1987 – ميخائيل غورباتشوف يُخرج من (كمّه) البيروسترويكا، ويجلببها بـ (الغلاسنوست).
1988 – فرنسيس فوكوياما يتلقّف الهدية، ليضع مقالة: نهاية التاريخ.
1991 – يتفكك الاتحاد السوفيتي.
1988 – فرنسيس فوكوياما يتلقّف الهدية، ليضع مقالة: نهاية التاريخ.
1991 – يتفكك الاتحاد السوفيتي.
1992 – فرنسيس فوكوياما يوسّع مقالته لتناسب الحدث، فيصدر كتاب: نهاية التاريخ والانسان الأخير.
هذه هي اللحظات التراجيدية، التي مكّنت الليبرالية الجديدة، أو الليبرالية الديمقراطية، أو الرأسمالية، من تشييع الماركسيّة بـ (تجلّيّاتها الدولتية – السياسية)، وعممت خبر الموت وحالته، ليطاول العقائد والايديولوجيات البعيدة والقريبة، ليسود مصطلح: موت الأيديولوجيات أو نهايتها، ولتدّعي الرأسمالية التي تجدد نفسها، متشاوفة، أنّها وحيدة في هذا العالم!!
عمَّ خبر (نهاية الأيديولوجيا) وطرق بابنا بصخب، فانتفضنا وفتشنا سريعاً عما يبعد عنّا هذا (الزؤام)، الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل! فلم نجد من سلاح بين أيدينا سوى سعاده لنشهره ونضعه في المواجهة، فهو جاهز، مستنفر، مستعد دائماً، بخطابه ولغته ومنهجه وأدواته.
هكذا اعتمدنا: راهنيّة سعاده.
من حينها، وإلى اليوم مضى هذا الوقت الطويل، ولا زلنا بين الحين والآخر، وكلّما داهمنا مستقصٍ يبحث في واقعنا ويشير إلى مستواه وينقّب في ظواهره، وربما يتمكّن من كشف عوراته التي أصبحت على شريط الشيوع الإعلامي… لا زلنا نواجه هذا التحرّش المؤلم بتلك العبارة الوقائية الفريدة: راهنيّة سعاده.
في خلال هذا الوقت الطويل، وفي ذلك الإشهار الدائم لهذا الترس الدفاعي، ثمّة ما يشير إلى أنَّ (راهنيّة سعاده) أصبحت مثقلة بحمولات وإشكاليات، حوّلتها إلى (ندبة) وعلامة مميزة في وجه فكرنا الصبوح!
لماذا، نحن مسكونون دائماً، وخصوصاً الآن، بهذا الهاجس الذي يدفعنا لتقديم صكِّ أحقيتنا في أن نكون من بين الحضور في هذا التاريخ الذي فيه أمتنا، والذي تتوالى حقبه علينا وعليها؟
وَمَن ذلك الذي أقلق طُمأنينتنا، وقضّ مضجعنا واسترخائنا معتبراً أنَّ سعاده قضى وخطابه وُضِّبَ على رفوف مكتبات التراث الباردة، ولم يعد مُغيّراً لوعي مُرتجى، أو مُكونّاً لعقل تهالك من عتقه وصدئت محتوياته وعَقُمت سلالة الخلق والابداع فيه؟
أترانا لا نجيد تقديم كشوف الحسابات؟ التي يبدو ألاَّ بدَّ منها بين آن وآخر؟
هاكم كشف حساب أوليّ…أوليّ فحسب، ببعضٍ من الأمثلة/النماذج، علّه يعيد ترتيب الأطر المنهجيّة التي يمكن قراءة سعاده من خلالها.
كشف حساب
ماذا يفعل سعاده، بقدرة وطبيعة ومحتوى أسئلته وتساؤلاته المفتوحة المؤسِسة لذلك النسق المنهجي الذي لا يزال خارج الاستخدام الفكري والفلسفي العام؟ أسئلة سعاده التي بدأ بتشييدها منذ قرن، مِنَصَّة وحيدة في هذا الفضاء من ثقافة الأجوبة الجاهزة المستّبدة، التي تفرضها الأرومات الدينية والمذهبيّة فضلاً عن تلك المسمّاة قوميّة، وتلك المستوردة مع مُنتجات تفكيك المجتمعات وصياغة التابعيات؟
ومذهلٌ إذ يُشهر (النسبية) في أقصى معنى لها، فكل مطلق نسبيّ مهما قيل عنه أنّه مطلق! فلا يستثني وضعاً، ولا فكراً مقدّساً أو غير مقدّس، فيما المشرق وجواره كان ولا يزال غارقاً في مستنقع المطلق الراكد والمختنق بجموده!
