إن ثقافة الصراع التي نعتزّ بها والتي تشكل التجسيد العملي للعقيدة نفرد لها في هذا العدد باباً خاصاً بقصة ابطالنا الذين كسروا طوق الأسر الإسرائيلي في معتقل "أنصار".
وهم من الرفقاء الذين مارسوا الكفاح المسلح ضد العدو وأسرهم هذا العدو ثم فكوا اسرهم عنوة وخرجوا الى الحرية وعادوا الى الصراع.
لقد اهتمت وسائل الاعلام بقصة ابطالنا, وكان ان نشرت "جريدة الشرق الاوسط" الصادرة في لندن هذا التحقيق الذي أجراه مع ابطالنا لويس فارس مراسل اذاعة مونت كارلو أيضاً، كما اهتم التلفزيون الشامي والصحف اللبنانية بتغطية قصة البطولة هذه؟
كلنا يعلم أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان كان بتاريخ 6/ 6 / 1982 وجميعاً نعرف أهداف هذا الاجتياح وأبعاده الواضحة الجلية.
حسب التصريحات الإسرائيلية الرئيسية كان الغرض من عملية الجليل مجرد ضمان حدود إسرائيل الشمالية، ولكن كل متتبع يعلم ان الهدف الحقيقي لهذه العملية هو الإجهاز على الوجود الفلسطيني سواء منه المسلح او المدني في بيروت والقضاء على الحركة الوطنية اللبنانية ومحاولة إخراج الجيش العربي السوري من ساحة الصراع.
التقينا بالمقاتل سمير خفاجة من أهالي حاصبيا من الجنوب اللبناني القطاع الشرقي ودار بيننا الحديث التالي:
* حدّثنا عن ظروف اعتقالك؟
- نحن في المؤسسة السياسية التي ننتمي اليها وهي الحزب السوري القومي الاجتماعي لم نكن بغافلين عن حقيقة أهداف العدو، ولذلك فقد قررنا ان نقف في وجه هذه العملية النكراء بكل ما أوتينا من قوة.. فنحن كحزب كان قرارنا الاول هو ضرب المستعمرات الإسرائيلية ونسف تلك المقولة (سلامة أمن الجليل), وذلك من خلال عمليات تصعيدية مبرمجة بين فترة وأخرى نقوم بتنفيذها داخل الارض المحتلة.
وكانت العملية الأولى في العشرين من تموز (يوليو) 1982 أي بعد مضي شهر وأربعة عشر يوماً على الاحتلال الإسرائيلي للبنان وبعد تصريحات عدة وجهها وزير حرب العدو الى رئيس الوزراء الصهيوني داعياً بتصريحاته الى إخراج المواطنين والمستوطنين من الملاجئ لأنه لا عودة لهم الى هناك. بل ستعود الحياة الى مجراها الطبيعي.
وبعد سماعي لهذا التصريح بنصف ساعة تماماً قمت بإطلاق صواريخ على مستعمرة "كريات شمونا". وفي الحقيقة كانت هذه العملية قمة في النجاح، حيث أصبت أهدافاً كثيرة فقد انفجرت الصواريخ داخل المستعمرة وألحقت خسائر فادحة بالعدو.
ونحن بهذه العملية نسفنا مقولة أمن الجليل التي اوهموا العالم اجمع بها. وقد كان قرارنا الرئيسي او بالأحرى هدفنا الرئيسي هو نقل المعركة الى داخل الأراضي المحتلة. ومن تلك اللحظة بدأ اعتقالي. فبعد تلك العملية جمعوا مواطني البلدة عامة من نساء واطفال وشيوخ وبدأوا بتحقيقاتهم المعهودة, وممارسة تسلطهم اللامحدود, مما دفعني الى اعلان مسؤوليتي عن العملية امام المواطنين أجمعين وأعلنت انتمائي الى الحزب ومسؤوليتي الشخصية عن العملية. وعلى الفور تم اعتقالي وتقييدي بالسلاسل وعصبوا عينيّ وقادوني للتحقيق. كانوا يأخذونني الى كل مستعمرة ويدعون المستوطنين اليهود لضربي قائلين "هذا هو الشخص الذي قصف المستعمرات".
