وليدٌ جديد للدكتور إدمون ملحم، أبصرت حروفه النُّور في مطبعة نائية، لكن المسافات تقترب حين نعاين مضمون الحروف بعقلنا قبل شبكة الانترنت، فنندمج مع الكاتب في وحدة روحيَّة فكريَّة لم يَنَلْ منها البعدُ القارِّيّ ولا المحيطات.
يُفرحك الكتاب بمحتواه وتماسكه ومراجعه الغنيَّة، لكنَّه يَسوؤُكَ بطباعته الرَّديئة ورقًا وحِبرًا لا يستحقّهما، لأنَّ في مطابع الوطن والاغتراب ما هو أفضل نوعيَّة وأكثر احترامًا للقارئ والكاتب على حدٍّ سواء.
لن نعرض مجمل مضمون الكتاب الواقع في 472 صفحة… حَسْبُنا الإضاءة على مفاصل أساسيَّة في هيكليَّته الفكريَّة. وسأختصر لأنَّ معظم القرَّاء باتوا يُعرضون عن المطوّلات ويفضِّلون ما قلَّ ودلْ. فالكتاب الّذي صدر بالإنكليزيَّة منذ أشهر قليلة ينحت سؤالاً جوهريًّا قبل أن يجيب عليه. والسؤال هو: ما هويَّة المرأة في بلادنا؟ طبعًا بالمعنى الحضاريّ للهويَّة. فهل هي مواطنة حائزة حقوق المواطَنة الكاملة أم أنَّها مواطِنة من درجة ثانية أو ثالثة؟ هل هي قَيْنَةٌ أو جارية أو سلعة؟ أم أنَّها كائن دونيّ مهمَّته المطبخ واستيلاد الأطفال في حين أنَّ أجره هو القمع والاستخفاف والإذلال؟
لعلَّ أهمّ ما في كلمة التَّقديم الَّتي طرَّزتْ بها مديرةُ النَّشر الكتاب يكمن في قولها إنَّ التّمكين الحقيقيّ للمرأة غير ممكن إلاَّ من خلال انقلاب في قيم المجتمع، وطبيعيّ أنَّ الانقلاب الانعطافيّ يكون بنيويًّا أو لا يكون. وعلى هذه القاعدة يُرسي المؤلِّف جهده في التَّقميش والتَّجميع والفهرسة. وما من ريبٍ في أنَّ الجهد في الكتاب واضح، مع أنَّه في الأصل مساهمة في أحد فصول كتاب كان فكرةً جنينيَّة للدكتور عادل بشارة حول المرأة في فكر أنطون سعاده، وذلك قبل أن يتوسَّع. ويكتسب الموضوع حساسيَّة إضافيَّة حين ندرك كونه بحثًا دقيقًا في أوضاع مجتمعٍ مريض ذي ثقافةٍ متوارثةٍ تجزئ القيم وتميِّز البنتَ عن الصَّبيّ، والمرأة عن الرَّجل، ما يجعلُ النُّهوض المساواتيّ في هذا المجتمع العليل عمليّةً شائكةً ومحفوفةً بالتّعقيد، خصوصًا متى كانت عمليَّة النُّهوض المطلوبة متّصلةً بأبعادٍ سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وقانونيَّة، بصرف النَّظر عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعن سائر الملحقات المدجَّجة بشعاراتٍ نظريَّةٍ جذّابة.
ينوِّهُ ملحم، بدايةً، بمفهوم الحبّ عند باعث النَّهضة وهو الحبّ الّذي صَقَلتْهُ المبادئ وقوَّمَتهُ الثَّقافة وارتفعتْ به النَّفْس، وفق توصيف سعاده. إنَّه الحبُّ السَّامي البَيِّن في كتبٍ عدَّة أهمّها: «الصِّراع الفكريّ في الأدب السُّوريّ» – «فاجعة حبّ» – «عيد سيِّدة صيدنايا» وهما القصَّتان المنشورتان في كتابٍ واحد رسائل إلى ضياء زوجته جولييت المير . إضافةً لرسائل سعاده إلى الأديبة إدفيك شيبوب، الَّتي لم تكن موضوعيَّة حين نشرتْ رسائله إليها وتغاضت عن رسائلها إليه. وأعترف بأنَّني لم أقرأ مرَّةً أو أستعِدْ مقولات سعاده في الحبِّ الرَّاقي إلاَّ وتذكّرت معها رأي الفيلسوف الأخلاقيّ الكبير إيمانويل كانط في كتابه النَّفيس «ملاحظات حول الجميل والسَّامي». وفي هذا الكتاب يَعتبر كانط أنَّ ملكة الإدراك البشريّ ترى في احتواء «السَّامي» على ما يتخطَّى الحُسْنَ العادي قيمة إضافيَّة على الجمال هي قيمة اللاَّمحدود، المتفلِّت من قيود الزَّمان والمكان والحصريَّة. ومَن يقرأ، بتعمُّق، نصّ سعاده الآسر بعنوان «لو لم أكنْ أنا نفسي» يتبيَّنْ نقاط التَّقاطع بين الرَّجُلين في ترجمة المدركات المشتركة لفلسفة الجَمَال.
