المحاضرة الأولى: الغاية والغرض من نشوء الحزب
اولاً – الظروف المحيطة بنشأة الحزب واستمرارها فهم الحزب من خلال المرحلة التاريخية والغرض الاساسي الذي انشئ في سبيله
يقول سعاده "إني أرى في هذا التحليل غلطاً في التقدير والاستنتاج ناشئاً عن عدم العناية بدرس نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي والكيفية التي ينشأ فيها واظروف المحيطة بتلك النشأة..".
ويقول: "وإني على يقين من أن دراسة صحيحة لتاريخ نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي تؤدي حتماً الى تعديل الآراء المتقدمة الواردة في تقريرك". (من رسائل سعاده في كتاب "شروح في العقيدة"، ص. 55).
من هنا أهمية فهم المرحلة التاريخية التي نشأ فيها الحزب وضرورتها لفهم الغرض الأساسي الذي أنشئ في سبيله والوسائل والخطط لتحقيقها.
المنطلق لفهم هذا كله هو في النص التالي المكتوب في 1925 أي قبل تأسيس الحزب بسبع سنوات، وهو يشكل المؤشر الأساسي لفهم الباعث الحقيقي على إنشاء الحزب, يقول سعاده في شباط 1925 في مجلة "المجلة":
"رغماً عن كل ما تقدّم من أن الحركة الصهيونية غير دائرة على محور طبيعي, تقدّمت هذه الحركة تقدّماً لا يُستهان به, فإجراءاتها سائرة على خطة نظامية دقيقة إذا لم تقم في وجهها حركة نظامية اخرى معاكسة لها, كان نصيبها النجاح, ولا يكون ذلك غريباً بقدر ما يكون تخاذل السوريين كذلك, اذا تركوا الصهيونيين ينفذون مآربهم ويملكون فلسطين".
"إننا نواجه الآن اعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن امام الطامعين والمعتدين في موقف تترتب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة او الموت, وأي نتيجة حصلت لنا نحن المسؤولون عن تبعتها".
هنا موقف مصيري يتناول كامل وجودنا القومي: "فنحن امام الطامعين والمعتدين في موقف تترتب عليه إحدى نتيجيتين أساسيتين هما الحياة او الموت, واي نتيجة حصلت لنا نحن المسؤولون عن تبعتها". وأهمية هذا الكلام أنه قيل في 1925 يمثل هذه المسؤولية التاريخية والوعي المستشرف الأبعاد في قضية مصيرنا القومي كله, وان هذا الكلام انطبق على مرحلة تاريخية كاملة امتدّت منذ 1916 يوم عقدت اتفاقية سايكس – بيكو التي مزقت امتنا مروراً بوعد بلفور 1917 الى وعي هذه المؤامرة على امتنا في كتابات سعاده الأولى في 1925 الحزب السوري القومي الاجتماعي في 1932 ونضاله الطويل الى تقدم مشروع تهويد فلسطين واقامة الكيان الإسرائيلي وتوسعه والهزائم المتوالية منذ 1948 الى 1967 الى هجمة الحل السلمي بعد 1973 الى كامب ديفيد في 1979 الى غزو لبنان في 1982 والاتفاق اللبناني الإسرائيلي في 1983 مرحلة تاريخية امتدت على عقود طويلة من السنين ولم تزل تمتد الى ما لا حدود كما استشرفها سعاده في 1925 وحدد أبعادها وقيّد استمرارها بشرط إلغاء وحيد: "فإجراءاتها سائرة على خطة نظامية اذا لم تقم في وجهها حركة نظامية اخرى معاكسة لها, كان نصيبها النجاح".
وانصرف تفكير سعاده الى إنشاء الحركة النظامية المعاكسة بـ"الخطة النظامية الدقيقة".
هذا هو الباعث الاساسي لنشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي: في حرب المصير والوجود إنقاذ المصير القومي والوجود لمجتمعنا.
من هنا إن غاية الحركة السورية القومية الاجتماعية غاية مصيرية تتناول وجودنا القومي من الأساس وفي تحديد سعاده لكون انتصار الصهيونية يستمر اذا ما استمر "تخاذل السوريين اذا تركوا الصهيونيين ينفذون مآربهم ويملكون فلسطين"، اشارة واضحة الى ان الحزب – الحركة الذي فكر في إنشائه وتأسيسه سينصبّ على معالجة هذا "التخاذل" الداخلي لاستبداله بالأسس الصالحة لتوليد إرادة الصراع في سبيل الوجود والمصير.