وبعد ذلك تم نقلي الى المخابرات الحربية المركزية في تل أبيب وفي سجن كاديرا, حيث بدأت رحلة العذاب النفسي والجسدي المجهولة النهاية. فقد بقيت خمس ساعات متواصلة امام المحقق العسكري عارياً, والأضواء مسلطة عليّ, والمصورون ينتقلون من مكان لآخر, ثم عادوا بعد فترة ليعرضوا علينا صورنا بكل وحشية واستهزاء. لقد كان أحدنا يتعرض للضرب ساعتين متواصلتين وهو معصوب العينين, حيث لا يعرف في أي لحظة سيتعرض فيها للضرب وفي اي لحظة سينتهي هذا، بالإضافة الى الاعتقالات ذات المدى الطويل والتي بلغت 75 ساعة متواصلة, فقد بقيت كل هذه المدة مقيداً الى الحائط من دون طعام او شراب.
وفي الليل كنا نتعرّض الى حمامات من المياه الباردة حيث كانوا يرشونا بخراطيم المياه التي تستعمل لغسيل السيارات. كانت هذه العملية تتكرر كلما جفت ثيابنا. ثم تم نقلي الى زنزانة عرضها من 60 الى 80 سم وطولها متر ونصف. وكنت في هذه الزنزانة لا أعلم متى ستأتي لحظة الجنون. وتبدأ حرب الضرب على الجدران لمنعنا من النوم ولو لخمس دقائق. وبقيت على هذه الحالة مدة 24 يوماً من التحقيق والتعذيب الجسدي والنفسي معاً وبعدها تم نقلي الى معسكر انصار في الجنوب اللبناني التابع لقضاء النبطية, هذا المعسكر الذي ضمّ في فترة من الفترات 10000 معتقل في شهر آب (أغسطس) 1982.
المأساة في معسكر أنصار
وبدأت المأساة تكبر في معسكر أنصار, فالعقوبات كانت جماعية والتعذيب كان جماعياً والطعام كان مقصوراً على "البطاطا والفاصولياء والأرز". وفطورنا كان عبارة عن عشر حبات زيتون لا أكثر.. هذا عدا منعنا من التدخين.
كان التعذيب جماعياً، كما ذكرت، من دون تفريق بين سليم ومعوق. فعدد المعوقين كان كبيراً وكان بعضهم مبتور اليد او الساق او فاقد العين, وكان ينال نصيبه من التعذيب من دون تفريق عن سواه. وبالاضافة الى ذلك بدأت الامراض بالتقشي والانتشار بسبب نقص المياه والحمامات، حيث كان هدفهم الاول والرئيسي ان تخرج جميعاً من المعسكر أصحاب عاهات.
وأذكر تماماً ان هناك معتقلاً فاقداً بصره منذ سنة واكثر, ولا زال حتى الآن في المعتقل. وقد قمنا بانتفاضة كبيرة وراجعنا مدير الصليب الأحمر الدولي الموجود في أنصار وطالبناه بتطبيب المعتقلين او الافراج عنهم, وقمنا بالاضراب عن الطعام اضراباً جماعياً, فكانت النتيجة ان وافق العدو على تطبيب المعتقلين الواردة اسماؤهم في كشوفات الصليب الاحمر. وتم فعلاً نقل المرضى الى مستشفى في تل ابيب وبقوا هناك 24 ساعة من دون طعام او شراب او عناية, وعادوا بعد أن أنهكهم التعب والتعذيب, وقد كانت آثار الدماء ظاهرة على ثيابهم, ساعتها امتنع كل المرضى المعتقلين عن الشكوى وكان دواؤهم الوحيد هو المخدرات فقط.