مذهلٌ أن يستعير المفكّر المغربي، وصاحب (نقد العقل العربي) محمّد عابد الجابري، سؤال سعاده التأسيسي: مَن نحن؟ في تسعينيات القرن العشرين، أي بعد أكثر من ستين عاماً على صياغة سعاده له، ومثله يفعل المفكّر السوري المعروف، وصاحب (من التراث إلى الثورة) طيب تيزيني، وفي توقيت الجابري نفسه… يفعلان ذلك ويكون مطلوباً من فكر سعاده تقديم وثائق أهليته للحداثة!!
مذهلٌ كيف أنَّ سعاده، في خطاب الأول من آذار من العام 1938، قدّم كشف حساب لتاريخ حزبه ومراجعاً لدعوته ومجريات أحداثها، فيما الفكر السوري عموماً لم يتجرأ على مقاربة نفسه إلاَّ بعد هزيمة العام 1967، عندما استعار المفكّر السوري المعروف، صادق جلال العظم مصطلح (النقد الذاتي) من القاموس الماركسي – الشيوعي، ووضع كتاباً بهذا الاسم ليُكّرّس كـ (ناقد فذٍّ)!!
بل، ومذهلٌ على نحوٍ خاص، كيف أعاد سعاده النظر في الحدِّ الشرقي للوطن السّوري، في تجاوز منهجي ومعرفي للذات، نادر واستثنائي، فرضه التزامه العلمي بنتائج الأبحاث والتنقيبات التي يقوم فيها، ليؤكد أنَّ سؤاله التأسيسي: من نحن؟ ليس فاتحة تزيينية للترفيّه الفكري، بل فاتحة منهجيّة عميقة لمواجهة تاريخ مضطرب ملتبس غامض، أطبق على هذه الـ (نحن) واحتجزها في تلافيفه السميكة وتحت طبقاته الكتيمة. يفعل ذلك سعاده، فيما من استعار سؤاله في نهاية القرن العشرين، بقي تحت سطوة الجواب الطافي فوق تلك الطبقات، فجاءت استعارته تزيينية استعراضيّة، سرعان ما تذبل على باب التاريخ الذي لا يمكن فتح أبوابه إلاَّ بتلك المفاتيح الخاصة من طراز: مفاتيح سعاده.
مذهلٌ كيف أنَّ المفكّر السوري المعاصر، وصاحب (نقد نقد العقل العربي) جورج طرابيشي، يصل في بحثه الموسوعي إلى النتيجة التي تعرّي نظريّة (الأصل الاغريقي) للفلسفة، وتعود بهذا الأصل إلى سورية، من حيث حسم سعاده، مقارعاً (المركزيّة الأوروبيّة)!
بل، ومذهلٌ كيف أنَّ فرضية الهجرات الساميّة قد سقطت بنتائج حفريات الاركولوجيا، ومنهج التحليل التسلسلي التاريخي، الذي اعتمده سعاده، ولتعيد كتب التاريخ صياغة مقدماتها من حيث بدأت الحضارة في سورية من المصطبة العليا لنهري الفرات ودجلة وليس من المصطبة السفلى!
وهل من انتبه إلى تلك الـ (نا) العظيمة في تعريف النهضة، وفي تقرير النظرة الجديدة للحق والخير والجمال، تلك التي تجمع ما بين الفلسفة النسبية والشخصية القومية، فشخصيتـ (نا)، ونفسيتـ (نا) التي تعبّر عنها عقيدتـ (نا)، تمتلك نظرتـ (نا) في رؤية الحق والخير والجمال المرئيين بالـ (نا).
