الحديث عن إنعام رعد، في ذكرى غيابه بتاريخ 27 شباط 1998، يكتسب أهمية بالغة، إذ نتذكر كيف يؤمن المناضل القومي الاجتماعي بعقيدة يرفض التحجر بها، بل يحياها، بما تملك من قدرة تطورية في الفكر والسياسة، حتى بات شخصه عرضة لسهام الكثيرين من رفاق دربه، المستريحين في جمودهم الفكري، الذين نعتوه بأقذع العبارات التي لا تليق برفاق النضال، أقلها كان، تهمة الانحراف العقائدي.
ميزة انعام رعد الأساسية، بالإضافة الى إيمانه العميق بالعقيدة القومية الاجتماعية، قدرته الفذة على التوفيق بين التحصيل والانتاج، فهو لا يترك فرصة إلا وكان همه اكتساب المعرفة، لا لتصبح حملاً في عقله ينوء صاحبه من ثقله، بل لتنضج المعارف الجديدة وتتفاعل مع معينه الثقافي، لتخرج مداداً على صفحات الورق مقالات وأبحاث ودراسات وكتب، أغنت الفكر القومي الاجتماعي في مختلف أسباب تعزيز النضال القومي.
ولعل أول اختراقاته لجمود الفكر السياسي، كان عام 1960، وقد جاءت محاولته يومذاك في ظروف دقيقة للغاية، إذ تمثلت بتوجهات عربية، رسمية وشعبية، فكرية وعملية، تقضي بضرورة محاربة الشيوعية العربية والعالمية، مرتكزة بذلك على قرارات صادرة عن قمم عربية كما في انشاص وبلودان، وقد ترجمها العرب على ارض الواقع خلافات سياسية وفكرية وأمنية، كان أبرزها الخلافات الحادة بين الجمهورية العربية المتحدة أيام الوحدة السورية المصرية 1958-1961، وبين الشيوعيين العرب، وكانت ساحتها تمتد من القاهرة مروراً بالشام والعراق وصولاً إلى الكرملين. ناهيك وأن خيار الحزب السوري القومي الاجتماعي كان، اعتباراً من العام 1955، خيار التحالف مع الغرب "بالشروط القومية".
في ظل هذه الأجواء المعقدة نتيجة اضطراب العقل السياسي العربي عموماً والعقل القومي خصوصاً، في عدم التفريق بين الصراع العقائدي في داخل المجتمعات العربية، وبين العلاقات الدولية التي تقوم على اساس المصالح لا المبادئ. أطلق إنعام رعد صرخة كانت مدوية للغاية.
امتشق قلمه وخط عنوان مقالته في جريدة الحزب الرسمية "البناء" "من أجل تعاون أوثق مع السوفيات" بهدف إعادة التوجه السياسي القومي الى محوره الطبيعي والحقيقي، محور الصراع ضد العدو الصهيوني، لأن العدو هو "إسرائيل وليس الإتحاد السوفياتي، وأن العلاقة مع السوفيات والحزب الشيوعي الحاكم شيء، والعلاقة مع الأحزاب الشيوعية العربية شيء آخر، وإذا كانت العلاقة مع الاتحاد السوفياتي تحدث خللاً مع الولايات المتحدة الأميركية، فلا ضرر من ذلك، طالما أن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الداعمة الأساس للكيان الصهيوني.
لم يكتب انعام رعد مقالته بإجازة من السلطة الحزبية، فالرئيس الدكتور عبدالله سعاده كان آنذاك في زيارة للمغترب القومي في أميركا اللاتينية، ولكن ذلك لم يمنع القيادة القابعة في بيروت من معاقبته باللوم على هذا "الانقلاب" في الخط السياسي، وفي عقوبتها له، شهادة في نضجه السياسي، بقدر ما هي شهادة لهم في قصورهم في فهم المتغيرات الدولية، التي بدأت منذ آخر مؤتمر حضره ستالين، الذي صدر عنه مقررات تضمنت استعداد الاتحاد السوفياتي لدعم حركات التحرر القومي، والذي ترجم بكسر منع السلاح عن العرب عام 1955 ، وصولاً الى الإنذار الشهير الذي صدر عن الاتحاد السوفياتي ضد دول العدوان الثلاثي عام 1956، الذي تضمن استعداد السوفيات لإعادة النظر بأساس وجود "إسرائيل" كدولة، فيما كانت الولايات المتحدة تقدم كل الدعم للكيان الصهيوني بما فيه الدعم لإنجاح التغلل الصهيوني في القارة الإفريقية.
لقد أسهبنا في الحديث عن الإقتحام الأول، لأنه يفسر بذاته كل النهج السياسي الذي أرسى قواعده انعام رعد فيما بعد. سواء في الانخراط مع الحركة الوطنية اللبنانية والتحالف مع الثورة الفلسطينية، والانفتاح على الأنظمة العربية التقدمية والعلاقات مع المعسكر الاشتراكي، والاصرار على نشوء المقاومة القومية الاجتماعية في وجه الاجتياح الصهيوني عام 1982، وصولاً الى تبوئه منصب رئيس اللجنة العربية لمكافحة العنصرية الصهيونية لحين وفاته.