لقد كنا نعامل ضمن المعتقل لا كأسرى حرب ولا بطرق تمت إلى الإنسانية بصلة، بل كنا نعامل كحيوانات لا كبشر.. ولم تطبق في لحظة من اللحظات اتفاقية جنيف التي تطبق على جميع أسرى الحروب في العالم.
لقد كان هدف العدو واضحاً وجلياً. كان يرمي الى تحطيم معنوياتنا, ولكن المعتقلين جمعياً كانوا اصحاب روح معنوية عالية قوية وهاجسهم الوحيد داخل المعتقل هو مقاومة هذا الاحتلال الفاشي بشتى الطرق والوسائل.
لقد كان هدفنا ضمن المعتقل كسر القوانين التي وضعها العدو ومخالفة انظمته واوامره, وقد قمنا بتشكيل قيادات تنظيمية من الرفاق ضمن المعتقل, وقد كان هدف التنظيمات تسيير الامور لمصلحة المعتقلين والاتصال برفاقنا المعتقلين في المعسكرات الأخرى لأن عملية الاتصال كانت في غاية الصعوبة، حيث كانت تتم عبر الرسائل والاسلاك. واول محاولة قمنا فيها لفتح الاسلاك بين معسكر وآخر دفعنا ثمنها ستة شهداء. وبعد نضال شديد ومرير استطعنا أن ننتزع بعض المكاسب منها, والاتصال مع المعتقلات الأخرى حيث اصبح بالإمكان ان يرى الاخ اخاه والاب ابنه, واستطعنا ان ندخل الصحافة الانكليزية الى المعتقل: جريدة "جروزلم بوست" وصحيفة "الأنباء" التي كانت تصلنا بعد 15 يوماً من صدورها والتي تنطق باسم العدو وتتكلم بنفس صهيوني بحت.
وفي أحد الايام اطلق جندي صهيوني حاقد النار على معسكر 20 حيث استشهد من جراء اطلاقه النار احد المعتقلين (سهيل أبو الكل) وجرح ثلاثة رفاق احدهم الرفيق (ابراهيم حديفة الزغلول) الذي نقل الى فلسطين المحتلة واجريت له عمليات عدة (استئصال كلية – استئصال معدة – تركيب معدة اصطناعية) ثم أعيد الى المعتقل والجريح الثاني (مصطفى سليم ابو حسن).
ممارسات لا أخلاقية:
ورغم كل هذه الضغوط ورغم كل التعذيب لم يستطع العدو ان يحصل على اعترافات جوهرية اساسية من احد منا، بالرغم ايضاً من الممارسات اللاأخلاقية التي مارسوها معنا والتي تمس الشرف في صميمه.
حتى خلال نقلنا من معسكر الى آخر كنا نتعرض للضرب بالعصي ونحن معصوبو الأعين، ولكن أصواتنا التي تنطق بالحقيقة كانت أقوى وأعنف, كلماتنا كانت هي هي لا تتغير, هذه هي الحرية التي توهمون العالم بها والتي تتحدثون عنها, فاشيون نازيون, ورئيسكم بيغن هو أكبر نازي. قاتلناكم وسوف نقاتلكم. نحن اصحاب حق ندافع عن قضيتنا. وانتم ماذا ماذا؟
بعد ذلك وبمناسبات معينة كانت تقوم انتفاضات محددة إحياء لكل ذكرى وطنية. وكانت الاعلام الفلسطينية واللبنانية ترتفع عالياً. هذه الانتفاضات كانت تثير غضب الإسرائيليين وكادت أن تحصل مجزرة من جراء إحيائنا لهذه الذكريات.
كنّا مصرين على مواجهة قائد العدو الذي كان يُسمّى بـ (ابن شيخة) والذي خلفه (روزن فل) ومن ثم القائد الجديد الذي يدير حالياً معسكر انصار. وأودّ أن اشير الى ان هذا القائد قد تبدل إثر عملية الفرار التي قمنا بها ان استبدلته قيادة العدو نتيجة ضعفه، رغم احتكامهم للسلاح والقوى العسكرية.
