لم يكن مولده في مطلع آذار إلا بالزمن. أما مولده بالنهضة فكان في الفيضِ وفي زخْم العطاء... كأنّ أبهى شراعٍ شَقّ الطريق واستقام على الأفق هو الشراع الذي اغتسَلَ بنبض الأرجوان واصطبَغَ بحُمرة الجراح، فأمسَتْ جراحه كأنها أجنحته.
هوذا الفذ أنطون سعاده، الذي قاوَمَ اللبْسَ بالوضوح، والغريزة بالوعي، والعتمة بالإشعاع، والاجترارَ بالإبداع، والحرفَ بالروح، والجبنَ بالثقة، والشك باليقين، والعارَ بالشرف، والجفافَ بالتدفق، والإنكفاء بالإقتحام، والانسدادَ بالانفتاح، والفردية بالوجدان القومي، والعصبية بالعقلنة، والإستلابَ بالإنتماء، والتعايشَ المصطَنَع بوحدة الحياة، والولاءاتِ المبعثرة بالمُواطَنة الجامعة، والإنهدام التربوي بالبناء النفسي، وضياعَ القِيَم بحقيقة معرفتها، وعِلمَ الكلام بِعِلم التفكير، والإهتماماتِ الهامشية بالأسئلة الكبرى، وصغائرَ النفوس بِعَظَمة المقاصد، ومصلحة المذهب الغَرّارة بمصلحة الأمّة العليا.
نَبَذَ الذلّ المُطاوِع آخِذاً بالعِزّ المقاوِم. قاومَ الانتداب والاحتلال والأمرَ المفعول، رَفَضَ الانسياق والإذعان والتحجُّر والعادات القاصرة، مُتبنّياً المبادرة والانشاءَ والفِعلَ والانجاز. مِنْ هنا ربْطُه الانسانَ بالمجتمع، والحق بالقوة، والوعيَ بالصراع، والأصالة بالتجدد، والاقتصادَ بالإنتاج، والتشريعَ المدني بالعدالة الاجتماعية، والعملَ بالأخلاق، والنهوضَ بالتحرر، وألقَ الدعوة بألق الاستشهاد، ومشروع الوحدة بتوفير عواملها التي يتصدّرها فصلُ الدِّين عن الدولة.
إن المقاومة موقفٌ وفِعلٌ قبل أي شيء آخَر، في الثقافة والسياسة والإعلام والإقتصاد والتنظيم والميادين. هذه هي الحقيقة الناصعة التي بها رفعَ لبنان رأسه، وصنَعَ بقُوّتها معادلة ردعه المباركة، بعد عقود رهيبة من العدوان والإحتلال والإنتهاك والإذلال، بل بعد عقود من الإرهاب «الإسرائيلي» والمآسي اللبنانية. ولولا إنجاز التحرير الفاصل عام 2000 لبقي الجنوب محتلاً حتى اليوم، ولَظَلّتْ أرضه ومياهه وسائر ثرواته – أي حقوقه الطبيعية- مصادَرةً بالصَّلف المعادي تحت سمْع العالم الأصَمّ وبصره الأعمى.
هذا هو الدرس الأبلغُ، وتلك هي الأبجدية الثقافية والمعنوية التي آمنَ بها شعبنا طويلاً قبل أن تتحقق، والتي بسبب تَحَقُّقها المجيد يدفع شعبنا الثمنَ الإقتصاديّ الباهظ حصاراً وسوءَ إدارةٍ وعقوبات وانتقامات. غير أننا محكومون بالإرادة المقاوِمة لا بالإنهزام، وباجتراح الحلول الإنقاذية الممكنة، وهنا بالضبط يتضاعف دور الثقافة بمعناها الأوسع.. لقد آمنَ سعاده بأن الثقافة، في شتّى تَمَظهُرَاتها، مرتبطة قَطْعاً بمحمولها الإبداعي، والإبداع المقصود مهارةُ تجذيرٍ وابتكارٍ وإغناء. لذلك لا معنى لثقافة أو لعقيدة إذا لم تختزن خميرة الثقافة التغييرية، ولم تُترجمِ تلك الخميرة في داخلها أو لم تُخصبه في مسارها. وما من ريب في أن الخوف من الحرية الفكرية المسؤولة يقتل الإبداع ويشُلّ محركاته. لذلك يَنسُب المتزمتون الى كل فكرة جديدة صفة «البِدعة»، وهي تهمة متوارَثة منذ سقراط حتى اليوم. وقد عَبّرَ الشاعر العراقي المعاصر محمد مهدي الجواهري، عن تلك المأساة المتواصلة، ببيتٍ واحد في حفلٍ تكريمي أقيم في مدينة الموصِل لأحد فطاحل تراثنا الثقافي، عنيْتُ أبا العلاء المعري. وكان وزير المعارف المصري الأسبق الأديب طه حسين حاضراً، فلم يتمالك نفسَه من دهشة الإعجاب حين وصل الجواهري الى قوله: «لِثورة الفكر تأريخٌ يُذَكّرنا/ بأنّ ألْفَ مسيحٍ دُونَها صُلِبا».