من هنا كان سؤال الزعيم الاول قبل انشائه الحزب: "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟". وكان انصبابه على وضع الجواب الجذري العملي لهذا السؤال المصيري.
ما هي الظروف الموضوعية التي جعلتنا في مهب المؤامرة الدولية أشلاء مبعثرة وقوة متناثرة؟ ما هي أسباب "تخاذل السوريين" التي أدت الى ذهاب فلسطين واكثر من فلسطين؟
من هنا، فإن الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس رد فعل على الحركة الصهيونية ولا على أية حركة اخرى، ولكن بطبيعة نشأته استهدف القضاء على الأسباب الداخلية التي أتاحت للحركة الصهيونية التقدم من أهدافها متحالفة مع الاوضاع السيئة في أمتنا: "لم ينتصر اليهود على حقيقة الأمة السورية بل على يهودنا الداخليين". وإلى هؤلاء اليهود الداخليين، والحالة التي أفرزتهم توجّه فكر سعاده. ويوضح الزعيم سلباً وإيجاباً الحالة التي جاء الحزب السوري القومي الاجتماعي لنقضها, في كلام له بعد نكبة 1984 عند حديثه إلى الطلاب في أيار 1949: "الطلاب نقاط ارتكاز للعمل القومي الاجتماعي".. "إذا زحفنا يوماً إلى فلسطين فلن نكون زاحفين لنظهر فئة دينية على فئة مضمرين كل واحد لأخيه غير ما يظهر". كما أننا "نسير الى الحرب ليس فقط جماعة واحدة من الوجهة الروحية بل من الوجهة الاجتماعية أيضاً, ليس لنتصر إقطاعياً على إقطاعي او رأسمالي بل لنكسب أرضاً لا يمكن أن نقيم فيها مستعبَدين من أنفسنا على أمتنا. نسير محققين انتصاراً لشعب حر يجتمع تحت علم أمته ودولته في نظام واحد ومجد واحد للجميع".
ويحدّد سعاده الحركة السورية القومية الاجتماعية في خطاب أول آذار 1938 بأنها: "حركة شعبية واسعة النطاق وثورة اجتماعية, اقتصادية, سياسية". وهي في خطاب 1935 المنهاجي الأول "فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها". وهي النهضة الثورة التي تتناول اوضاع المجتمع من جذورها في استهداف التغيير الشامل. منطلقها "من نحن" على صعيد المجتمع الناهض بفلسفة جديدة هي فلسفة الإنسان, المجتمع, التي يكون فيها ظهور شخصية الجماعة أعظم حدث في تاريخ البشرية.
كل هذا الشمول في النظرة والاستهداف والبناء نابع من أن النهضة – الثورة أقامت أوضاعاً جديدة كلياً لا مصالحة بينها وبين أوضاع الهزيمة وتريد بالتالي إنهاء عصر الانحطاط بكامل إرثه.
فالحزب السوري القومي الاجتماعي لم يتكوّن من نظريات في التجريد والمطلقات وحتميات مسبقة بل تكوّن من خلال اصطدام الوعي الثوري بحالة امتنا السيئة انطلاقاً من معاناة أفجع كوارثنا القومية فقداننا الأرض بسبب فقدان إنساننا المقيم عليها هويته القومية وشكل مجتمعنا في عصر أنتج انحطاطاً طويلاً وتعرض الإنسان والارض بعد تمزقهما سياسياً واجتماعياً لغزوة استيطانية استعمارية فريدة من نوعها تتحدّى وجودنا كله. ونحن نواجه المصير مفككين موزّعي الولاء تسيطر علينا أوضاع مختلفة عن العصر متناقضة اجتماعياً وقومياً. انبثق الحزب من هذا التفاعل الحيّ والصراع المصيري بين إرادة التغيير والنهوض والاوضاع الفاسدة المتراكمة حليفة التآمر المتمادي على الأمة والوطن. وفي مثل هذا الصراع المصيري الشأن القومي هو القضية المحور التي ينهض عليها كل شيء؛ بينما انعدام الوعي القومي, عند سعاده, هو مفتاح الكارثة: "إن انعدام الوعي القومي في شعبنا أفقدنا معظم مواردنا الاولية الهامة, فهناك بترول الموصل بمنطقة الجزيرة, وبترول النقب السوري, وهناك أملاح البحر الميت التي وضع اليهود أيديهم عليها, وهناك أراضي كيليكيا والاسكندرون وفلسطين الخصبة التي انتزعت من السيادة السورية". (سعاده، نداء الاول من ايار 1949).