عاطف الدنف
الأسير الثاني يتحدث:
الأسير الثاني.. عاطف التنف , مواليد "بعل شمَي" في الجبل.
• حدّثنا المقاتل سمير خفاجة عن ظروف اعتقاله وعن المشقات التي صادفته, نرجو ان تحدثنا بالمقابل عن ظروف اعتقالك وعن الصعوبات التي واجهتها حين فرارك من معتقل انصار.
- اعتقلت بتاريخ 16/ 1 / 1983 وكنت مكلفاً بمهمة وهي ضرب دورية من قوات العدو الإسرائيلي بمنطقة الشويفات. وفي أثنائها كنت أشغل منصب آمر قوات الحزب في منطقة المتن الاعلى, وكان دخولي على رأس هذه الدورية لأنها كانت نوعية الهدف وهي ايقاع اكبر عدد من الضحايا في صفوف العدو حيث أضحى العدو يستخدم الباصات في نقل جنوده, وكانت هذه الباصات بحماية ست أو سبع آليات.
ذهبت أنا ورفاقي لضرب هذه القافلة فاكتشفت ان الحماية تتم عن طريق هيلكوبتر فكان عليّ أن أستعين بصواريخ "ستريللا" التي تستخدم ضد الطائرات. فعدت للحصول على هذه الصواريخ. وحين عودتي للدورية وقعت في الأسر. أما العملية فقد تم تنفيذها بعد يومين او ثلاثة من اعتقالي في منطقة "غاليري سمعان"..
فور اعتقالي قادوني الى مركز الاستخبارات الذي يقع في عاليه، ومنه الى صور ومن ثم الى فلسطين. وقد استمر التحقيق بعد اقتيادي الى فلسطين مدة شهر.
لقد تحدث رفيقي سمير عن اساليب التحقيق الوحشية التي لا تفرق بين أسير وآخر. ليس شرطاً ان تكون قد نفذت عملية كبيرة لكي تعذّب. التعذيب كالطعام او الشراب يجب ان تذوقه في كل الحالات. وهدفهم الأساسي من ذلك التعذيب الوحشي وهو التنفيس فقط عن حقدهم وليس اخذ المعلومات او الاعتراف بشيء ما. حتى انني اعرف رفيقاً في معسكر انصار بقي معتقلاً سنة كاملة ولم يسأل عن شيء سوى اسمه, وآخر لم يسأل عن شيء البتة.
اقتادوني الى انصار وكنت في حالة إرهاق شديدة نتيجة الاساليب الوحشية التي عوملت بها. كنت أتوقع ان تكون حالة الأسرى النفسية والجسدية مشابهة لحالتي او اسوأ بكثير, ولكنني فوجئت عند وصولي بهتافهم الترحيبي الحار مهللين بقدومي مما زاد ثقتي بنفسي وبمبادئي ثقة أخرى.
داخل معتقل انصار
وضمن المعتقل عرفت أن الشباب والرفاق, بعد مضي خمسة اشهر من اعتقالهم, قد نظموا انفسهم بقيادات مشتركة تضم جميع التنظيمات والاحزاب الفلسطينية واللبنانية الوطنية, حيث كانت هناك لجنة للدفاع عن حقوق الاسرى ولجان للاهتمام بكافة النواحي التي يحتاجها الاسرى.
لقد كانت الروح المعنوية الوطنية عالية جداً بين المعتقلين. ومن أهم الامور التي كانت يتركز العمل حولها هي وقف التحقيق واطلاق سراح كبار المسنين وصغار السن.
