شكراً للرفيقة الاديبة والكاتبة زهرة حمود التي قدمت لنا الكتاب المرجع عن الأمين الشهيد بشير عبيد، بما حمل الكثير من المرويات والمعلومات والوثائق التي كلها تروي جوانب عديدة من المسيرة النضالية للأمين الشهيد.
ونحن ندعو الرفيقة زهرة، والكثيرين من رفقائنا في الوطن وعبر الحدود الى ان يعطوا موضوع الكتابة عن المميزين من رفقاء ورفيقات كان لهم حضورهم الحزبي ونضالهم، وإذا كنت قدمت في هذا الصدد ما أقدر عليه انما هذا العمل لا يغطي هذا الحضور الرائع والشاسع لحزبنا على مدى الوطن وارجاء مناطق المهجر. إني اشرت في كثير من النبذات الى العدد الكبير من الرفقاء الذين تولوا المسؤوليات ونشطوا حزبياً في فروع الحزب على مدى بلاد المهجر، وهؤلاء الرفقاء والرفيقات يستحقون ان يكون لهم حضورهم اللافت في تاريخ الحزب.
نورد هذا القليل من كتاب "بشير عبيد قائد نهضوي" بانتظار ان اكتب أكثر في وقت لاحق.
الأمين لبيب ناصيف
************
بدأت سيرتك الحزبية بيوم الفداء، يوم استشهاد المعلم في الثامن من تموز 1949، استحوذ موقف الزعيم على مشاعرك، - كما قلت لي – فقررت ان تضع حداً لترددك، وانتميت الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب الثورة والفداء.
منذ ذلك اليوم، وقفت نفسك للقضية السورية القومية الاجتماعية التي استوعبتها فكراً وعملاً مجسداً في الميدان فأطلقت لنفسك العنان بداء من بيت شباب، مسقط رأسك، تعمل في صفوف الشعب – كما تعلمت – وأنت ابن الشعب أينما كنت وحيثما وجدت.
ومن بيت شباب الى رحاب المتن بعد سنتين – إذ أصبحت مسؤولاً حزبياً عنه – لا تهدأ حركتك فمن قرية الى قرية، ومن اجتماع الى اجتماع، ومن اتصال الى اتصال، الى ان كانت الانتخابات النيابية الفرعية بين فريقين، الكتائبي والكتلوي.
كنت مكلفاً بالعمل الانتخابي، فاتصلت بك بحكم هذه المسؤولية من جهتي، وبحكم مسؤوليتك من الجهة الأخرى، لتدارس الموقف ووضع خطة للعمل.
كان ذلك اللقاء اول لقاء بيننا على الصعيد التنفيذي، وما أزال اذكر جوابك على توجيهي لك في ختام اللقاء.
قلت لك: "اننا بانتصارنا في هذه المعركة الانتخابية نكون قد حققنا ثأرنا "للجميزة"، ثأرنا لدم زعيمنا".
وكان جوابك المفعم بالثقة بالنفس والامتداد بها "سنثأر وننتصر". وجاءت نتائج الانتخابات مصداقة لتعهدك "سنثأر وننتصر".
هذه محطة وطنية أولى على طريق حياتك الحزبية وكانت انطلاقة أولى لك في العمل السياسي المحلي.
ووقعت فاجعة المالكي في دمشق في 1955، ولجأت قيادة الحزب الى بيروت كما ان رئيسه اتخذ من المتن مقراً سرياً له في ديك المحدي، فرتب هذا المقر عليك موجبات جديدة للمحافظة على سلامة رئيس الحزب ومقره والقيادة الحزبية التي كانت على اتصال يومي به.
كنت في تلك الفترة التي لم تقتصر على أشهر، بل امتدت الى أكثر من سنة، كنت مثالاً وقدوة في الانضباط والحس بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقك، في السهر الدؤوب ليل نهار، غير سائل عن راحة النوم في الليل، او عن انتظام النهار، فكان النهار والليل متصلين، لا فرق عندك بينهما، فالمسؤولية مسؤولية وعليك أداءها على أكمل ما يرام.
وهذه محطة مضيئة ثانية على طريق حياتك الحزبية، وكانت انطلاقة أخرى لك نحو العمل التنفيذي المركزي، خصوصاً بعد ان تغلبت بعقلك الواعي المتزن على الشكوك والظنون والريب التي حاول زرعها فيك صاحب فاجعة المالكي.