وبترشيق لمنهجية كشف الحساب هذا، تكشف لنا الـ (مَن) التساؤلات التي تجيب عن نفسها:
مَن استشرف الخطر الصهيوني باكراً جداً وكشف طبيعته ومقاصده؟
مَن استشرف الخطر التركي وكشف طبيعته وحذّر من مرجعياته ومقاصده واتجاهاته؟
مَن قال إنَّ هذه الاستقلالات الكيانية ليست سوى استقلالات ممنوحة، والاستقلال الحقيقي لم يُنجز بعد؟ ولهذا سقطت الكيانات واحدة بعد الأخرى، ولا تزال!
بل، مَن حسم أنَّ قضيّة فلسطين، هي قضية قومية وليست قضية إسلام ويهود، كما حسم أنْ لا شأن لمصر والسعودية، وأيّة جهة غير سوريّة في تقرير مصيرها؟ يمكن ببساطة رؤية (العرب) وكيف اختصروا فلسطين بـ (المسجد الأقصى)، وها هم سيأتون للصلاة فيه وتنتهي القضية!
مَن كشف الفكر الانعزالي وشخّص طبيعته وحدد مرجعياته ومآله؟
مَن كشف الفكر العروبي الوهمي، وحسم مآله بالإفلاس؟
مَن أعطى للبترول صفة السلاح الانترنسيوني، التي لم تُكتشف من مالكيه إلى العام 1973؟
مَن قال عن الأمم المتحدة إنّها جمعية الأمم المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؟
مَن حسم أنَّ واقع الصراع في العالم هو صراع المصالح، وهو المنهج الذي يمكّن من رؤية الرأسماليّات العالميّة الكبرى ذات الديمقراطيّات العريقة! وكيف تحتضن الأصوليّات منذ قرن وإلى الآن؟
مَن أضاف كلمة واحدة إلى بنية علم الاجتماع ومصطلحاته، منذ ابن خلدون وإلى الآن؟
مَن أنتج أطروحة (توحيديّة) لديانات سورية، من شأن الأخذ بها، التمكّن من كسر حلقة التدمير التي تجدد ألغامها على نحوٍ تلقائي ومتواصل؟
مَن حرّر العقل السوري من معطّلاته وأطلقه حراً ناقداً بنظام فكري إبداعي؟
مَن مَرجِعِيّتُه، أنتجت حركة حداثة فكريّة – أدبيّة – شعريّة، تكاد تكون يتيمة في تاريخنا المعاصر؟
مَن أضاف جملة تجديديّة فلسفيّة واجترح منهجاً فلسفياًّ مكّنه من رسم طريق الاستقلال الفلسفي؟
مَن تجرّأ على اعتبار الفلسفتين الماديّة والروحيّة غير قادرتين على الاكتفاء كلٍ منهما بنفسها، وقدّم المدرحيّة حلاً بمرجعيات تعود في عمقها إلى خط العقل السوري؟
مَن ومَن ومَن…؟
يبدو أنَّ الـ (مَن) لم تعد تكفي كفاتحة لتقديم ما يمكن أن نصفه بـ (المُنتج الاستثنائي) الذي لا يزال وحيداً، فريداً، وأكاد أقول عجيباً، في هذا العالم… ما هو؟
قدّمت الفلسفة الرواقية (الانسان) كتعبير مُوحّد لـ (نوع) كائن حي موجود على هذه الأرض، فحسمت بذلك هوِّيته ككائن، وأسست بذلك لفلسفة الأخلاق الإنسانية وغيرها.
بعد أكثر من 22 قرناً، قدّم أنطون سعاده (عقيدة) تمكّنت من تجاوز الهويِّات الاتنيّة والعشائريّة والعائليّة والدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة، المُشَّكّلة خلال هذا التاريخ الطويل، فكانت هذه العقيدة بمثابة (مِصهر) أعاد صياغة (الانسان)، ليُخرجه (جديداً) مُنقى، بهويِّة واحدة مُوحدة، ونظرة واحدة.
التساؤل الأن: إن كانت الدولة القوميّة الغربيّة، مع فلسفتها المتضمنة العلمانيّة، تدين إلى عصر الأنوار الذي تجاوز عمره الـ (300) عام، في ترسيخ وجودها ومفاهيمها، وإلى حماية شخصّيتها بالقوانين التي يستمر انتاجها على مدار الوقت… إن كانت هذه الدولة قد احتاجت كل ذلك لتنتج إنسانها الحديث، والذي يواجه اليوم مشكلات ترتبط بمعنى الهويِّة… التساؤل: كيف تمكّنت عقيدة سعاده من الوصول إلى إنتاج (الانسان الجديد) وحيدة غير مؤازرة من أية جهة إلى جانبها، بل في مُناخ عدائي شبه مطلق!!