وقد استطاعت قيادة المعتقل من الرفاق الاسرى المناضلين تحويل المعتقل الى جبهة ضد العدو حتى لا يكون باستطاعة أي جندي إسرائيلي أخذ أي أسير للتحقيق. كما نظمت عمليات عدة للهروب من المعسكر عبر الاسلاك وعبر شاحنات النفايات وقد نجح أغلبها بالفعل.
الهروب الكبير
أما بالنسبة لي, فقد كنت افكر بعملية هروب كبيرة تشبه الى أبعد الحدود عملية فيلم "الهروب الكبير" وقد استوحيت فكرة النفق الذي حفرناه من هذا الفيلم, وقد تبلورت هذه الفكرة عند انتقالنا بعد 19/ 4 /1983 الى معسكرات جديدة، حيث نقلت الى المعسكر رقم (20) الذي كان يقع الى الجهة الغربية من المعسكر وكان بيني وبين الحرية شارع وشريط شوك وساتر ترابي, وكانت المسافة بتقديري حوالي 20 متراً لا أكثر, هذا الامر دفعني الى دراسة مشروع النفق وقد ساعدنا على ذلك كثيراً الحريق الذي اندلع في معسكر انصار كله في ذكرى الاجتياح الإسرائيلي للبنان, حيث شوه الحريق الشكل الهندسي للخيم داخل المعسكر واصبح من الصعب على الحراس والمراقبين حصر الخيم ودراسة التحركات فيها. وقد استشهد في حريق انصار الشهيد عبده البابا والشهيد ماهر الديماني واصيب اكثر من 15 بجراح. وقد راعينا في بنائنا للخيم التي بنيناها من البطانيات, التغطية والتمويه لسهولة الحركة.
• كيف كانت عملية حفر النفق؟
- كان الحفر يتم بأوتاد الخيم او اي شيء آخر يستخدم في الحفر ويسهل معه جرف التربة. وقد تمّ حفر النفق الأول بحفرة عمودية بطول متر ونص ومن ثم كان يتم الحفر الافقي. وقد بلغ ارتفاع النفق الاول 70 سم, كان ضيقاً للغاية, وبعد 16 متراً من الحفر اصطدمنا بمياه المجارير حيث تسربت المياه الى النفق ولم نستطع إصلاح هذا العطل او ترميمه.
نفق جديد
كنا نخشى بالطبع انهياره لأن سيارات الماء تزن اكثر من 30 طناً كانت تمر فوق النفق, مما دفعنا الى دعم النفق ومحاولة إصلاحه بواسطة اعمدة الخيم وألواح الزينكو من الحمامات, ولكن هذا النفق لم يعد صالحاً فاضطررنا لردمه, ورغم ردم ذلك النفق إلا ان الفكرة لم تمت في اعماقنا.
وبعد ردم النفق الاول بعشرة ايام فقط بدأنا العمل وبدأنا بحفر نفق جديد بعد ان انتقلت الفكرة لأغلب المعسكرات وبدأ الرفاق جميعاً يستفسرون عن طريقة الحفر وعن كيفية الحفر واشكالاته, ومن الطبيعي ان تواجهنا في مهمة كهذه مشكلتان رئيسيتان هما مشكلة التنفس والإضاءة.
وقد تعاونا على حفر نفقين الأول في معسكر (20) والآخر في معسكر (8) وكنا قد اكتسبنا التجربة من النفق الاول الذي حفرناه في المعسكر (20) فقد بلغ عمق الحفرة مترين و20 سم وارتفاعه متراً وعرضه 80 سم, مما ساعدنا أكثر وأعطانا القدرة على الإنجاز بشكل أسرع.
وقبل أن يفتح باب الحرية امامنا بـ 36 ساعة عمل حسب تقديرنا فوجئنا بتاريخ 1 (اغسطس) بدعوة العدو لنا للخروج الى الشارع, هذه الدعوة كانت جداً عادية, فالعدو كان يلجأ الى هذه الأساليب أكثر من مرة وفور خروجنا الى الشارع بدأوا بوضع شريط شائك حولنا وحاصرونا بعدد من الدبابات والسيارات الصغيرة لمحاصرتنا, ودخل أكثر من 40 جندياً مزودين بالسلاح وبالغازات المسيلة للدموع الى المعسكر.