بدأت حياتك المركزية سنة 1959، إذ اكتشفت القيادة الحزبية فيك الجانب الادبي المشع، من نثر وشعر، فاختارتك رئيساً للجنة الاذاعية المركزية فكفيت ووفيت، ولكن لم تطل هذه الفترة، لأنك كنت تريد عملاً آخر يرضي طموحك، عملاً بقول الزعيم "تحقيق أمر خطير يساوي وجودنا"، فكان تعيينك عميداً للدفاع.
لا أريد ان أسهب في سرد ما أنجزته في هذه العمدة الخطيرة، وأكتفي بالقول إنك هيأت كل المعدات اللازمة للقيام بتلك الانتفاضة الثورية المتممة للثورة القومية الاجتماعية الاولى.
وخفض الإعدام الى المؤبد، وعدنا والتقينا في سجن القلعة في بيروت فكنت في السجن، كما كنت اثناء التحقيق صامداً، صبوراً، تتصرف بروية وتعقل فساهمت في تخفيف أعباء السجن على الرفقاء، خصوصاً بالاشتراك بالحلقات الاذاعية التي كانت تقوم بها منفذية السجن، فعدت الى أدبياتك النثرية والشعرية.
كما أنك ساهمت بالاتصالات السياسية، التي تضافرت بعد سنوات سبع ونيف من اعتقال، على فك قيود الأسر، فخرجنا في شباط 1969 من الاسر لنعيد سيرتنا الحزبية.
شاركت في مؤتمر ملكارت وساهمت في التعديلات الدستورية التي أدت الى إلغاء رتبة الأمانة، وتكريس مبدأ الانتخابات من القاعدة وفي سنة 1973 انتخبت عضواً للمجلس الأعلى فدل انتخابك على الثقة التي تتمتع بها عند أعضاء الحزب.
وكانت فترة حالكة في المسيرة الحزبية أدت الى تعديلات دستورية أخرى أعيدت فيها رتبة الأمانة فكنت من الذين نالوها وعدت الى عضوية المجلس الأعلى أميناً كما كنت في العضوية السابقة رفيقاً.
عدت لا فرق عندك بين الصفتين، فالمهم ان يتم أي أمر من الأمور دستورياً، فكان ذلك وأصبحت رئيساً للمجلس الأعلى الجديد، كما كنت رئيساً للمجلس الأعلى الجديد، كما كنت رئيساً للمجلس الأعلى السابق من سنة 1973 الى 1977.
وهذه ايضاً محطة مضيئة رابعة على طريق حياتك الحزبية التي ما ملت ولا كلت ولا وهنت دقيقة واحدة.
وبدأت المؤامرة تنسج خيوطها في الكيان اللبناني، وبدأت الاحداث الدامية فيه، فما اكتفيت برئاسة المجلس الأعلى، بل انتقلت الى الجبهة، وتسلمت قيادة جبل لبنان من عام 1975 الى 1976 وقد تعرّضت لأكثر من مهلك مميت.
فهل يمكننا ان ننسى كيف نجوت بأعجوبة من القصف الذي استهدف مركز القيادة في عاليه؟ وبهذه المناسبة هل ننسى كيف نجوت من كمين في مدينة بيروت كان يمارس هواية القتل على الهوية؟
ودخلت معترك السياسة في الكيانات السورية والدول العربية، فكان لك نشاط لا يعرف الراحة إن في بغداد او في طرابلس او في العواصم الأوروبية، فعدنا لنلتقي في باريس عام 1976 نستعرض ما يجري على مسرح الحياة في بلادنا، وكلنا أمل ورجاء وكلنا ايمان بالغد الذي نهيئه لأمتنا.
والآن نأتي الى العام الحالي 1980. كانت انتخابات المجلس الأعلى، فترشحت ونجحت وأصبحت عضواً فيه في 6 تموز 1980، وبدأت تمارس عضويتك بنشاطك المعهود في اللجنة الإذاعية والثقافية في المجلس الأعلى، فكان ان شاركت في آخر جلسة لها لمدة أربع ساعات.
لم نكن نعلم ان هذا العمل الحزبي سيكون آخر عمل لك في حياتك الحزبية، بدأتها يوم استشهاد المعلم والتي ختمتها باستشهادك المفجع الأليم.
منذ بداية مسيرتك استحوذ موقف الزعيم على مشاعرك في الثامن من تموز 1949 وفي 5 تشرين الثاني 1980 استحوذ موقفك أنت في الاستشهاد على مشاعرنا جميعاً دون استثناء.
