في بوانس أيرس عام 1943، يظهر لسعاده كتاب بعنوان: "الصراع الفكري في الأدب السوري"، فيه يعود إلى بحث قضية الأدب عموما، ومسألة التجديد الأدبي خصوصاً، بحثاً فلسفياً دقيقاً. وقد كانت مناسبة هذا البحث، كما يقول في المقدمة، ما لاحظه من احتكاك وتصادم فكريين " في النظر إلى الشعر وأغراضه، عند إثنين من كبار أدباء ذلك الزمان، بمناسبة تعليقهم على ديوان "الأحلام" للشاعر شفيق المعلوف". وقد نشرت آراء هذين الأديبين، الواردة في رسالتيهما إلى الشاعر، مع تعليق للشاعر في مجلة "العصبة" التي كانت تصدر في سان باولو، وذلك في عدد شباط 1935.[1]
وكان أهم ما ورد في رأي الريحاني، وصفه للشاعر الحقيقي، بأنه "مرآة الجماعات ومصباح في الظلمات، وعونٌ في الملمات، وسيفٌ في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصوراً في الحب، والحكمة، والجمال، والأمل".[2]
أما عم الشاعر، السيد يوسف نعمان معلوف، فقد حرص في الدرجة الأولى، على تعليم إبن أخيه، وإرشاده في مثل قوله: "إعتنِ في مؤلفاتك المقبلة، أن تكون مبتكراً فيما تنزع إليه سواء أكان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مُقلَّداً لا مُقلِّداً، في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية، تتوقف شهرة المرء في الحياة، وقبل كل شيء، أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة."[3]
في تعليقه على رسالة عمه، يقول الشاعر شفيق المعلوف، محدّداً الشعر بما يلي: "فهو في عرفي، ذلك الشعور النابض، يصوّر للناس نفوس الناس، ولا تتعدى فائدته، في أحايين كثيرة منفعة يصيبها المرء، لدى سماع مقطوعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية."[4] ثم يضيف قائلا: "وقد أكون على خطأ، في الوجه العملي النافع، ولكنني على حق، من وجهة الفن الخالد". ويختم كلامه بقوله: "وأنا من هواة الشعر الخالد، الذي لا يرتبط بالأزمنة".
وتجدر الملاحظة، أن الرسائل الثلاث التي نُشِرت عام 1935، كانت قد كُتِبت عام 1926. كما تجدر الملاحظة، أن الريحاني، وعمّ الشاعر، قد اتفقا على توجيه الشاعر، إلى الإبتعاد عن شعر البكاء والنواح، مما دفع الشاعر، إلى إضافة حاشية ظهرت في مجلة "العصبة" عام 1935، يعلن فيها إنكاره أسلوب البكاء والشكوى، الذي ظهر في قصيدته "الأحلام"، ولكنه يبرر إنتحاءه ذلك النحو، بردّه إلى عامل السن، الذي نظّم فيه القصيدة، عندما لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة، وهي سن الفتوة والقلق والحيرة.[5]
المآخذ التي يسجّلها سعاده على رأي الريحاني، تتلخص في وصفه لكلام الأخير بأنه كلام "غامض ومشوّش"، لا تحديد حقيقي فيه ولا وضوح، لأن ما ذكره من أن الشعر "مرآة الجماعات..." ينطبق على الصحفي والفيلسوف والعالِم والقائد، وغيرهم من العظماء، الذين كانوا "مصباح الظلمات" و "سيف النكبات"[6]. ثم أن إنكار الريحاني على شفيق المعلوف، نواحه وبكاءه وتقبيحه أن يجري الشاعر في هذا المجرى، يظل كلاماً لا طائل تحته.