صحيحٌ أنَّ فضاءات الحبّ غير محصورة بين الرَّجل والمرأة، إلاَّ أنَّ سعاده لم يُخْفِ دعمه القويّ واحترامه الكبير للمرأة. ومن يقرأ كتاباته في هذا المضمار يلفته التوقير الَّذي تعامل به سعاده مع المرأة، ومقدار التَّسامي الرُّوحيّ والأخلاقيّ الَّذي دعا إلى اعتماده في مجتمعنا المصدَّع بالتَّقاليد المتنافرة والأعراف البائدة.
ولم يَنْسَ الدُّكتور ملحم الإشارة إلى أنَّ الفتاة الَّتي انتمتْ بعقلها وقلبها وروحها إلى تعاليم النَّهضة، كانت سبَّاقة في خوض ميدان العمليَّات الاستشهاديَّة ضدَّ العدوّ المحتلّ في أحرج الظُّروف، خصوصًا بعد الاجتياح الغاشم عام 1982. ويُلقي المؤلِّف الضَّوء على أنَّ تاريخ الحزب السُّوريّ القوميّ الاجتماعيّ مفعم بأمثلة البطولة الَّتي مارسها مناضلون لم يبحثوا عن سلامتهم الشَّخصيَّة، كما مارستها فتيات لم يدَّخِرْنَ النَّجاة الفرديَّة، أو الخلود الَّذي «يكون» نصيبهنّ بفعل الإيمان الدِّينيّ. إنَّهنَّ اعتمدْنَ التَّضحية بأنفسهنَّ بفعل الاقتناع أنَّ الاستشهاد طريق إلى الحرِّيَّة والكرامة والعِزَّة. وهل ينسى شعبُنا كوكبةً من الصَّبايا في عمر الورود نفّذنَ عمليَّات استشهاديَّة في وجه الاحتلال الصُّهيونيّ على أرض لبنان، من مثيلات سناء محيدلي وابتسام حرب ونورما أبي حسَّان ومريم خير الدِّين وفدوى غانم؟ بل هل يمكننا أن ننسى ضرورة التَّمييز بين الاستشهاديِّين والانتحاريِّين، وذلك تفنيدًا لمحاولات الإعلام المدسوس، الأجنبيّ والعربيّ، أن يشوِّه العمل الاستشهاديّ النَّبيل عبر تصويره «انتحارًا» مجَّانيًّا، أو «موَّالاً» غنَّتهُ يائسات أو غنَّاه يائسون، في حين أنَّه التزامٌ مناقبيّ بقضيّةٍ نبيلةٍ يكون فيها الممات طريقًا إلى الحياة.
إنَّ مشروعات المقاومة والسِّيادة والتَّقدُّم والبحبوحة، كلُّها تحتاج إلى بنْية فكريَّة جديدة، إلى تَذْهِيْنٍ إراديّ مغاير. فالحرِّيَّة ليست قصيدة تُرتَجل في عرس كما يقول سعاده، بل هي صراع بين العزِّ والذّلّ، بين الحياة والموت، ولن يُكتب النَّصر سوى لمستحقِّيه من الأخيار والأحرار.
إنَّ نظرةً فاحصةً إلى سياق المحتويات المثبت في فهرس الكتاب، تدلُّ على التّسلسل المنهجيّ الَّذي اعتمده الدّكتور ملحم للوصول إلى أطروحة الكتاب. فالجزء الأوَّل منه يُغطِّي العوامل التَّاريخيَّة والثَّقافيَّة الَّتي جعلت النِّساء مهيمَنًا عليهنَّ في العالم العربيّ، ثمّ يتناول تجلّيات تلك الهيمنة قبل أن يصل إلى وضع النِّساء في الهلال الخصيب.