وهذه المحطة المضيئة أضيفت على المحطات المضيئة السابقة، أشعة نورانية سرمدية ستظل خالدة في المجتمع الى ابد الابدين.
************
تزامن نيل بشير للشهادة الثانوية مع إعلان أنطون سعادة قيام الثورة السورية القومية الاجتماعية الأولى، فراح يتابع الاخبار بلهفة وقلق. "ويوم سمع باستشهاد الزعيم تلقى الخبر بحزن كبير، فانزوى عن الاهل معتصماً بصمت طويل، وعزل نفسه لأيام، وأعاد قراءة ما توفر له من كتابات المعلم، وقرر نتيجة ذلك الالتزام بالعمل الحزبي انتصاراً لدم سعادة".
فيما بعد، وأثناء محاكمته إثر المحاولة الانقلابية، قال بشير رداً على سؤال المحقق في جلسة استجوابه بتاريخ 20/03/1963: "عام 1949 كنت ذاهباً الى بيروت لأخذ نتيجة شهادتي وكان وقتها مصرع الزعيم، فهزّني مصرعه، وكنت أقرأ مبادئ الحزب فاعتنقت المبدأ القومي الاجتماعي".
عرفت النهضة القومية الاجتماعية طريقها الى العديد من أبناء بيت شباب قبل بشير، منهم ميشال فضول [1]وجورج مصروعة[2]، ولكن بشير كان أكثرهم نشاطاً وحيوية في متابعة العمل النهضوي، كما ذكر جاره ورفيق طفولته المحامي اللامع إميل بجاني، الذي رأى في بشير "الشاب والانسان صاحب الروح الجميلة والحيوي النشيط، انغمس في العمل الحزبي باندفاع وحماس منقطعّي النظير، حتى انه نشر العقيدة بين أبناء جيله، فهو من اقنع معظم شباب البلدة بفكر سعادة ودفعهم للانتماء الى الحزب، وعلى الرغم من وجود قوميين في البلدة بفكر انتموا قبل بشير لكنهم لم يتمتعوا بالحيوية والاندفاع مثل بشير، تواصل مع كل شاب على حدة يحاوره بأسلوب مقنع، وهو المتمكن من العقيدة والمتعمق في فهمها ونشرها، لقد كان الشاب مبشّراً بكل ما في الكلمة من معنى".
مختار بيت شباب الرفيق اسعد غصوب قال عن تلك المرحلة: "كنا صغاراً، وقد وعينا على طلعة بشير الصاروخية كان "قبضاي"، محبوباً صاحب حضور متميز، نشطاً في العمل الحزبي الإذاعي، حضر معظم أبناء بيت شباب الحلقات التي قدمها، وكانت الحلقة الواحدة تضم العشرات، يحدثهم بأسلوبه السهل العميق، وكلامه المقنع، لقد تشرّب العقيدة القومية في وقت مبكر من عمره، وعلى يده انتمى معظم من تابع عمله الإذاعي، وانا منهم، وفي احدى الفترات عُيّنت مديراً لمديرية بيت شباب".
"قرر بشير ان يكمل دراسته الجامعية في مجال الادب العربي، لكن الظروف لم تكن لصالحه حيث بدأ يتعثر عمل والده، ما اضطره للبحث عن فرصة تمكنه من المساعدة في إعالة الأسرة، وهكذا دخل سلك التعليم وعُيّن استاذاً في مدرسة راهبات قرية عين الخروبة، (المجاورة لقرية والدته المياسة)، هناك استأجر غرفة صغيرة تأويه خلال أيام التدريس، وفي العطل يتنقل بين بلدته ومقر عمله سيراً على الاقدام، لا تتعبه حقيبة ملابسه، ولا أواني زوادة الطعام. وما اعاقته مشقة العيش عن التزود بالمعرفة، والعمل على نشر مبادئ العقيدة بين طلابه، غير عابئ بالمضايقات التي حاصرت عمل القوميين بعد استشهاد سعاده، ولا القرار الذي قضى بحل الحزب عام 1949.
ومع ان مسؤولياته العائلية والحزبية على ازدياد، كان الشاب يجد الوقت للتواصل مع الاهل والتمتع بزيارة الأقارب في قرية أمه، والتي اعتمد أهلها، زمن بساطة العيش، على خيرات ارضهم، من زراعة الحبوب والخضار واشجار الفاكهة الى تربية الدواجن.