وعلى هذا الأساس، فالوعي القومي عند سعاده مقولة ثورية لتفجير الثورة القومية ضد الامبريالية والصهيونية, ضد الاغتصاب والعدوان والنهب لثرواتنا وارضنا, فالوعي القومي, وهو ما نصّت عليه مبادؤنا الاساسية, ليس معرفة مجردة عن الفعل, فإذا كان انعدام الوعي القومي أفقدنا مواردنا، فاستعادتها تكون بالوعي القومي المفجر الكفاح المسلح. فالمعرفة عند سعاده لها وظيفة ثورية, وظيفة صراعية هي استعادة مواردنا وأرضنا: حرب التحرير القومية. إن اطلاعنا على المبادئ الأساسية للحزب التي تبين هويتنا القومية هو بهذا القصد والمفهوم. وإن سؤال "من نحن؟" الذي أطلقه سعاده لتحديد هويتنا القومية هو بهذا القصد: إذا لم نع قضيتنا القومية فلا نستطيع الدفاع عن ارضنا ومواردنا.
ولكن سعاده لا يعتبر أن الكارثة حلّت بنا لمجرد وجود الاستعباد الخارجي، فلقد كان لهذا الاستعباد الخارجي، الامبريالية والصهيونية، حليف من داخل اوضاعنا هو الاستعباد الداخلي. "نحن حاربنا ونحارب الاستعباد الداخلي الذي يتخذ من الإقطاعية والرأسمالية والتكالب على المصالح والمنافع واسطة وشكلاً, الاستعباد الداخلي الذي كان حليفاً للاستعباد الخارجي والذي لولاه لما فقدنا كيليكيا والاسكندرون وفلسطين". (سعاده، اول آذار 1949).
من هنا، كانت الحركة السورية القومية الاجتماعية ثورة قومية ذات مضامين اجتماعية شاملة. ذلك أنها وهي ترفض كل سلخ او اغتصاب او عدوان على ارضنا القومية وكل نهب لمواردنا الطبيعية وتعبّر عن مطامح الثورة القومية بكل قوة وجذرية, لا تكتفي بمجابهة الاستعباد الخارجي ومكافحته بل تعمل على بعث نهضة شاملة تؤدي الى إقامة نظام جديد لحياة جديدة "تتطلّبه حياة إنسانية مرتقية". فهي ثورة قومية ذات مضامين اجتماعية وأبعاد إنسانية: هي نهضة كلية شاملة, والمحور الذي تدور عليه القضية القومية الاجتماعية أنها حركة الوحدة في وجه التجزئة فالنهضة ترتكز على توحيد المجتمع والارض, توحيد الإنسان وإطاره المادي, في وجه التجزئة التي كانت مرض عصر الانحطاط المميت.
الوحدة ليست وحدة سياسية فحسب، بل وحدة قومية اجتماعية شاملة.
الحزب السوري القومي الاجتماعي يربط في علاقة سببية بين تجزئة بلادنا في اتفاقية سايكس – بيكو. وعملية تهويد فلسطين وقيام إسرائيل, كما يربط بين الاستعباد الخارجي والاستعباد الداخلي, فمصالح الاستعباد الخارجي في سياسة الاستعمار التقليدية "فرّق تسد" لذلك تحالف مع أوضاع التجزئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهو تحالف مع قيام الكيانات المتناقضة مع الوحدة القومية يقيم إسرائيل على أنقاض التجزئة وبفضلها. وتحالف مع التجزئة الاجتماعية التي جعلتنا طوائف ومذاهب بدلاً من أن يكون شعباً واحداً في وجه العالم, في الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحّد وتنتفي مسهّلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.
"إن الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقة لا يتمان ولا يستمران إلا على اساس وحدة اجتماعية صحيحة, وعلى أساس هذه الوحدة فقط يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح, ففيه اساس هوية الدولة الصحيحة, وفيه يؤمن تساوي الحقوق لأبناء الأمة". (كتاب التعاليم السورية القومية الاجتماعية).