هل فكّرنا جيداً في هذا السرّ وحاولنا تفكيكه؟ أم ننظر إليه كـ (معجزة) غير قابلة للتفسير والمقاربة؟
أرى، أن هذا الحقل، لم يدرس تماماً، وبرأيي، هو حقل مستقبلي ستجد المجتمعات البشرية نفسها وهي تواجه أسئلته على نحو مصيري.
وعودة إلى الـ (مَن الختامية):
ومَن أعاد كتابة هذا النصّ كلّه بدمائه؟
إلاَّ سعاده، ووحده سعاده.
كشف حساب يمكن أن تتزايد مفرداته أكثر لو شئنا، لولا أنَّ المنهجيّة النقديّة عند سعاده تدعونا للتوقف، كي نلتفت إلى خطابنا وحالته وماذا أصابه؟
إنْ كان خطاب سعاده، بهذه الجاهزيّة وبهذه الرؤية المستقبليّة وبهذا المستوى المعرفي… أين هي الإشكاليّة إذاً؟ تلك التي تتسبب بالشك بقدرته على الحضور والاستمرار؟
برأينا، تبدو الإشكاليّة متمثلة في جانبين رئيسين، الأول هو ما نسميه بالنصِّ الوسيط وحالاته وبنيته، والثاني هو الحزب وواقعه ومستوى حضوره وما ينتج عنه.
النَصّ المرجعيّ والنَصّ الوسيط
الإنتاج الذي وضعه سعاده، في مختلف الحقول والتصنيفات، من مبادئ الحزب وغايته إلى النصوص الفلسفيّة، ومن كتاب نشوء الأمم إلى المقالات والخطب والرسائل. هذه الأعمال بمجموعها تشكّل (النَصّ المرجعيّ) للنهضة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة.
وهو نَصٌّ واحد ووحيد، لا شريك له، وغير مُختَلفٍ على مرجعيّته وموقعه وفرادته. وبالرغم من صعوبة تأويله بعيداً عن معناه ومقاصده، إلاَّ أنّه كان يخضع لعمليات اجتزاء وانتقاء لجوانب فيه، وتجاهل لأخرى. غير أنَّ ذلك كلَّه لم يتمكّن من خلخلة مكانته وسلطته ومتانة حضوره وخصوصيتها.
ظلَّ نَصّ سعاده المرجعيّ حاضراً وجاهزاً وقادراً على محاكاة الأحداث الكبرى التي وقعت ولا تزال في تاريخنا، واستمر متميّزاً بخاصيّة كشف أسبابها العميقة من جهة، والترشيد نحو مآلاتها ونتائجها واتجاه فعاليتها من جهة مقابلة (كشف الحساب يبين ذلك بوضوح تام).
تعود الإشكاليّة التي لحقت بهذا النَصّ، إلى ما نسمّيه (النَصّ الوسيط/النَصّ الثاني)، ذلك الذي وضعه، من نسميهم تلامذة سعاده. (سنتجاهل منهجيّاً، في هذا الشأن، ذلك الاستخدام الشعاراتي لعبارات مقتطعة من نصوص لسعاده وما هي الآثار الفكرية الناتجة عنها – سنتناولها على نحوٍ مستقل في مناسبة مستقبلية).
تم الاحتفاء بـ (حركة الحداثة) باعتبارها مُنتَجاً سعاديّاً على أيدي تلامذته ومن في فلكهم، كما تمّ الاحتفاء بمختلف الإنتاج الفني الموسيقي والمسرحي والتشكيلي والنحتي الذي كان من ابداعات تلامذة آخرين، إلى الاحتفاء بذلك (الجيش الجرّار) من الصحفيين والكتّاب الذين انتشروا على مختلف ورش الصحافة في الوطن وخارجه. تمّ الاحتفاء بهم دائماً، فيما النَصّ الوسيط، الفكري عموماً والسياسي منه خصوصاً ظلَّ إشكاليّاً وغير قادر على فرض نفسه على التوازي مع ذلك (المُنتَج) في الحقول الأخرى.