طالما تردد بشير على سكان بيوتها القليلة المتواضعة، يصغي الى من يشتكي له هموم الحياة وأعبائها، وصعوبة تأمين حاجات الأولاد، فيعمد الى التخفيف عنه، وينصحه بأن "لا يعبأ بثياب أولاده المرقّعة ولا بأحذيتهم القديمة، بل عليه ان يحافظ على صحتهم وإطعامهم وتعليمهم، ويشدد على أهمية التعليم، فالعلم عنده سلاح المستقبل الجيد".
لم تستهوِ مهنة التعليم بشير طويلاً، فتركها بعد عامين، وحاول متابعة تحصيله العلمي، ولكن الظروف عاكسته مرة أخرى، "فالتحق بوظيفة في وزارة البريد بوساطة من المحامي إميل لحود الذي كان صديقاً للعائلة".
انطلق بشير في نضاله داخل صفوف الحزب. "يتثقف خلال مطالعاته ومناقشاته مع الآخرين، ويثقف الشباب في الحلقات الاذاعية، هو بركان عمل وإنتاج يمشي ليلاً كاملاً مسافات طويلة يذوق فيها كل أنواع القهر والتعب المضني. يقطع الفصول، قيظ الصيف وعواصف الشتاء وثلوجه، كل ذلك من اجل حلقة إذاعية او محاورة مجموعة من الشباب. كان يسير على قدميه من صنين الى بيت شباب الى انطلياس ويعود فجراً، لينام ساعات قليلة قبل ان يعاود نشاطه في اليوم التالي".
ترافقت تلك المرحلة مع تولي بشير للمسؤوليات الحزبية، التي تدرج فيها من مذيع لمديرية بيت شباب الى مدير لتلك المديرية، ولعل إخلاصه وجهده المتواصل أهّلاه الى تحمل مسؤوليات على نطاق أوسع، حيث عيّن ناظراً للتدريب في منفذية المتن منتصف الخمسينات، مع المنفذ العام إميل رعد، ثم منفذاً عاماً أواخر العام 1957، وقد تنكب مهامه بكل جدية وكفاءة، حيث قام في العامين 1956 و1957 بدور كبير في تنظيم المخيمات التي أقيمت للقوميين القادمين من الشام، أولى هذه المخيمات اهتماماً خاصاً، "حيث كان مركز المنفذية في بيت شباب مسؤولاً عن تموين المخيمات، وفيه مطبخ يقوم بإعداد الطعام لعناصره".
"حرص على التنظيم وتوحيد ملابس المشاركين في الدورات التدريبية، فكلف شقيقته الرفيقة عفيفة بحياكة كنزات صوفية رصاصية اللون يعتلي صدرها علم الزوبعة".
************
لم يقتصر نشاط بشير على العمل الإذاعي والتثقيفي، الذي أوصل خلال توليه مسؤولية المنفذ العام، بعد الأمين إميل رعد، عدد الرفقاء العاملين في منفذية المتن أواخر الخمسينات الى ما يزيد عن الالف عضو، بل نفذ كل مهمة أوكلت إليه من دون أي تردد او حذر، خصوصاً يوم تولى مسؤولية ناظر تدريب، "ففي العام 1956 كان جبران الأطرش[3] ينقل السلاح من ضهور الشوير الى الضبية، ومنها الى منطقة الشياح في بيروت لنقلها الى فلسطين، وفي إحدى المرات أحبطت العملية، نُقل السلاح وخُزّن في منزل بشير في بيت شباب"
"ذكر الرفيق أسعد عبيد "عند تسلم الأمين بشير مسؤولية منفذ عام في المتن الشمالي، اكتسبت ممارساته الحزبية والنضالية خبرة عميقة ونسبة أكبر من النضج في المسؤولية. واتضحت ميزات قدرته القيادية في تحمل المسؤولية الإدارية الأولى في إحدى مناطق جبل لبنان، وقد مارسها بشير بقساوة وعدل، ذلك لأنه تقيد دائماً بالنظام واعتبر الانضباطية من ركائز البناء العقائدي السليم. وقد توصل مرة الى اقتراح طرد شقيقه من الحزب، لا لشيء إلا لأنه يلهو أحياناً كثيرة ولا يعمل بالأخلاقية التي لا يقبل أن تشوه او تحور. فهو يعتبر انه لا يحق له، أي أسعد، ان يكون في صفوف النهضة القومية الاجتماعية. ولا عجب بذلك، فبشير شديد الحرص على ممارسة مناقبيته الحزبية داخل البيت وخارجه بكل انسجام وقناعة (...) لم ينم بشير ليلة كاملة، احياناً، كان يتابع كل صغيرة وكبيرة، واثناء أحداث سنة 1958، وبينما كان عائداً الى البيت في إحدى الليالي، لاحظ وسط تجمع للقوميين كانوا يقومون بالحراسة سيجارة مشتعلة في ظلام الليل المعبأ بالتوتر والخطر. فاقترب منهم وطلب من صاحب السيجارة ان يتقدم منه، ثم عاقبه بصرامة لعدم تقيده بالأصول العسكرية في ظروف طارئة. تدل هذه الحادثة على مدى حرص بشير وتنبهه لسلامة رفقائه، هو ذلك القائد النظامي الرهيب! الذي اكتسب الخبرة في القيادة وازدادت شخصيته قوة وجذرية. من هنا تسلم مسؤولية عمدة الدفاع في المرحلة التالية.
