في 1949 هو الحركة الوطنية – المقاومة الفلسطينية مندمجتان في قضية واحدة: القضية القومية الاجتماعية.
إن الانعزالية اللبنانية قد قادت لبنان, بعد ثلاثين سنة من كتابات سعاده المجموعة, الى الخراب والدمار والتقتيل والإبادات الجماعية وهي نتائج استشرفها سعاده في الثلاثينيات والاربعينيات.
وأكدت الانعزالية اللبنانية في ذلك, وعلى أرض الممارسة, أنها عدوة لبنان. وكان مفروضاً أن تكون هذه نهايتها, ولكن المفارقة الخطيرة التي تستوقف الباحث المتأمل هي هذه: إن عملية إنقاذ الانعزالية اللبنانية من إفلاسها على أيدي قوى سورية وعربية. وهذه المفارقة تؤكد حقيقتين أولاهما افلاس وانتحار الانعزالية اللبنانية التي استعانت بنقيضها, بقوى من خارج لبنان, من خارج منطق الانعزالية, من محيط لبنان القومي, الذي قال سعاده إن لبنان مرتبط به مصيرياً, وزعمت الانعزالية انه يجب الانفكاك عنه كلياً, فإذا بمصيرها هي يقرره تدخل هذه القوات السورية التي أنجدتها في لحظات انطفائها وانهيارها.
وكان قصد المحاولة الشامية استيعاب الظاهرة الانعزالية ومنعها من الانسلاخ عن مجتمعها, لكن هذه الظاهرة المرضية الطائفية لم تستجب لهذا التوجه بل إنها في عز احتضانها من محيطها القومي جدّدت تحالفها مع العدو واعتبرت صفقة كامب ديفيد هي الإيذان بتجدد وتعزيز تحالفها مع العدو وطعن الشام من الظهر.
فحصل التناقض بينها وبين دمشق صيف 1978 واستمر متصاعداً بحكم موقف الشام القومي الصامد ضد المشاريع الاستسلامية ومن ثم ضد الغزو الإسرائيلي ونتائجه.
في ايار 1981 خاضت قوات الحزب السوري القومي الاجتماعي معركة قمم صنين, الغرفة الفرنسية, وحررت تلك القمم من امتداد الأمن الإسرائيلي لمصلحة الأمن القومي. وجاءت تلك المعركة تتويجاً لصراع القوميين الاجتماعيين على مدى السنوات من أجل تحرير جرود المتن. وقال بيغن يومها إن مَن يسيطر على صنين يسيطر على المتوسط. وتدخل الطيران الإسرائيلي في ختام المعركة ضد الطوافات الشامية. وبدأت زيارات فيليب حبيب للمنطقة. إن أهمية هذه المعركة أنها جعلت صنين في قبضة الأمن القومي وبرزت الاهمية الاستراتيجية لهذه النتيجة حين احتلّ اليهود قمم الباروك.
وفي 1982 اعتبر حزب الكتائب الغزو الإسرائيلي رافعة له وقام التحالف على أرض المعركة بين يهود الداخل ويهود الخارج الذي حُسم في معركة الجبل صيف 1983.