لكل دعوة نبيها ورمزها، وللفكر السوري القومي الاجتماعي، زعيمٌ يجعلك مجبرًا على بعد ثلاثة وسبعين عامًا من اغتياله، على التخلي عن أناك لأجل الأمة، أمة سعاده ابن الربيع.
حين بدأت بالاطلاع على فكر أنطون سعاده، كان الأمر بواسطة صديق وصف لي مؤلف أنطون سعادة بأنه الكتاب الأكثر أهمية في علم الاجتماع، وأننا كعرب إذا ما أردنا أن نعتز بمؤلف علمي صارم بعد مؤلف ابن خلدون بمقدمته، فعلينا أن نعلن أن “نشوء الأمم” هو أحد أهم ما أنتجته المكتبة العربية خلال المائة عام الفائتة. من هذه النقطة بالتحديد نشأت علاقتي بأنطون سعاده المفكر، وبالحزب السوري القومي الاجتماعي.
ما يقدمه سعادة للفرد وعلى مستوى شخصي، هو خضّة في الصميم. من حيث تلقي هذا الكم الهائل من التحليل العلمي بعد السير مطولاً في مسار مختلف ومدرسة مختلفة، ليضيء داخل الفرد تفاعلاً خفيًا مع شخصية القائد الحكيم الذي يقود أمته إلى النهضة. هذا المفهوم الذي قدم عبر الانتقال من فلسفة الأنا العارفة إلى الاجتماعية المنفتحة، حيث التحرر من القيود المتكلسة بالأنانية والانطلاق إلى رحاب الـ(نحن) تلك الـ(نحن) المتحفزة إلى الحياة والتي تحمل في تركيبتها الداخلية شخصية الجماعة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والسياسي، حيث الخروج من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين العديد من العقائد المستوردة، إلى الاستقلال وفق حقيقة الأمة السورية بوصفها أمة وليس سكانًا أو مجاميع أو شعبًا يبحث عن الهوية.
هذه الفكرة بالضبط كانت ضابطًا لكثير من الاصطدامات الشخصية مع الفكر الأوروبي الذي يحلل المجتمع وفق معاييره الخاصة، ويعتبر أن كل العالم مجبر على تطبيق هذا الفكر على ذاته بوصفه تابعًا بالضرورة لمركز التاريخ وصناعته. ليحضر سؤال سعاده التاريخي (ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟) والبديهي ونحن اليوم نقف على بعد سبعة وثمانين عامًا من هذا السؤال، أن نعيد طرحه مرارًا وتكرارًا في ظل الاضطراب بين عوامل الفوضى السياسية المنتشرة على طول جغرافيا الوطن السوري، ومثله بقية الجغرافيا العربية. حيث الحقيقة القائمة هي الفكر المضطرب والمتشتت باتجاه التبعية الفكرية والتاريخية والذهنية لقوى النهب العالمية. وبالضرورة أن أعترف أنني مازلت في مرحلة الخضّة والتعلم والدراسة الجادة لفكر قدّم عبر شخص هو الأوعى لجوهر دعوته، وهو ما أهدته لنا الأمة السورية بوصفها أمة مبدعة وحية وخلاقة.
وبالعودة إلى سعاده، فنحن إذا ما أردنا أن نقرأ عقيدة سعاده فلا يمكننا أن نقرأها بعيدًا عن سياقها المعرفي، متضمنًا ذلك مفهوم المتحد للأرض، والوطن، والأمة، والعمران البشري والثقافي، والوحدة السياسية المؤطرة بالكفاح والمناقبية والتضحية لتحقيق غاية الحزب الأساسية بالنهضة بالأمة كفكرة أعمق بكثير من أن تكون مجرد معالجة سياسية طارئة. وهنا نتوقف مطولاً عند العلامة الفارقة في فكر سعاده لمفهوم القومية من حيث هي إطار جغرافي حيوي، وإطار اجتماعي بالأساس يحمل داخله التفاعلات السياسية والفكرية لما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السورية كمضاد للشخصية المتفككة على أساس ما خلقه الاستعمار من كيانات سياسية قطرية تتضاد، وحقيقة المجتمع السوري التاريخية، وضرورة وحدته.
سعاده لكل من يلتقي به هو ربيع ضروري للأمة، أينما كان مشربها الفكري، فهو كمفكر يشكل نقطة إيمان حقيقية قوامها محبة الحياة على قاعدة إن الحياة وقفة عز، في فضاء من الصراحة وحرية التعبير والانسجام والعطاء الذي لا ولن يجف، فالأخلاق هي البداية والنهاية، وهي اللبنة الأولى لنهضة الأمة وبدء ربيعها الخاص.