إن الناقد الحقيقي يجب أن يكون كلامه منتجاً دروساً في الخروج بالشعر والشعراء، من عهود التفجّع على الأطلال، إلى عهد جديد فيه كل الرجاء والإيمان والإرتقاء. وهذا ما لم يفعله الريحاني، فظل كلامه وعظاً لفظياً لا غناء فيه. أما إرشادات عمّ الشاعر، فتمتاز بأنها دعوة إلى النزعة الفردية، عن طريق طلب الشهرة الفردية، وجعلها غاية الفكر والمسعى،" كأن أهم شيء في طبيعة الفكر والعمل، أن يكون المرء غير تابع غيره، وأن يكون متبوعاً".[7]
ويرى سعاده، أن حالة التشويش والتخبط في فهم القضية الأدبية عموماً، والشعر خصوصاً، لا تقتصر على الأدباء السوريين الثلاثة المذكورين آنفاً، بل هي حالة تشمل أكبر الأدباء السوريين اللامعين في العالم العربي. وهنا يقدم لنا نموذجاً، هو أحد كبار أدباء مصر، الدكتور محمد حسنين هيكل بك، الذي كتب في "الهلال" عام 1933، عدد حزيران، كلاماً يقول فيه:
"إني أفهم أن يكون التجديد، هو أن يشعر الشاعر، أو الكاتب، بشعور العصر الذي هو فيه، ويعبر عن ذلك تعبيراً صادقاً، ممثلاً لصفات ذلك العصر، الذي وضع فيه هذا التعبير".[8]
ثم يحاول أن يحدد الصفات الخاصة، التي على الشاعر إبرازها، فيقول بأنها:
"كل ما يقع تحت الشعور، بحكم البيئة والتعبير، تعبيراً صادقاً عن الحياة التي تحيط بهذه البيئة، الظروف التي تلابسها، وتجعل لها صبغة خاصة، بحيث يُعد الخروج عن هذه الصبغة، خروجاً عن تلك البيئة".[9]
هذا مثل آخر عن حالة الفوضى السائدة في عالم الأدب. فالنظر في القضية الأدبية، والتجديد الأدبي، يجري كلاماً في كلام، فما هو الشعور بحكم البيئة، وكيف تكون؟ وما هي الحياة التي تحيط بهذه البيئة، وكيف تكون؟ وما هي الظروف التي تلابسها؟ وغيرها من الأسئلة التي يثيرها الدكتور هيكل، في وجه من يقرأ كتابته الغامضة، المشوشة، المضطربة".[10]
الحق، أن سعاده كان يعجبه أدب الأدباء، وشعر الشعراء، من الناحية الفنية. كل نقده كان منصبّاً على التقليد، وعدم الإبداع، وعلى الأدب الذليل، الذي يضرّ بنفسية الناشئة في المجتمع.
إليك كلام سعاده نفسه في هذا الصدد، يقول وهو في مجرى نقده لأحد مقالات السيد زكي قنصل، ما يلي:
"إن الحزب السوري القومي، لا يريد إلغاء أنواع الفن الأدبي، ولا يريد أن يصبّ الأدب في قالب فني واحد. ولكنه يهتم بالدرجة الأولى، بالأفكار التي يتناولها الأدب، وتكون ذات صفة أساسية، أو فلسفية عامة، تؤثر في نفسية المجتمع".[11]
لنتحوّل الآن إلى شرح نظرية سعاده نفسه، في الأدب وفي التجديد الأدبي. يعرّف سعاده الأدب، قبل كل شيء، فيقول: "إنّ الأدب، نثره ونظمه، هو صناعة، يُقصد منها إبراز الفكر والشعور، بأكثر ما يكون من الدقة، وأسمى ما يكون من الجمال."[12] يُفهم من ذلك أن الأدب، ليس الفكر بالذات، وليس الشعور بالذات، بل هو معتمد عليهما. معنى ذلك أن الأدب، لا يمكنه أن يُحدث تجديداً من تلقاء نفسه. ومعناه أن التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت. ومعنى ذلك، أن التجديد في الأدب، يتبع التجديد في الفكر والشعور، كما تتبع النتيجة علّتها. ولكن التجديد في الفكر والشعور غير ممكن دون حصول نظرة جديدة إلى الحياة. أو كما يحب سعاده أن يقول: "الأدب هو حصول ثورة روحية مادية، إجتماعية سياسية، تغيّر حياة شعب بأسره، وأوضاع حياته، وتفتح طريقاً جديدة للفكر وطرائقه، والشعور ومناحيه".[13] وكما أن التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت، فهو ليس قضية مؤرخي الأدب، فالأحداث يراها سعاده نتيجة لإبتداء تغيّر النظرة إلى الحياة في شعب، أيّ نتيجة لحصول معتقدات جديدة ومثل عليا روحية - مادية جديدة، وليس سبباً في التجديد الأدبي".[14]
وبكلمة أخرى نقول، إن الأدب والسياسة يتجددان بتجدد الإنسان. فما دام الإنسان قديماً في عقليته، رجعياً في نظرته إلى الحياة، ظل الأدب والسياسة رجعيين، وعندما يتكوّن إنسان جديد على مبادئ وتعاليم حياتية جديدة، يبدأ في الأدب والسياسة عهود جديدة، على طراز المجتمع الإنساني الجديد. على هذا الأساس الفلسفي العميق، لا يعود التجديد الأدبي، كلاماً في التجديد الأدبي، هو الهفت بعينه، بل تصبح القضية، دعوة إلى جميع الأدباء، ناثريهم وناظميهم، إلى نبذ عقلية العهود الرجعية الانحطاطية، وبناء نفوسهم في مطلب حياة جديدة، ومُثلٌ عليا، تتفق مع متطلبات النهوض الحقيقي والتقدم الحقيقي.