اتُهمَ النَصّ الوسيط، بمختلف الصفات التي تقود إلى الشّك به وبمقاصده وغايته. هو نَصّ يُقرأ ويُبحث في متنه للوصول إلى ما يُدينه، لا إلى ما يميّزه وما هو جديده؟
سنشير تحديداً هنا إلى مثلين من النصوص الوسيطة التي وضعها اثنان من الكتّاب المفكّرين القادة، حيث موقع رئاسة الحزب كان يتيح للنصّ الذي يُنتجه الرئيس مكانة وسلطة لا تُتاح لنصِّ مُنتج من قبل مفكّر أو كاتب خارج المواقع التنظيمية الأولى. (لن نتناول هنا ذلك الإنتاج الفكري الذي وضعه العديد من المفكّرين والكتّاب من تلامذة سعاده، والذين قدمّوا مساهمات مرموقة، شكّلت شرحاً إضافياً لنَصِّ سعاده، حيث المقصود تماماً بتعبير النصِّ الوسيط هنا، ذلك الذي اتخذ، بمعنى ما، صفة رسمية).
المثل الأول، هو نَصّ إنعام رعد، الذي يُعتبر الأكثر حضوراً، والذي شكّل مجالاً خلافيّاً حوله، حيث نُظر إليه من قبل الكثير من القوميين الاجتماعيين، باعتباره نصّاً تبريريّاً لمواقف سياسية متتابعة، بكونه باحثاً عن مسوّغات عقائدية لمواقف سياسية (يَسرَنَة سعاده وقراءته من العمارة الماركسية). فيما سادت أطروحته (حرب وجود لا حرب حدود)، باعتبارها تكثيّفاً مثالياً لمضمون الصراع مع (المشروع الإسرائيلي).
المثل الثاني، هو نَصّ يوسف الأشقر، الذي يُعتبر متميزاً باستقلال منهجي، ولكنه لم يتمكن من الحضور وفرض نفسه على نحوٍ كافٍ. وإذا كانت أطروحة الحرب المفتوحة على المجتمع أو حرب المجتمع ضد نفسه، قد راجت كمقولاتٍ (ايقونيّة – مِنَ الايقونة) ولم تُواجه بالتشكيك، إلاّ أنَّ أطروحة (المجتمع المدني) اعتبرت اسقاطاً من خارج النَصّ المرجعي لسعاده جملة وتفصيلاً.
في مثلٍ استطرادي، وضع أسد الأشقر كتاب تاريخ سورية، محاولاً التعويض عن غياب كتاب سعاده (نشوء الأمّة السوريّة). هذا العمل الموسوعي، والذي، برأيي الشخصي، على أهميته لم يتمكّن من التحرر من فرضية (الهجرات السّاميّة) التي كانت حينها سائدة ومستبدة… هذا العمل لم يتمكّن من انهاء حالة الافتقاد لكتاب سعاده، التي يعبّر عنها ذلك التساؤل الدائم: تُرى، ماذا كتب سعاده في تلك المسوّدة التي صادرتها سلطات الانتداب وأخفتها، وربما أعدمتها؟
كتاب: المجتمع والانسان، هو مثال لمفكّر غير حزبي، قدّم فيه عادل ضاهر قراءته لفلسفة سعاده الاجتماعيّة. وما بين المقاربات الماركسيّة التي اعتمدها والقياسات الاكاديميّة، أحاط الكتاب نفسه بالشكوك، أكثر ما أدى إلى إضافات يمكن تنسيبها إلى المنهج القومي الاجتماعي ونصّه المرجعي.
لم يؤازر النصّ الوسيط – الفكري – النصّ المرجعي على نحوٍ كافٍ، بل كان في الكثير من الأحيان مثار شكوك أدت إلى إنتاج تلك (الريبة) الدائمة التي يُواجه بها أيُ نصّ جديد. ريبة تكرّس حالة من توقع وجود (انحراف ما؟) في تلافيف ذلك النَصّ. ما أدى ويؤدي دائماً إلى ملاحظة ذلك الانكفاء السريع نحو النَصّ المرجعي، الذي يوفر ذلك الشعور بالأمان.