"يجب أن نصنف في العالم أمة واحدة, لا أخلاطاً متنافرة النفسيات. الحواجز الاجتماعية الحقوقية بين طوائف الأمة تعني إبقاء داء الحزبيات الدينية الوبيل". (المحاضرات العشر ص. 122)
فالاستعباد الخارجي تحالف مع الطائفية كعامل تجزئة أساسي. كما تحالف مع الإقطاع وسيطرة الرأسمال الفردي, التجزئة الاقتصادية, الوجه الآخر في الاستعباد الداخلي. ففي مبدأ إلغاء الإقطاع يقول الزعيم عن سوء تصرف الإقطاعيين بالأرض أنه يبلغ "حداً يوقعها في عجز مالي ينتهي بتحويل الأرض الى المصارف الأجنبية, الرسمال الأجنبي, البلوتكراطية الأجنبية, والحزب السوري القومي الاجتماعي, يعتبر أن وضع حد لحالة من هذا النوع, تهدّد السيادة القومية والوحدة الوطنية أمر ضروري جداً".
"إن هذه الإقطاعات كثيراً ما يكون عليها مئات وألوف من الفلاحين يعيشون عيشة زرية في حالة من الرق يرثى لها. وليست الحالة التي هم عليها غير إنسانية فحسب, بل هي منافية لسلامة الدولة بإبقائها قسماً كبيراً من الشعب العامل والمحارب في حالة مستضعفة, وخيمة العاقبة على سلامة الأمة والوطن". (المحاضرات العشر، ص.ص. 124- 125).
"الرأسمال عندنا اشد الناس ابتعاداً عن الاهتمام بأية قضية قومية وطنية أو بأي مصير للجماعة القومية. إن تخطيطه فردي محض والمصلحة مصلحة فردية محض ولذلك لا يحجم حتى عن التحالف مع أي رسمال أجنبي مجموعي ضد مصلحة المجموع الذي هو أحد افراده". (المحاضرات العشر، ص. 134).
ولا يكتفي سعاده بالتصدي للنظام الفاسد بل لجذوره النفسية. فالنظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي الفردي هما مظهران اقتصاديان اجتماعيان لشر مستطير وعلة أساسية في مجتمعنا: النزعة الفردية. وسعاده يعلن أن النزعة الفردية أخطر من الاحتلال الأجنبي وعلى القوميين الاجتماعيين محاربتها بضراوة فهي مظهر لتحلّل الفرد من الرابطة الاجتماعية لأمته ومصيرها في عصر الانحطاط واعتباره نفسه محور الوجود وتسخير كل شيء في سبيل مصالحه الإنسانية. من هنا كان بناء الإنسان الجديد في النهضة على اساس الولاء القومي الاجتماعي هو الطريق لبناء النظام الجديد.
الخطة الصهيونية الاستعمارية الدقيقة واجهتنا مجموعة كيانات ومجموعة طوائف ومجموعة طبقات ومجموعة أفراد, ولم تواجهنا أمة موحدة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً, قومياً اجتماعياً. لذلك كانت غاية الحركة السورية القومية الاجتماعية إسقاط عصر الانحطاط بكل إفرازاته الكيانية والطائفية والطبقية والفردية في سبيل إنسان جديد ونظام جديد على أسس قومية اجتماعية جديدة. هذه هي الخطة النظامية الدقيقة التي تمثلها قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي. وهذه الأبعاد اشتملت عليها كلها غاية الحزب:
"غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها, وتنظيم حركة تؤدي الى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها والسعي لإنشاء جبهة عربية".
ويقول سعاده في شرح غاية الحزب: "ويتضمّن معنى النهضة القومية الاجتماعية تأسيس فكرة الأمة وتأمين حياة الأمة السورية ووسائل تقدّمها وتجهيزها بقوة الاتحاد المتين والتعاون القومي الصحيح وإقامة نظام قومي اجتماعي جديد". (المحاضرات العشر، ص.ص. 157 – 158).
ويقول سعاده في الشرح (في المحاضرة العاشرة ص. 154): "فكان لا بد من الاتجاه نحو تأسيس فكرة الأمة بالدرجة الأولى". "بعد تأسيس فكرة الأمة.. أصبح من الضروري الاهتمام بمصير الأمة, بتأمين حياتها ووسائل تقدم الحياة نحو المثل العليا, نحو إقامة نظام جديد للحياة بجعل الحياة أرقى وأفضل وأجمل". (المصدر نفسه، ص. 159).