أما على صعيد التجديد الفكري، فقد اعتمد انعام رعد على معين القائد المؤسس أنطون سعاده، فانكب على قراءة آثاره كلها والعمل على نشرها، وهو إذ اجتهد في الإطلاع على أفكار الآخرين إنما كان يهدف الى القاء المزيد من النور على الفكر القومي الإجتماعي الذي قدمه سعاده.
أجل، لقد كان إنعام رعد أميناً لفكر أنطون سعاده، وجعله المقياس الصالح الذي على ضوئه يمكن قراءة الواقع وفهمه لانتزاع أدوات النضال من كل واقع جديد، وهذا ما سهّل عليه في الفترة التي تلت النكسة عام 1967،وانتصار فيتنام في مقاومتها الاحتلال الأميركي، وبروز الفكر الماركسي بأنه هو الفكر الوحيد الصالح للتحرر السياسي والاجتماعي، سهل عليه مواجهة حالة التمركس التي ظهرت في الحزب السوري القومي الاجتماعي لاسيما في أوساط الندوة الثقافية، وكان انعام رعد موفقاً في تبيان الأسس الفكرية للقومية الاجتماعية التي لا تنحصر قدرتها في التحرير السياسي الخارجي من الاستعمار وقوى الاحتلال الأجنبي، ولا في التحرر الاجتماعي من الاقطاع الاقتصادي الرأسمالي، بل باستطاعة هذا الفكر أن يحقق أبعادا أخرى في التحرر الاجتماعي لم تلحظها الماركسية، مثل الطائفية والعشائرية والقبلية، وغير ذلك من انقسامات اجتماعية- نفسية.
وكما في المرة الأولى، عندما اقتحم جمود الفكر السياسي، نراه يقتحم الجمود الفكري العقائدي، عندما وافقت القيادة الحزبية، على مضض، قبولها القاؤه محاضرة في زغرتا بمناسبة الأول من أيار عام 1974، مشترطة عليه كتابة المحاضرة وإيداعها مركز الحزب لإقرار الموافقة أو عدمها.
كتب انعام رعد محاضرته وأرسلها لمقص الرقيب، ويا لهول ما حدث، فقد اقتطع مقص القيادة كلام أنطون سعاده، وقد اقتبسها المحاضر من مقالة منشورة في: "سعاده، الآثار الكاملة، الجزء العاشر"، بعنوان " العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطية عن عقيدة" التي تضمنت قول سعاده بأنه "وضع للقوميين الاجتماعيين عقيدتهم الإجتماعية في المبدأ الإصلاحي الرابع الذي هو المبدأ المختص بالشأن الإقتصادي" بحجة أن هذا الكلام منسوب لسعاده بغير حق.
لم يكن انعام رعد ليؤمن بالاقتباس الفكري من الخارج، كون الاقتباس من الخارج لا يحرك الكوامن النفسية التي تزخر بها الأمة، بل التزم بالفكر القومي الاجتماعي، وبتراث الأمة الثقافي السياسي القومي، وكان هذا معينه الأساس في تجديد الخطاب الفكري.
كانت مهمة انعام رعد في الحزب السوري القومي الاجتماعي، مهمة شاقة وصعبة، وكان تألقه في المجال التجديدي يجد ترحاباً عند المتنورين داخل الحزب وإعجاباً من المثقفين خارج الحزب، فيما كان يلقى خصومة وحقداً عند قلة من القاصرين فكرياً وسياسياً، بعضهم اعتذر منه شخصياً وبعض آخر لم يعتذر، وربما ما زال حاقداً على من أعجبوا بالنهج الفكري الذي خطه انعام رعد.
أهمية انعام رعد في تاريخ الحركة القومية الاجتماعية، انه كان رجل التجديد والتطوير، إيماناً منه بأن عقيدة سعاده، هي عقيدة حياة، وهي بحاجة دائمة الى التجدد من داخلها، لأن العقائد التي تفقد سمة التطور، تشيخ وتموت وتندثر ويتبدد أتباعها.
في ذكرى غياب انعام رعد، تفتقد الحركة القومية الاجتماعية رجلاً كبيراً استبدل لقب "الباكوية" بلقب الرفاقية، وناضل عشرات السنين بكل جهد وطاقة حتى أواخر أيامه، نضال الشباب المؤمن بأن يوم الغد هو يوم النصر وليس اليوم الذي يليه، ولا يحق لمناضل ان يتأخر عن دوره المطلوب منه لكي لا يتأخر يوم النصر ساعة.
انعام رعد... هنيئاً لك ذاتك المناضلة، هنيئاً لك حياتك المجددة في الفكر والسياسة.