ستشكّل حالة الخوف من (الانحراف) كبحاً مستمراً للاتجاه الإبداعي، ما يجعل النصّ المرجعي شبه وحيد ينازل الأحداث الحاضرة بمنهجيته، وبواقع هذا الحاضر ووقائعه التي تتغيّر بالاتجاه المؤكد لجاهزيّة سعاده وراهنيّته. من المؤكد أنَّ هنالك بعض النصوص – الكتب المحدودة التي كان لها مؤازرة ملحوظة لنصِّ سعاده، منها مثلاً: حرب التحرير القومية لإنعام رعد، وجماهير وكوارث لهنري حاماتي.وللمفارقة من منهجين مختلفين!
الحزب كـ (تجلٍ) لنَصّ سعادة
لم يشيّد سعاده (عمارة فكرية) في (مخبر معزول ومُعَقّم).
أنتج سعاده نَصّهُ على مسار الحركة التي أطلقها في 16 تشرين ثاني 1932. ابتداءً من هذا التاريخ سيكّرّس سعاده انتاجه على نحوٍ تام لتلبيّة متطلبات الحركة ولوازمها الحاضرة ورسم آفاقها.
نَصُّ سعاده، ارتبط عضويّاً بمسار الحركة/الحزب. مقالاته، خطبه، رسائله، كتابه: نشوء الأمم… كل إنتاجه بمختلف عناوينه توضّع وفق إحداثيات الحزب وواقعه.
سعاده، لم يكن المفكّر والفيلسوف الذي أنتج (نَصّاً جاهزاً) معروضاً للاستثمار، ليتلقفه شخص آخر ويستند إليه ويؤسس حزباً بالاعتماد عليه.
كارل ماركس كتب مع فريدريك انجلز في الفلسفة والاقتصاد السياسي وغيره، ولكن لينين هو من صاغ الماركسيّة في تجلّيها الواقعي/التاريخي، ومن بعده توالى تأسيس الأحزاب الشيوعية بتجليّاتها المحلّيّة من الصين إلى كوبا مروراً بأوروبة الشرقيّة والغربيّة.
أكاد أميل، دون جزم، للقول بأن ماركس قُرأ ويُقرأ في الغرب كمفكّر أكثر مما قُرأ في الدول التي كانت تحكمها الأحزاب الشيوعيّة؟ في روسيا كتاب (ما العمل؟) للينين كان سائداً وشائعاً أكثر من (رأس المال) لكارل ماركس. لهذا توجد (الماركسيّة) كفكّر مُوضَب في تاريخ الفكر العام، وتوجد (الماركسيّة – اللينينيّة) كفكر مقترن عضوياً بتجليه واقعاً وتجربة وحدثاً وحركة. في تاريخ الفكر لا يُعامل ماركس، كما يُعامل هيغل أو دوركهايم أو سارتر، هو مضطر أن يتحمّل وزر اللينينية والستالينية والماويّة وصولاً إلى ما يقوم به كيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
لهذا عندما تفكّك الاتحاد السوفيتي، الذي هو من مُنتجات اللينينيّة – الستالينيّة، سادت مقولة نهاية الأيديولوجيات، وأُشير بها بوضوح نحو الماركسية، ما يعني سقوط المشروع الماركسي. رغم ذلك ماركس المفكّر لا تزال مكانته محافظة على مستواها في تاريخ الفكر.
قطعاً، سعاده ليس ماركس سورية!
قطعاً، ليس هنالك من لينين سوري، أخذ نَصّ سعاده وصاغ تجلّيه حركة/حزباً!
لو كان الأمر كذلك، لكان سعاده انضوى كمفكّر في قائمة النهضويين الذين أنتجوا خطاباً مُشبعاً بالأفكار التي يمكن أن تؤسس لحداثة ما؟ ولكنهم سينتظرون إلى أن تقوم حركة أو حتى شخص ليتبنى هذه الأفكار ويؤسس تجلّيها وواقعها.
دون أدنى شكّ، سعاده هو المفكّر وهو المؤسس للحركة/الحزب: حامل الفكر والعقيدة. وهو لذلك سيظلّ مقروناً بفكره وبحركته.
ترتسم الإشكالية هنا بين وجه الفكر الذي لا يزال بجاهزيّة عالية، والحاجة إليه من مستوى وجودي، مصيري. وبين وجه تجلّي هذا الفكر: الحزب، بواقعه الذي لا ترتسم فيه مجسّمات هذا الفكر، إلاَّ على نحوٍ متواضع وفي أحيانٍ كثيرة تغيب تماماً.