تأسيس فكرة الأمة هو المحور الذي يواجه عصر الضياع القومي والتجزئة الاجتماعية بكل مظاهرها ومنه الانطلاق نحو إقامة النظام الجديد اللائق بمصير الأمة وجعل "الحياة أرقى وأفضل وأجمل". والآن نتساءل في ضوء هذا كله: هل تبدّلت حال أمتنا فتجاوزت استهدافات الحزب أم أنها لم تزل بأمسّ الحاجة إلى رسالته؟ هل قامت "الخطة النظامية الدقيقة" في وجه العدو؟ هل سقطت الكيانية وتناقضاتها؟ هل سقطت الحواجز الطائفية ولم نعد أخلاطاً متنافرة في وجه العالم؟ هل سقط النظام الطبقي الإقطاعي والرأسمالي؟ هل زالت النزعة الفردية؟
إن النكبات المتوالية في فلسطين وعلى مدى أمتنا خير شاهد على العكس. فالتناقضات الكيانية زادت حدّتها ولم تنفع التجارب الوحدوية والقارات الوحدوية العريضة في إزالة مفاعيل اتفاقية سايكس – بيكو والوحدة باتت مناورة كيانية أكثر منها حقيقة قومية حتى التنسيق العسكري المتكامل على مدى الهلال السوري الخصيب لم يقُم ولم تزل جبهات الحرب ضد العدو على تناقضاتها المعروفة. حتى التكامل الاقتصادي مفقود في كيانات القطيعة والشجار على الحدود والسيادة الكيانية. الماء سبب خلاف بينها والموارد الطبيعية موضع تناقض. والحصيلة هي الهجرة والنزوح.
ولم تزل العصبيات الطائفية والعنصرية الجزئية هي العلة التي تتآكل كل جسمنا القومي من أكراد العراق الى المشكلة الطائفية في لبنان مروراً بدساتير دين الدولة.
اما النظام الطبقي الرأسمالي والإقطاعي فقد سقط في كيانات ولكنه استشرى شره في كيانات أخرى لم تزل تحت رحمة "الاقتصاد الحر".
وفي أساس كل العلل لم تزل النزعة الفردية هي محور حياتنا الاجتماعية.
من هنا، إن الخطة النظامية الدقيقة الشاملة التي أراد الحزب السوري القومي الاجتماعي أن تكون رد أمتنا على الخطر اليهودي لم تنتصر بعد. وان الحزب السوري القومي الاجتماعي لم يزل واجب الوجود بل هو واجب الانتصار. لأن بدون الخطة النظامية الدقيقة الشاملة التي رسم لدحر العدو وتحرير امتنا وتوحيدها سيبقى مدّ الاستعباد الخارجي المتحالف مع الاستعباد الداخلي طامياً على وجودنا القومي.
ثانياً – الحزب العقائدي المصارع على أرض الثورة والتغيير:
مفهوم الحزب على أساس مراحل نضاله وتحوّل التشديد مؤشراً لكل مرحلة.
"الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ حزب عقيدة جديدة في سوريا فكانت غايته الأولى المباشرة إعلان هذه العقيدة وشرحها في النفوس". (من شروح العقيدة).
ويعرض سعاده لمشقات انتشار العقيدة الجديدة ومصائبها واستهدافاتها الأخيرة فيتحدّث عن "تشكيل جبهة عامة في جميع مناطق سوريا وحمل رسالة العقيدة التي تتجسّد فيها شخصية الأمة الاجتماعية وبالتالي شخصيتها الحقوقية التي تعيّن ليست فقط ماهيتها بل حقوقها ومصالحها الرئيسة والحيوية التي تريد الاحتفاظ بها والدفاع عنها واسترجاع ما سلب منها وتنميتها وتوسيعها وضمانة رفاهية الشعب بواسطة تأمينها". ويضيف "وإن تعيين شخصية الأمة الاجتماعية والحقوقية وحقوقها ومصالحها" كان له قصد محدد واضح هو إعطاء "الأمة أساس عملها السياسي او الشرط الجوهري السابق لنشوء سياسة قومية بالمعنى الصحيح". (المصدر نفسه لسعاده).
وهذا يعني أن الوعي القومي, الوعي العقائدي بشخصية الأمة وماهيتها وحقيقتها, له قصد محدّد، له وظيفة نضالية: استعادة ما سلب من الأمة والاحتفاظ بما بقي من الأمة والدفاع عنه وضمان رفاهية الشعب.