إن التُّهَم المُفْلِسة، بالمروق والهرطقة والتجديف، هي عُدّة العاجزين عن مواجهة الحقيقة الصّادعة، خصوصاً أولئك الذين لا يفقهون أن السكون عكْسُ الحركة، وأن الجمود على المنقول هو صفةُ المستنقَع لا صفةُ الشلال. صحيح أن التقليد يهيمن على الإنسان بحكم الإعتياد على المألوفات، لكنّ الثقافة التحويلية انفلاتٌ مِنْ إِسار الزمان والمكان والعادات؟ أليست الثقافة، بتكثيف، تعزيلاً للداخل المتراكم في الذاكرة الرتيبة وفي بُنْيَة الذهن التقليدي؟ ثم كيف يصبح المثقف خلاقاً، كما يليق بالمثقفين التغييريين، ما لم يتحرر من القوالب النمطية، الخشبية، المجافية لدوره ومبرر وجوده؟
بعضهم يحاول التنحية الجانبية لأسئلة العقل بالرغم من كونها منعطفاً مركزياً لفهم الوجود، ومن كَوْن العقل، بوصفه بصيرة إدراكية، هو الشرع الأعلى المطلوب اعتماده. وعليه، يهوى ذلك البعضُ «التبصيرَ» والخوف من افتضاح الحقائق فَيَرفل في أثواب المقدَّس التي خاطَها لنفسه، ومبتغاه إسقاطُها حتى على الآخَرين. لعله نسيَ، مثلاً، أن مؤسسة سعادة للثقافة هي صرحٌ للعقل الباحث أولاً، وأنّ المؤسسات التنظيمية نفسها هي، في المبدأ المعياري البديهي، ديناميّات تكاملية وأُطُر دستورية لتنفيذ خطط رؤيوية، كما أنها مُحَفّزات للعقل النقدي المستنير. من هنا ضرورةُ قبولِ المراجعة السديدة، ورفْضِ التشبث التعسُّفي بأحاديث مزعومة نقَلها فلانٌ عن فلان لكنها لم تكن راجحة في ميزان المنطق. أما صحة الأحاديث وموثوقيتها فمقياسهما أن يطمئن اليهما العقل، لا أن يتنافيا والنهج الذي أرساه المؤسِّس، في مُجمل أعماله التطبيقية والكتابية. ولنا في الخطاب المنهاجي الأول المنبثق من فلسفة المبادئ، ثم في مؤلَّفه العِلمي «نشوء الأمم» بفصوله جميعها لا بالفصل الأخير فقط، خيرُ دليليْن على ذلك النهج وخيرُ مرجعيْن اليه.
لعلّ شأناً ذا أثر بركاني من أهم ما دعا إليه سعاده هو تَنَكُّبُ المواجهة الحادّة بين فلسفة الحركة وبين السكونيات القاتلة. وهذا يعني إعادة النظر في المفاهيم الآسِنة وفي نظام التفكير بكُليّته، ما يُفضي إلى اعتماد المنهج المنعتق من التصورات العقيمة المُسبقة، أي إلى إِعمال العقل إِعمالاً متطلِّباً متبصِّراً نحو اليقين الذي لا تخالطه أوهامٌ أو خُزعبلات. لذلك، يؤلمنا حتى الأعماق، أن هناك مَنْ لا يزال يُعرِض عن المياه الجوفية التي فَجَّرَها نبْعُ سعاده، كأنه يُسوِّغ - بالباطل الفئوي- عناوينَ جوفاء... إلّا من الرنين الإعلاميّ السقيم، الذي جعل «بَطَلَ» شعاراتٍ مضمحلّة كالبخار يُرسل إلى ليبيا في الثمانينات الماضية فصائلَ مقاتِلة للذوْد عن جماهيرية القذافي ضد دولة إفريقية أخرى هي تشاد!!! ونكتفي حالياً بذِكْر تلك الصفحة السوداء فقط إسهاماً في ردع الجُموح وفي استحضار العِبرة النَّصوح.