وتزداد الإشكالية حدةً، بمواجهة التساؤل التالي: إن كانت الحاجة إلى سعاده الآن، مصيرية، فمَن سيقدّم سعاده إلى الشعب السوري، ومن أية مِنَصّة؟
أَمِنَ المِنصّة التي تعرّفه كمفكّر وفيلسوف نهضوي؟ ليتراصف في الحقل البارد إلى جانب فرنسيس المرّاش وعبد الرحمن الكواكبي وجبران خليل جبران…فيصل إلى المسافة نفسها التي، في أفضل حالاتها، لا تعتبر وصولاً إلى الشعب؟
أو مِن مِنَصّة الحركة/ الحزب؟ ولكن الحزب بواقعه، غير مؤهل لهذه المهمة؟ وإنْ كان كذلك، هل المطلوب فك اقتران سعاده به؟ وإبعاده عن حزبه لـ (تنزيهه) عن أخطائه وخطاياه وإخفاقاته وضياعه؟
آنذاك، نكسب مفكّراً وفيلسوفاً ناصع البياض، لنخسر زعيماً لحركة وحزب يتهاوى مستواه؟ ثم بعد ذلك نشيّع الحركة إلى مثواها الأخير؟
كل ذلك من أجل أن نراه (مفكّراً راهنيّاً)، لا تشوبه شوائب الواقع الحزبي!
لا سبيل لطريق سعاده نحو الشعب السوري، سوى الحزب، سوى الحركة التي أسسها واعتبرها ولادة فعليّة للأمة السوريّة، دونها ستعود الأمة للغرق تحت طبقات الغموض والالتباس وربما التلاشي النهائي.
سعاده ليس هو القضية. القضية هي سورية وحياتها ومصيرها. سورية قضيته ودعانا لأن تكون قضيتنا، وتعاقدنا معه وأقسمنا على ذلك. هو فعل كل شيء من أجلها. بقي أن نواصل فعله هو نفسه، بفكره ومنهجه وعقله وإبداعه وأخلاقه ومناقبه وعطائه.
هل نعمل إذاً، في الاتجاه الذي يطابق ما بين الحزب ونصّه المرجعي، ما بين الحزب وسعاده؟
هذا الطريق يعيدنا إلى المشروع الذي بدأه من لحظة نزوله من الطائرة في 2 آذار 1947. هذا المشروع الذي لم يُقّدّر له إنجازه، هو دَينٌ لسعاده علينا، وأكاد أحسم: إنْ لم نعمل لتسديد هذا الدين، كي يتطابق الحزب مع معناه، فربما سنفقد فرصتنا وإلى الأبد في رؤيّة سعاده والحزب معاً!
عقلٌ وقلب
هل انتبه ناقد أو كاتب، كيف أنَّ سعاده ينهي كتاباً في علم الاجتماع، كتابه: نشوء الأمم، بمقاطع شعرية لـ (الياس فرحات وسليمان البستاني)؟
هل من المألوف عند المفكّرين والفلاسفة هذه النهايات؟
ما هذه الشجاعة التي يترك سعاده فيها لخفقات قلبه أن تغلق كتاباً علميّاً؟
تعلّمت هذه الشجاعة منه، وها أنهي هذا النصّ بهذا المقطع للشاعر النهضوي الكبير فايز خضّور:
سَعادَهْ…
عليكَ السلامُ، ومنكَ السلامُ، ويهفو إلى راحتيكَ السلامْ.
فَعُذراً إذا ما خَدَشْنا وقارَ طقوسِ العبادَهْ.
وفوَّرَ تَنُّورُ غيظِ الأنامْ…!!
رفيقي. أنا واقفٌ:
مُتعِبٌ، مُتعَبٌ، وحزينٌ
وما بي اشتياقٌ، إلى مَفرِشٍ أو وسادَهْ…!!
وما بي جُنوحٌ ـ طموحٌ، إلى مَحفَلٍ أو قيادَهْ…!!
وما بي احتياجٌ إلى حافزٍ أو قلادَهْ…!!
ولكني لا أطيقُ طلاقَ الخِتامْ.
وحقِّ دماءِ العِمادَهْ. ..!!