ويتميز سعاده في رسائله هذه (كتاب شروح في العقيدة) بين مرحلتي التأسيس والتحقيق. في المرحلة الأولى يكون الهدف المباشر الأوحد: نشر العقيدة وبناء الجسم الحزبي القادر على حمل الرسالة والانتصار بها. وفي المرحلة الثانية, مرحلة التحقيق, يبقى ويستمرّ البناء العقائدي, لأنه الخبز الدائم للحزب العقائدي، ولكن التشديد يصبح على التحقيق. الإنسان الجديد يبدأ صراعه في سبيل إقامة النظام الجديد, في سبيل انتصار "الخطة النظامية الدقيقة" في مجتمعه.
يقول الزعيم في هذا الصدد: "إن خطط الحزب السوري القومي الاجتماعي كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وتحمّله لم ترم قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة, بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته".
من هذا كله تتأكد لنا الحقائق التالية:
1- إن الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ حركة عقيدة جديدة وهدفه المباشر الأول نشرها لتشكيل الجبهة القومية في مناطق الوطن كله الداعية على اساس الوعي القومي الجديد الى تعيين مصالح الأمة الرئيسية وحقوقها والدفاع عن هذه المصالح والحقوق واسترداد ما سلب منها.
2- ان الحزب السوري القومي الاجتماعي يعتبر عملية نشر الوعي القومي ذات غرض نضالي واضح, هو خلق العصبية الضرورية لخوض العراك القومي الاجتماعي الفعلي في الدفاع عن مصالح الأمة وحقوقها ضد الإرادات الأجنبية والخصوصية المتآلفة معها واقامة النظام الجديد.
3- إن عملية تحرير المواطن وبنائه داخل الحزب تستهدف بناء النواة الثورية المسؤولة عن نفسها بل عن مصير الأمة للتحرّك بعد تكوّنها نحو الغرض الأسمى الذي أنشئ في سبيله الحزب: جعل الأمة السورية هي صاحبة السيادة على نفسها ووطنها".
إن بناء العضو في الحزب, هو بناء الخلية في الجسم الثوري المكافح الجديد المسؤول عن تحرير الأمة كلها وتحقيق سيادتها القومية الاجتماعية.
في ضوء هذا يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي "نشأ حزب عقيدة جديدة"، ولكن ليس مستهدفاً الاكتفاء نشر عقيدته في الشعب وإن كان هذا هو الاساس الذي لا محيد عنه لتحقيق اغراضه الاخرى بل "ليفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته"، فالبناء العقائدي والنظامي في الحزب له غاية ثورية وصراعية محددة: تحرير الأمة وتحقيق سيادتها القومية بحرب التحرير القومية وإقامة النظام الجديد.
"ومنكم يُنتظر تثبيت حق الأمة السورية من الإرادات الأجنبية والمفاسد الداخلية".
"إني قد وضعت هذه المهمة الأولى في نفوسكم واثقاً كل الثقة أنكم أهل لتحقيقها ومن أنكم محققوها عاجلاً..". (من رسالة الزعيم الى الأمة السورية).
"فإذا نتأمل مد الأعداء ودفعهم الى الوراء ومن حيث أتوا فأملنا بهذا النظام القومي الاجتماعي الذي يُعِدّ ويبني النفوس والإدارة التي يدركها كل فرد من افراد الحركة القومية الاجتماعية..". (سعاده، الطلاب نقطة ارتكاز وانطلاق في العمل القومي الاجتماعي).
بخدمتنا لهذه القضية, وهذه الوحدة المتينة, وباستمراركم بهذا العمل إلى أن تتحوّلوا في أعين الناس والعالم من رأي سقيم يقول إنكم عصابة من العصابات: من عصابة يطاردها عدل أعوج الى جيش ظافر منتصر يشق لهذه الأمة طريق الحياة, فتربح حقوقها, وتقف بألويتها من السويس الى طوروس ومن البحر الى البحر. فلسنا حزب كلام ولا حزب تمنيات وتبجّحات شخصيات. نحن نبني أنفسنا حياة وحقاً. نحن نبني أنفسنا زحفاً وقتالاً, في سبيل قضية واحدة هي قضية أمة لا قضية أشخاص" (سعاده، مراحل المسألة الفلسطينية " من خطاب الزعيم في بشامون 3 ايلول 1948، ص. 65).