ثمّة أفراد من تلاميذ سعاده يترضّضون من عواصفه الفكرية فتُطربهم عيّنات من المرويات المزعومة تاريخيةً، والمزروعة في اللاوعي الأسطوري. لكنّ إِضفاء صفة «التابو» على تلك المرويات المحدودة والكليشيهات الضعيفة يتنافى وحركة العقل الطامحة الى تغيير مجرى التاريخ، فالعقل و»التابو» لا يلتقيان لأنهما متى التقيا تَقَزَّمَ العقل وصارت زوبعةُ الفكر طقساً صوفياً في فنجان الدراويش الذي يدور حول نفسه ، وكفى عندئذٍ بالفولكلور شكلياتٍ ومظاهر.
إنّ النظرية المعرفية، التي جاء بها عمّانوئيل كانط منذ القرن الثامن عشر والتي تَشَبّعَ بها الزمن الحديث، تجزم أن العقل لا يجد المعطيات أمامه قائمةً طوْعَ البَنان بل هو يُنشئها بمقتضى تكوينه البنْيَوي. فالمعرفة الحديثة مبنيّةٌ وبانية بمداميك العِلم والفكر المتحولة لا بالخضوع لنظام ٍ مفروضٍ بالعادة أو بالإكراه، أو بالقصور المعرقِل للحركة كما كتب ديكارت- الرائدُ الآخَر نحو الفلسفة العقلانية.
وفي حديث صحافي منشور في باريس عام 1984، سُئل الفيلسوف ميشال فوكو الذي كتب منهجياً عن نظام الأشياء، إذا كان بالإمكان معالجة الأمور بشكلٍ مختلف وبالتحديد في السجون الفرنسية، فأجاب أنه فَكّرَ على الدوام بأن الوضعيات يمكنها أن تلد استراتيجيات جديدة، وأن الانسان ليس حبيسَ التاريخ بل على العكس، إذْ سعى فوكو الى إثبات أن التاريخ تَعبُره علاقات استراتيجية متحركة، أي قابلة للتغيير. لكنَّ لذلك شرطاً هو أن يمتلك القائمون على هذه المسارات الجرأة السياسية اللازمة لتغيير الأمور.
لم نَسُقْ هذا المثل إلا للتأكيد على كيفية انتصار المذهب الوضعي في الفلسفة. لقد انتصر هذا المذهب الفكري في أوروبا أولاً والغرب ثانياً بالاعتماد على أطروحته الجوهرية، وهي أن كل ما هو غير قابل للمراقبة ليس من مضمار العِلم ولا من آليّات التقدم. ولما كانت الحركة السورية القومية الاجتماعية منظومة وضعية نهضوية، فهذا يعني لمُعتنقيها، حتى في يافطاتهم المتكاثرة، أن التمسك بالخطأ لا يعدو كونه دعوة ديماغوجية الى نُصرة افتراضٍ على تجربة، وباطلٍ على حق، بالمقاييس العِلمية والمناقبية والإنسانية على حد سواء... ولنا عِبرة في خطورة السموم التي بثها الأوكراني زئيف جابوتنسكي، صاحب نظرية «الجدار الحديدي» في المشروع الصهيوني الذي كتب، بمنتهى الصفاقة، ما يجب أن ننقضه بالكلية في حياتنا القومية: «كل انسان آخَر على خطأ، وأنتَ وحدك على صواب. لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك، فهي غير ضرورية وغير صحيحة... ليس بوسعك أن تعتقد بأي شيء في العالم إذا اعترفتَ، ولو لمرة واحدة، أن خصومك يمكن أن يكونوا على صواب. ليس في العالَم سوى حقيقة واحدة، وهي بكاملها مُلْكُك أنت»!!!
إن العمل السياسي، بالمنظور الاستراتيجي، شأن مشروع وحيويّ. لكنْ بهدف إِحداث اختراق نوعي في معالجة الأمراض الفاتكة بالمجتمع. وربما يكون الأهمّ من الإنخراط في الاستحقاق النيابي العتيد في لبنان، على أهميته، هو الإنخراط في الحرب الجادّة على الفساد، وفي الإعداد الإستشرافي لآفاق المرحلة المقبلة وتداعياتها، مرحلة الحرب الباردة المُستجدّة عالمياً خصوصاً حول خطوط الطاقة، في حين أنها إقليمياً قد تكون مرحلة التسويات، من دون إغفال الأولويات المعكوسة بالنسبة لدولٍ ومجموعاتٍ وأفراد، حيث الكفاح من أجل الكرامة سيكون مرفوضاً ومُداناً في حين أن الإلتحاق بقطار الإستسلام لن يجري تقديمه بوصفه تفريطاً بالقضية أو خيانةً لشهدائها بل بوصفه حِكمةً براغماتية مرادفة للإستقرار والإزدهار، ومَنْ يعِشْ يرَ.