بعد نصف ساعة من التفتيش داخل المعسكر(20) أتى العدو ببطارية سيارة مع بروجيكتور وآلات للتصوير, ودخل عدد كبير من الضباط على المعسكر.
كنت أراقب الموقف من بعيد ثم أتى الكولونيل باك ضابط الاستخبارات ليبلغنا بنقل المعسكر كله الى المعسكر (31) الذي يعجّ بالعملاء ويبعد عن بقية الرفاق الآخرين في المعسكرات الأخرى. وقد علمت تماماً أنهم قد اكتشفوا كل شيء.
كان الأسرى الذين سينقلون الى المعسكر (31) تحت رحمة التحقيق وقد استدعي احد اعضاء لجنة الدفاع عن حقوق الأسرى للإبلاغ عن هذا العمل (التخريبي).
الاعتراف
لقد كنت على يقين انه باستطاعة العدو معرفة القائم بهذا العمل، فلماذا اخضاع الجميع للتحقيق؟ ولماذا جرهم للمعسكر (31)؟ وتقدمت من الدكتور نبيل المصري من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, وقلت له بأنني سأتحمل مسؤولية هذا الأمر وحدي. فأجابني: إذا كنت تستطيع فهذا عمل بطولي. وبالفعل تقدمت من الضابط الإسرائيلي وقلت له: لمَ تنقل جميع الاسرى الى المعسكر (31)؟ فقال: للتحقيق ولمعرفة كيفية حدوث أمر كهذا. فأجبته: لا داعي لذلك. أنا المسؤول عن هذا الامر. ففوجئ كثيراً وأخرجني من بين الأسرى وتبعني فوراً ثلاثة مناضلين ادعوا مسؤوليتهم معي.
وبالطبع فوجئ الضابط الإسرائيلي ونادى العقيد قائد المعسكرات لإبلاغ المسؤولين عنا. وكان أول سؤال وجهه اليّ قائد المعسكرات:
- كم استغرق العمل معكم؟
فقلت له: خمس دقائق.
- كيف؟
قلت: حينما اجتمعنا لنقرّر مايجب عمله لم يستغرق اجتماعنا اكثر من 5 دقائق.
قال: وكيف تمت عملية الحفر؟
قلت: حفرنا بالإرادة.
قال: ادع البطولة هنا وسنرى كيف تم ذلك.
ثم عاد ليشكرني قائلاً: شكراً لأنك أعطيتني نجمة اليوم.
فقلت له: ابنتي اليوم نالت نجمة.
قال: يا مجنون نحن نفرج أسبوعياً عن 100 اسير.
قلت: انت تجلب اسبوعياً اكثر من 100 اسير.
قال: لا بأس انتم تخربون في الخارج اكثر من هنا. كان يمكن أن تخرج مع أي دفعة.
هذا الحديث كان في 20 / 4 وقبل ذلك بيوم واحد اي في 19 / 4 قاموا بحملة رهيبة في المعسكرات حيث استخدموا قوات لإذلالنا وتعذيبنا. فقد قاموا بإغلاق الغاز عن المعسكرات قائلين: انتم لستم بحاجة للغاز بل للقش. فأجبته: عندما كنا نعمل في النفق كان بمقدورك كشف عملنا هذا. ولكننا الآن نرد عليك لتعلم أنك تأسر هنا رجالاً وليس بشراً يأكلون القش, نحن أقوى من كل آلياتكم وأبراجكم هنا.
في هذا الوقت كان قد استدعى بالطبع سيارة لنقلنا في وقت كان الأسرى هائجون متمردون يرأسهم الاخ صلاح التعمري رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الاسرى، وقد وصلوا يهتفون "باسم الحرية نضحي بالارواح" و"فلسطين عربية يا أرض الكفاح".