لقد عُرف بشير باتخاذه المواقف الجريئة، من دون ان يلتفت الى ما يصدر عن أجهزة الدولة اللبنانية من قرارات قد تعيق المسيرة الحزبية، فمن ضمن المهرجانات التي أقيمت في تلك المرحلة، قررت قيادة الحزب ان تحيي ذكرى استشهاد الزعيم (8 تموز 1961) في ضهور الشوير بمهرجان مركزي، وأخذت تعد العدة لذلك. حصلت على ترخيص من وزارة الداخلية اللبنانية لهذه الغاية، لكن الأجهزة الأمنية عادت وأصدرت قبل نهار واحد من تاريخ المهرجان قراراً بمنعه، لكن الحزب واصل الاستعدادات.
و"تقرر ان يبيت المشاركون من قيادة الحزب مع الرئيس ليلة ما قبل الاحتفال في ضهور الشوير، وحجزت لهم الأماكن في فندق القاصوف. كثفت القوى الأمنية من إجراءاتها وأنزلت حواجز في كل الطرقات الموصلة الى المتن الشمالي، للحيلولة دون وصول القوميين الى ضهور الشوير، لكن عميد الدفاع اتخذ كل الاستعدادات القاضية بإقامة مهرجان حاشد، وأصدر قراراً كلّف بموجبه مديريتي الاشرفية الأولى والثانية بالحفاظ على أمن المهرجان، كما طلب من جميع المنفذيات وجوب الحضور والوصول بشتى الوسائل الممكنة".
"استيقظ أهالي البلدة صبيحة المهرجان ليجدوا ان بلدتهم تحولت الى ثكنة عسكرية، يتظلل كل صنوبرة فيها دركي بكامل سلاحه. حدد موعد المهرجان الساعة العاشرة صباحاً. لم يكن قد وصل أي قومي الى مكان المحدد حتى العاشرة إلا ربعاً، وفجأة بدأ تدفق القوميين، من مختلف الجهات الموصلة الى ساحة الاحتفال، وصلوا بصفوف نظامية غطت شوارع وساحات عاصمة النهضة، تسلقوا تلال المنطقة وأحراشها رجالاً ونساءً وشيباً وشباباً، جاؤوا من مختلف المناطق اللبنانية، حتى تجاوز الحضور العشرين الفاً ولم يتجرأ أحد من القوى الأمنية على الاقتراب من المهرجان".
حرص بشير على امن المهرجان، "مشرفاً على كل شاردة وواردة فيه، برزانته المعهودة وهدوئه وصمته. فكان العين التي لا تغمض عن أي حركة، شعر عميد الدفاع بحال من الارباك بين مجموعة من القوميين، فتحرك بسرعة ليكتشف ان هناك أحد مُخبري المكتب الثاني مدسوساً بين الحضور، حاول المخبر الفرار عند انكشاف امره، وحدث هرج ومرج، لكن سرعان ما ألقي القبض عليه، في هذه الاثناء اعتلى بشير المنصة الرئيسية ليعلن الخبر ويطالب الحضور بالهدوء ومتابعة وقائع الاحتفال".
************
أخذت عفيفة موقع الام الحنون، ودأبت على زيارة شقيقها وتزويده بكل ما يمكنها ايصاله له من مأكل وملبس وحاجيات خاصة، تسمح بها إدارة السجن، وتحاول تهريب تلك التي لا يسمح بها في شتى الوسائل.