من هنا، إن عدم فهم مراحل الصراع القومي الاجتماعي يؤدي ببعض الأفراد الى التخلف عن المرحلة والضياع عن محور الصراع القومي الاجتماعي وبتثبتهم بالمرحلة السابقة وعدم قدرتهم على خوض المرحلة التالية:
مرحلة التحقيق تصبح ممارساتهم حتى للعقيدة مناقضة لاستهدافاتها فيتوهمون ان "النقاء العقائدي" يكون بتجنب حلبة الصراع في كل مجالاته القومية والاجتماعية وينتهي بهم الأمر الى "الكتلة العقائدية المتحجرة" التي "لم يرم قط الزعيم إلى إنشائها".
وتصبح ممارساتهم ضد "المنظمة العقائدية التي تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غاية الحزب", ويؤدي هذا الموقف الخارج عن حلبة الصراع والمحيد للحزب والمجتزئ للعقيدة والضائع عن مراحل الصراع الى الوقوع في فخ النظام القائم والاوضاع الراهنة, أي يصبح معادياً للحزب السوري القومي الاجتماعي.
ويقول سعاده "فدستور الحزب وتشكيلاته كلها تدلّ على اتجاهه العملي مع تأمين أساسه العقائدي ولكن تطبيق هذا التخطيط لم يكن ممكناً بمجرد إرادة المؤسس المخطط, بل كان متوقفاً على تطوّر الحركة نحو تهيئة أسباب التطبيق".
ويقول سعاده "بعد انتهاء مرحلة التأسيس إذا كانت قد انتهت وتصبح المسألة مسألة أشخاص وظروف وتحوّل في التشديد أو تطبيق الخطط السياسية العملية بأوسع شكل ممكن". ("شروح في العقيدة " من رسائل الزعيم الى غسان التويني في 1946، ص. 73).
ويعني الزعيم "الأشخاص" حصول عدد كافٍ من الاعضاء المتنوعي المواهب للقيام بالأعمال المتنوعة التي يقتضيها التخطيط المذكور. ويعني الزعيم "بالظروف" حصول ظروف سياسية مواتية (المصدر نفسه).
هذا يعني بوضوح أن الحزب السوري القومي الاجتماعي حزب عقائدي مصارع في المجتمع لانتصار قضيته "الخطة النظامية الدقيقة" المستهدفة وقف تقدم الحركة الصهيونية ودحرها وتحرير أرضننا المغتصبة ووضع حد للفتوحات الأجنبية بتوحيد بلادنا وانتصار سيادتها القومية وإقامة النظام الجديد فيها.
وعلى هذا الأساس، قال سعاده في أيار 1949 "إذاً نحن نسير في تكوين الجيش الموحّد الذي يقاتل بوعي ويعرف كل فرد لماذا يقاتل". وقال "لا يمكن مطلقاً أن نحافظ على حقوقنا بخطب ومذكرات" (سعاده، المحاضرات العشر، ص. 152).
وقال في رده على بن غوريون في آخر خطاب له في أول حزيران 1949 وبصدد تخريج دولة العدو أول دفعة من الضباط "والنهضة القومية الاجتماعية تتقدم اليوم في صفوف جديرة بالانتصار, لأن في صفوفنا ارادة أمة حية لا أمم في طوائف ودول, في حكومات قزمية, غير جديرة بالاضطلاع بمسؤولية المصير القومي. نحن مستمرون في خطتنا. ان الدولة اليهودية تخرج اليوم ضباطاً عسكريين وإن الدولة السورية القومية الاجتماعية التي أعلنتها سنة 1935 تخرّج هي أيضاً اليوم ضباطاً عسكريين. ومتى ابتدأت جيوش الدولة الجديدة الغريبة تتحرك بغية تحقيق مطامعها الأثيمة والاستيلاء على بقية أرض الآباء والأجداد, ابتدأت جيوشنا تتحرك لتطهير أرض الآباء والأجداد وميراث الأبناء والأحفاد من نجاسة تلك الدولة الغريبة".
لقد وضع سعاده حزبه في خطابه الأخير في مواجهة حرب التحرير القومية وعلى جبهتها, وختم رسالته بدمه في ثورة تموز رافضاً الهزيمة القومية عاملاً على انتصار الخطة النظامية في مجتمعه على العدو الخارجي والداخلي.