إيقاف التحقيق:
كانوا في ثورة لا تخمد نارها. كانوا يلوحون بقبضاتهم ويحملون الأوتاد ويهزون الشريط الشائك الذي كان يهتز على امتداد المعسكر. وكان الجنود محاصرين بكل الأسرى والهتافات من كل جانب. فما كان من قائد المعسكر الا أن رفع يده وقال: إن شئت خذهم. وبالفعل دخلت المعسكر ولم يتمكن العدو من أخذنا. وكان ذلك بالفعل تجسيداً للنضال الذي كنا نقوده لوقف التحقيق وكانت هذه الخطوة هي أهم خطوة اذ تمكنا بوحدتنا كأسرى من إيقاف التحقيق.
وبدأت مرحلة العمل مرة أخرى, ففور عودتي للمعسكر اجتمعت بالرفاق في المعسكر (8) المسؤولين عن المعسكر, اذ كانت هناك لجنة لكل نفق. كان قرارنا الاول وقف النفق وتمويهه. وبالفعل قمنا بتمويه النفق وطمرناه بالتراب. وكانت الخطوة التالية هي تكثيف المراقبة حول المعسكرات اذا ما كان العدو يولي اهتمامه هذه الزاوية أم لا وعما اذا كان قد كثف نقاط مراقبته. وكنا قد قسمنا العمل الى 3 اقسام: اللجنة المسؤولة عن النفق ومهمتها تأمين كل شيء, اللجنة الأمنية مهمتها مراقبة حركة العدو ومراقبة الناس بالداخل والعملاء, لجنة العمل المسؤولة عن الإشراف على الحفر.
وعدنا الى العمل في النفق في اليوم الثالث وبدأنا العمل على قاعدة انتقاء العناصر المنتجة وبدأنا الحفر واستمرينا فيه وأنجزنا العمل في 8 آب (اغسطس) حيث كانت النتيجة المطلة الى الحرية, وأصبح بيننا وبين الحرية 27 متراً فقط. الا اننا فوجئنا بشريط شائك قبل الأبراج، لأن النفق كما اتضح بعد ذلك كان مائلاً.
ولكن أي ضربة في داخل النفق كانت ستفضح العمل بسبب الفتحة الخارجية فبدأنا بمراقبة الساتر الترابي واكتشفنا وجود عبارة قريبة من الماء كانت مغطاة بشريط شائك كثيف فكان القرار الاول انه فور حلول الظلام يخرج أحد الأسرى ويخرج معه عمودين للخيمة يرفع عليها الشريط وقد تم ذلك فعلاً. وكانت المفاجأة بعودته قائلاً بأن مخرج العبارة مغلق تمام الإغلاق بشريط وباب حديد فأرسلنا اثنين من الاسرى اصحاب اجسام متينة وبنية قوية لمحاولة كسر هذا الباب الحديدي فلم يستطع الشباب وعادوا ليعطونا اشارة بأنه لا مجال لذلك، لكنهم هربوا من فوق الساتر الترابي وتابعوا فرارهم.
كان اتفاقاً بأن الفتحة ستكون بالشريط ويمتد شارع بعد الشريط يليه شريط شائك آخر ومن ثم فسحة 50 متراً ثم ساتر ترابي ثانٍ بعده الى الحرية.
بعد خروج الشباب لم يعد هناك مجال للتراجع فالفتحة نهايتها هنا والمطلوب الخروج. كان هدفنا أن يخرج 73 أسيراً وهو الحد الادنى الذي كنا قد وضعناه. ففي الحرب العالمية الثانية خرج 73 اسيراً من أحد المعسكرات النازية. وكنا مصممين على تسجيل رقم أكبر ولكن المعطيات تغيّرت واصبح من المفروض أن يخرج اي عدد كان من الاسرى.