إن القاعدة الفلسفية العميقة، التي وضعها سعاده، لحصول التجديد في الأدب، لم يبقِها مجرد نظرية، بل إنه أجاب على السؤال الخطير، الذي يحوّل هذه القاعدة النظرية إلى واقع ملموس، أعني، كيف يمكن تغيير الحياة السورية؟ وكان جوابه ماثلاً في إنشائه الحزب السوري القومي الإجتماعي، على قاعدة نظرة جديدة للحياة الإنسانية، تعتبر الأمة مجتمعا واحدا، وتعتبر أساس التقدم والإرتقاء، أساساً مادياً - روحياً.
في النهضة القومية الإجتماعية، تغيّر الإنسان وتجدّد، وفيها وحدها، صار التجديد الأدبي والسياسي، حقيقة حياة ظاهرة في إنتاج القوميين الإجتماعيين الأدبي، وفي مهماتهم الإجتماعية.
نعود الآن إلى تجديد سعاده للأدب، لنفهم منه شيئاً جديداً، هو أن مهمة الأديب والأدب إبراز الفكر والشعور، في صورة الجمال، أو نقول أن مهمة الأديب هو التجميل، لأن الجمال، وفقاً لفلسفة سعاده الصراعية النهضوية، ليس شيئا ستاتيكياً، إنما الجمال هو التجميل، مثلما الحق هو التحقيق، والخير نشر الخير ليعمّ الأمة.
ومن هنا، نستطيع أن نفهم معنى اعتبار سعاده، كل عضو في الدولة القومية الإجتماعية، عاملاً منتجاً بطريقة من الطرق، ومعنى اعتباره الأمة كلها جيشاً من العمال المنتجين، في بيانه في الأول من أيار 1948، عندما خاطب أمته بقوله: "أيها المنتجون غلالاً وصناعة وفكراً".
فهناك إذاً، منتجون فكريون منهم العلماء والفلاسفة والأدباء، الذي مهمتهم إبراز الفكر في أجمل الصور المجازية أو الخيالية، وأسماها وأدقها، وكذلك الشعور والعواطف، دون مفارقة الحقيقة الإنسانية ومثلها العليا".[15]
استناداً إلى هذا الإعتبار، يمكننا أن ندرك الآن، أهمية حرب سعاده للرجعيين من الأدباء، لأنه رأى أن إنتاجهم لا يخدم الأمة، بل يغلبها على أمرها، بما يثيرونهم في أدبهم، من النعرات المذهبية والفئوية والخصوصية. لقد كان هؤلاء الأدباء، مجرمي الأمة على صعيد روحيتها، مثلما هم الرأسماليون البرجوازيون، مجرمو الأمة في ميدان حياتها المادية. فالحرب على المجرمين، يجب أن تستمر، حتى يسلّموا للأمة، أو تسحقهم أجيال الأمة الصاعدة.
ثمة إذن، أدبان في ساحة الصراع، أدب قديم تمثيلي، من حيث أنه يمثل الجمود والتقليد والغموض والفوضى والذل والشك والانحطاط، وأدب جديد تعبيري، يريد النهوض للشعب كله، ويطلب العز للأمة والفلاح والتقدم. وقد دعا سعاده أكثر من مرة، أدباء سوريه، إلى فلسفة الأدب الجديد، القومية الإجتماعية، ليكتشفوا فيها نفوسهم التوّاقة إلى الإبداع والمثل العليا، لعالم إنساني جديد، فيه كل أسباب القوة والتقدم والجمال والسعادة، والدعوة ما زالت قائمة.
[1] انطون سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 1 (أدب)، بيروت 1960، صفحة 9.
[2] المرجع السابق صفحة 10.
[3] المرجع السابق صفحة 11.
[4] المرجع السابق صفحة 12.
[5] المرجع السابق صفحة 12.
[6] المرجع السابق صفحة 15-17.
[7] المرجع السابق صفحة 16.
[8] المرجع السابق صفحة 18.
[9] المرجع السابق صفحة 18.
[10] المرجع السابق صفحة 19.
[11]المرجع السابق صفحة 204-205 من مقال: "الشهرة على حساب الحزب السوري القومي".
[12] المرجع السابق صفحة 29.
[13] المرجع السابق صفحة 28-.29.
[14]المرجع السابق صفحة 29-30.
[15]المرجع السابق صفحة 32