وفي الجزء الثّاني يتحدَّث المؤلِّف عن التغيّر الاجتماعيّ والمسألة النِّسائيَّة في الفترة الأولى لما اصطُلح على تسميته بعصر النَّهضة. أمَّا في الجزء الثَّالث فيعزف ملحم لحن المرأة على أوتار أنطون سعاده، فيذكر التحوّل الَّذي أحدثه الحزب في النَّظرة إلى المرأة بشكلٍ عامّ، ويضرب مثالاً على ذلك اهتمام سعاده بالتَّصدِّي للمؤامرة الَّتي حيكت ضدَّ الأديبة النَّاهضة مي زيادة. ثمَّ يشير إلى مشاركة المرأة في الكفاح القوميّ، ونشاطها الفكريّ السِّياسيّ الاجتماعيّ ضمن صفوف الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ، إلى أن يصل إلى عصر الاستشهاد، كما يُسمِّيه. ويختم ملحم كتابه باستنتاج مكثَّف جاء فيه بالاستناد إلى الكتاب الشَّهير الصَّادر في أكسفورد لسهى عبد القادر وفحواه أنَّ كلّ دولة من دول المنطقة قد شكّلتها تطوّرات تاريخيَّة مختلفة عن الأخرى، لها سماتها المحليَّة الخاصَّة اقتصاديًا وسياسيًّا واجتماعيًّا. أضف إلى ذلك أنَّ النِّساء في معظم الدول العربيَّة يُعامَلْنَ بإنكار غالبيَّة حقوقهنَّ الإنسانيَّة، وأنّ التّعامل مع المرأة مختلف عنه مع الرَّجل بشكلٍ عام لأنَّ المرأة مواطنة اسميًّا، لكنَّ التَّمييز يضرب مبدأ المساواة في الحقوق مع الرَّجل في مسائل الزَّواج والطَّلاق وحضانة الأولاد والميراث والتَّربية، وحتّى في الدّور الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، ناهيك عن التَّمييز الواضح في الأحكام القانونيَّة والعادات الاجتماعيَّة والعنف المستند إلى تفريق جنسيّ وانتهاك الحقّ الإنسانيّ. ولم يَفُتِ المؤلّف تبيانُ العوامل التَّاريخيَّة المتعدِّدة الّتي أفضت إلى معاناة المرأة في العالم العربيّ، وفي طليعة تلك العوامل سيطرة الثَّقافة البطريركيَّة الذّكوريَّة، والنّصوص الدِّينيَّة، والقيم التَّقليديَّة، والولاءات القبليَّة والعائليَّة.
في المقابل، جاء سعاده بمفاهيم جديدة تغيّر حياة شعب بأسره لو أخذ بها الشَّعبُ وطبّقها تطبيقًا معياريًّا شاملاً. فالتّعصُّب الطَّائفيّ والنَّعرات المذهبيَّة وَسَمَتْ مجتمعات العالم العربيّ بميسم التَّشكُّل المتخلِّف عن سُنّة التّطوّر. وما الإحصاءات العلميَّة المتواصلة الَّتي تُجريها منظَّمات الأمم المتّحدة ذات الصِّلة سوى دلائل صارخة على إيغال الجمهور في دورة حياتيَّة منافية للأفعال النَّفسيَّة الحرَّة. يقول سعاده: «بديهيّ أنَّ قصدنا نحن بالمبادئ ليس صُوَرًا جميلة على الورق، بل قوَّة فاعلة في الحياة حياة تعمل وتنشئ وترتقي وتحقّق وتخلق». ويبلور سعاده لوحة الصِّدام ما بين عالم النَّهضة وعالم التَّقاليد الرَّجعيَّة الملتبسة بالدّين إذْ يقول: «هذا الاصطدام طبيعيّ والتَّاريخ يعلّمنا أنَّ تحويل مجرى حياة الأمم لا يكون بدون صراع بين دوافع الاتّجاه الجديد وأثقال الوضع القديم».
وقد لَحَظَ الدّكتور ملحم في الخلاصة الّتي اختتم بها الكتاب أنَّ عمليَّة تمكين المرأة وتعزيز دورها، وهي عمليَّة تتطلَّب تغيير عقليَّة النَّاس، يمكن رفْدها بواسطة مؤسَّسات جذريَّة وأخرى غير حكوميَّة، كما يمكن أن تقوم الحركات السِّياسيَّة المدنيَّة بهذا الرَّفْد. لكن تأمين المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرَّجل مسألة تتطلَّب حلاًّ جذريًّا شاملاً وظيفته إطاحة المعتقدات الصَّدِئة، والعادات المتحجِّرة من أجل استبدالها بالعدالة الاجتماعيَّة والمناقب الديمقراطيَّة والكرامة الإنسانيَّة… على أنَّ ذلك يستلزم القيام بإصلاحات أوّلها: إدانة المعايير الطَّائفيَّة وإلغاؤها. ثانيًا: اعتماد العلمنة الشَّاملة باعتبارها فلسفة حياة ينبغي تعميمها في جميع المؤسَّسات. ثالثًا: يتطلَّب ذلك بالطَّبع فكرًا علمانيًّا يُنتج تربيةً علمانيَّةً وقوانين علمانيَّة تُنشئ مواطنًا مدنيًّا متنوّرًا يؤهّله الوعي القوميّ لمعرفة إكسير التّقدّم، وفي لغة سعاده: تنشئ إنسانًا جديدًا معنيًّا بمهام النِّظام الجديد انخراطًا وإدارةً وتطويرًا. كلّ ما عدا ذلك باطل، وباطل الأباطيل أن لا نعترف بالمرض، وأن لا نقبل العلاج حلوًا كان أم مُرًّا.
إدمون ملحم، نساء سوريَّات: نضالهنّ في المجتمع وتمكينهنّ من خلال الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ، طبعة أولى، ملبورن، 2018.