كنا قبل إحداث الفتحة الجارية قد اجتمعنا لدراسة اوضاع الاسرى ولإخراج اصحاب الاولوية ذوي الحالات الخطرة وبالتعبير الإسرائيلي: الاشخاص الذين على أيديهم دماء. وبالفعل كانت المجموعات مختارة وعلى رأسها ضابط ودليل وبدأنا بإخراج دفعات بعد دراسة دقيقة لعبور الساتر الترابي.
واجتمع قرارنا على الخروج من المنطقة الأكثر اضاءة وبمحاذاة الأعمدة المثبت في اعلاها البروجكتورات ولقد اخترنا هذه الطريقة، لأنه كان بتقديرنا ان العدو لن يوليها كثير الاهتمام لإضاءتها. نجحت الفكرة وخرج غالبية الاسرى من هذه الزاوية.
كان دورنا بالترتيب المجموعة الرابعة كان تعداد هذه المجموعة 11 أسيراً خرجنا، ولكن حصلت هفوة من احد الاسرى فقد اصطدم بشريط الهاتف الواصل من البرج الى برج آخر وأحدث ضجة لفتت انتباه الحرس وحصلت هفوة أخرى من اسير آخر حين عبوره الطريق لتحت البرج فعبره واقفاً عوضاً عن عبوره زاحفاً فتنبّه له الحرس وبدأوا بإطلاق النار من كل الاتجاهات واستطاع ان يهرب من مجموعتنا 6 فقط واعتقل 6 اسرى وبدأت رحلة المطاردة.
اشترك في عملية المطاردة الطيران المروحي, وبدأوا بإلقاء القنابل المضيئة التي كانت تحول الليل الى نهار.
وفور ابتعادنا عن المعتقل بحوالي 300 متر وبعد أن خسرنا الدليل قررنا السير عبر المناطق المضاءة زحفاً وكانت الدوريات تقترب منا أحياناً حتى تصل إلى أقل من 50 متراً ونجحنا في الهرب. كنا نرتاح نهاراً ونسير ليلاً وبقينا على هذه الحال 12 يوماً قبل أن ندخل الحدود الصديقة.
• كيف استهديتم الى الطريق؟
- نحن جنود والرفيق سمير ضابط مدفعية بالحزب وأنا آمر قوات الحزب، فبشكل طبيعي ونتيجة التدريب المستمر كنا نستطيع التعرف إلى جميع الاتجاهات.
• كيف استطعتم التغلب على مشكلة الطعام؟
- منذ خروجنا من معسكر أنصار كان في جعبتنا غالون من الماء وما يكفينا من السكر. حيث كنا نذوّب السكر في الماء ونشربه وكان معنا بعض الجبن والخبز وما شابه ذلك، ولكننا في بداية المطاردة تخلينا عن هذه الأوزان، لانها كانت تشكل عبئاً علينا وكنا نأكل ما نصادفه في طريقنا من ثمار. وبعض مضي ستة أيام من المسير المتواصل كنا خلال ثلاثة ايام منها لم نتناول شيئاً من الطعام او الشراب وكنا قد وصلنا الى قمة الإنهاك. فكان الحل الوحيد امامنا ان نطرق باب احد البيوت طالبين شيئاً من الطعام والشراب. وطرقت أحد الابواب فرد صوت نسائي سائلاً: من الطارق. شكاً منها بإنني جندي إسرائيلي. فأجابتها على الفور قائلاً: لا تخافي وافتحي فأنا هارب من معتقل انصار وبدت علامات الفرح ارتسمت على وجهها البائس. رغم كل الفقر الذي تعيشه هذه المرأة الفلاحة بادرت فوراً الى وضع الطعام وإدخال رفاقي. ثم أعطتنا كل ما لديها من الطعام على شكل مؤونة طريق. وتابعنا سيرنا كنا نلتقي خلال مسيرنا بأبناء شعبنا المناضل الذي قدم لنا الكثير، لأننا وهذا الشعب جزء من هذه الثورة التي لن تخمد.