مع بدء المحاكمات تقرر تعيين محامين للدفاع عن القوميين، "حاولت عفيفة الاشتراك مع جميع العائلات في محاولة لتوكيل محام للجميع، ولم تلق أذاناً صاغية، فقررت ان تجد محامياً لامعاً يتولى مهمة الدفاع عن أخيها، وقصدت مكتب محام مشهور يدعى موسى برنس، الذي رحب بها ترحيباً حاراً، وابدى استعداده للمساعدة، ولما سمع اسم بشير عبيد تملص منها بأسلوب لبق، واعتذر عن تقبل المهمة، خرجت من مكتبه حائرة في امرها، وبينما هي هائمة على وجهها في شارع المعرض، تحدث نفسها وتسأل كيف ستتصرف، وهي الملاحقة من قبل مخبري المكتب الثاني كيفما سارت، التقت وجها لوجه برجلين احدهما ملتحِ، استوقفاها وقد عرفا انها شقيقة بشير، ثم عرفا بنفسيهما: قبلان عيسى الخوري والأب سمعان الدويهي من زغرتا، وسألاها عن أحوال اخيها وهل وجدت محامياً يدافع عنه ؟ وعندما اخبرتهما عما حدث معها قبل دقائق، قالا اتبعينا، فسارت خلفهما باتجاه مبنى العازرية، وهناك ارشداها الى مكتب المحامي بدوي أبو ديب، فصعدت الى مكتبه على الفور وشرحت له الامر، وكان جوابه انه لن يباشر الدفاع عن بشير حتى يلتقيه ويأخذ منه توكيلاً بالمهمة.
وفي اليوم التالي قصدته لتعرف موقفه، فأكد لها انه سيدافع عن بشير من تلقاء نفسه، ومن دون ان يكلفه أحد وسيتعامل مع القضية وكأنه يدافع عن ابنه، وعندما سألته عن التكاليف أجاب انه سيدافع عنه من دون ان يتقاضى أي بدل اتعاب".
ذات يوم حضر محام من آل الشمالي (والد الشهيد فؤاد الشمالي)، وطلب مقابلة عبد الله سعادة قبل صدور الاحكام بيوم واحد، وفجأة فتح الرقيب من آل ابي صعب جميع الزنازين، على غير عادة، فتزاحم الجميع باتجاه الحمامات، وامام المغاسل اجتمع العشرات من المسؤولين، وبحكم جيرة المستوصف من زنزاناتهم، حيث كنت موقوفاً (الرفيق محمود عبد الخالق، الأمين لاحقاً) بسبب التهابات اصابت قدمي، أتيح لي ان أرى وأسمع كل ما حدث وقيل، في تلك اللحظة تقدم بشير من سعادة وسأله: يا حضرة الرئيس ماذا اخبرك الأستاذ الشمالي؟ عندها انتصب عبد الله وجال بنظره على كل الوجوه وقال: بلغوا الجميع، عليكم التماسك، ممنوع الخوف، او اصفرار السحنة، او تغير اللون، كلنا سنستقبل الحكم بابتسامة، كتلك التي استقبل فيها سعاده حكم الإعدام، هناك ما يقارب السبعين او الثمانين إعداماً، بلغوا الجميع أيضا ان عبد الله سعادة لن يموت وحيداً، بل ستكون رجله "معقلة" لثلاثة آلاف "عكروت" من هذا البلد، عندها توجه بشير الى الاسرى بكلام واثق يحملهم على التصرف بصلابة وشجاعة، لأنه خشي من الانهيارات الجماعية ساعة صدور الاحكام".
[1] ميشال فضول: هو ميشال سعيد فضول الأشقر، انتمى الى الحزب عام 1938، اسس مديرية بيت شباب. تولى مسؤوليات محلية. درّس الادب الفرنسي والعربي والتاريخ في الداودية ومدرسة الناشئة الوطنية التي انشأها مع الرفيق جورج مصروعة. اتقن اللغتين العربية والفرنسية. عمل في الصحافة. صاحب شركة للطباعة والتجارة العامة ساهم في اصدار جريدة "الجيل الجديد"، "الاجيال"، "الصفاء" و"الزوابع". نعدّ نبذة عنه.
[2] جورج مصروعة: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
[3] جبران الأطرش: كما آنفاً.