من كتاب "على دروب النهضة" للأمين نواف حردان، هذه المأثرة عن كيف كانَ سعادة يتعاطى مع رفقائه ويوجهَهُم.
الامين لبيب ناصيف
************
" طُردَ فايز صايغ من الحزب لأسباب باتت معلومة.. وقد أصدر بعد طرده كتاباً عنوانه "إلى أين" حاول فيه تبرير مواقفه وهاجم الزعيم، واتهمهُ بالدكتاتورية، وقال بأنه عدّل مبادئ الحزب وأحدث فيها تبديلاً ظاهراً غير جائز، بإدخالهِ العراق ضمن الحدود السورية دون أن يستشير القوميين بذلك.. وان تطوراً حدث في تفكير الزعيم بعد تخلي فخري معلوف عن الحزب، فقرر أن يوجد فلسفة للحزب دعاها بالمدرحية، ولم تكن هذهِ الفلسفة موجودة من قبل.. إلى مثل هذهِ التُراهات.
والمعلوم أن فايز صايغ كان عميد الإذاعة والثقافة في الحزب، وكان خطيباً بليغاً مشهوراً يتمتع بشعبية واسعة... وبالرغم من هذا لم يترك طرده أثراً في صفوف القوميين، إلا في نطاق ضيق ومحدود جداً، نظراً لثقة القوميين المطلقة بالزعيم، وحكمته واخلاصه وتجرده.
" كنتُ في بيروت على إثر طرد فايز صايغ وإصداره كتابهِ، وكانت مذكرة التوقيف بحق الزعيم قَدْ أُلغيت، فعادَ إلى بيروت من الجبل يتابع قيادة الحزب بحرية تامة، ويوزع من ينبوع عبقريتهِ توجيهات وأفكاراً جديدة على القوميين، ويرفدهم من بحر نبوغه بالتعاليم الصائبة والدروس البليغة.
" أطلعت على ما جرى في المركز بعد طرد فايز صايغ، وعلى ما كتب الزعيم وعدت إلى مرجعيون معرجاً في طريقي على النبطية، وما ان وصلتها حتى استقبلني الرفيق محمد أمين الصبّاح [1]، الذي كان قد أصبح مدرباً لمديرية النبطية، وطلب مني بحرارة والحاح أن أبقى عنده، لمساعدته في وضع حدٍ لأحد الرفقاء، الذي كان قد تأثر بطرد فايز صايغ وراح يُحدث بين الرفقاء تشويشاً ولغطاً.
" فكرتُ بالأمر وقدرت بأني لا أستطيع البقاء للعمل الحزبي في النبطية كونها غير تابعة لمنفذيتي، وانه لذلك يلزم الحصول على إذن وتفويض من المركز، وأخبرت الرفيق الصبّاح بالأمر، فأبدى استعداداً للذهاب إلى بيروت للاتصال بالمركز والحصول على التفويض المطلوب.
" كتبتُ تقريراً إلى ناموس مكتب "مام"[2] عن الوضع في النبطية، وأنهيتهُ بطلب السماح لي بالبقاء والعمل فيها لمحاصرة الرفيق الذي يفكر بالشذوذ وابعاد أذاه عن القوميين هناك.
حمل الرفيق الصبّاح التقرير وتوجه فوراً إلى بيروت، وبقيتُ في النبطية انتظر عودته، إلى أن عاد مساء اليوم التالي، يحمل لي من الزعيم الرسالة التالية:
" حضرة المنفذ العام المحترم
وقفتُ على تقريركم المستعجل إلى ناموس مكتب "مام" في صدد النبطية ومنطقتها، وقد استقبلتُ مدرب مديرية النبطية الذي زاد معلوماتكم وضوحاً، وزودتهُ بالمعلومات والشروح اللازمة تجاه أحد الأعضاء الذي يفكر بالمروق بحجج باطلة، ولدى إطّلاعي على حاجة منطقة النبطية، إلى جولة إذاعية مستعجلة وعلى امكانكم معاونة مديرية النبطية المستقلة في نشاطها الإذاعي في منطقتها. ولما كان متعذراً ارسال أحد الإذاعيين المركزيين إلى تلك المنطقة في الحال، ولدى وقوفي على أنكم تطلبون تفويضاً لتقوموا بالمعاونة المذكورة، مع أنّهُ لم تكن من حاجة إلى تفويض من هذا المعنى، طالما الطلب مُقدّم من هيئة المنطقة المسؤولة، وطالما الغاية التعاون لنشر التعاليم السورية القومية الاجتماعية ولاكتساب معتنقيها.
أرجو لكم التوفيق واقبلوا سلامي القومي، ولتحي سورية.
في 8 نوفمبر 1947 توقيع الزعيم
**********
" قرأتُ الرسالة وأنا متعجب الأمر، لأنني لم أكتب للزعيم، ولم أكن أنتظر رسالة منه، وعندما سألت الرفيق الصبّاح عن سبب تلك الرسالة حكى لي القصة التالية:
" ذهبتُ إلى بيروت وفي نيتي أن أُقابل الزعيم مهما كلّف الأمر، لأن رغبتي بلقائه والتعرف إليه كانت كبيرة جداً لا تقاوم".
سألتُ عنه في المركز فقيل لي أنّهُ موجود في مطبعة جريدة "النهضة" في خان أنطون بك"[3].
ذهبت وارتديت بدلتي الجديدة وقصدت خان أنطون بك، وأنا متفائل مسرور جداً. لأنّي سأقابل الزعيم لأول مرة، وفي طريقي اشتريت علبة سكاير "لوكي سترايك" كان ثمنها غالياً، ولدى وصولي استقبلني أحد الرفقاء، فطلبت منهُ مقابلة الزعيم لأسلّمهُ رسالة من منفذ عام مرجعيون.
" بعد انتظار دقائق قليلة، سُمح لي بالدخول إلى مكتب الزعيم، الذي كانَ جالساً أمامَ طاولة، يكتب مقالاً لجريدة "النهضة"، فحييتهُ وقدمت نفسي، فرد التحية واستقبلني بلطف وهو يبتسم، ثم دعاني للجلوس، فجلست وأنا لا أصدق نفسي بأني أمام ذلك الرجل العظيم اللطيف ذو النظرات الآسرة.
سلمتهُ رسالتك بعد ذلك فقرأها، ثُمَّ سألني عن الوضع في النبطية فأجبتهُ تفصيلاً، وطلبتُ منهُ تفويضاً لكَ لكي تبقى في النبطية، وتساعدنا لوضع حد لذلك الرفيق الذي تحدثه نفسه بالشذوذ.
تناول قلماً وورقة وعندما انتهيت، كتب هذه الرسالة إليك، وطلب من الرفيق فريد مبارك [4]طباعتها على الآلة الكاتبة، ثُمَّ راحَ يسألني عن مديرية النبطية، وعن مدى امكانية جعلها منفذية، فأجبتهُ وهو يصغي إليّ باهتمام، وعندما انتهيت تناولت من جيبي علبة السكاير "اللوكي سترايك" وفتحتها وأمسكت السيكارة الأولى منها وأشعلتها، وكان الزعيم يراقبني كأنّهُ ينفذ بنظراته إلى أعماقي، ويسجل كلماتي وحركاتي فسألني:
-كم ثمن هذه العلبة يا رفيقي؟
ثمانون غرشاً.
-ما هو عملك وكم تربح باليوم؟
مهنتي براذعي.. أربح في اليوم ليرتين وأحياناً ثلاث ليرات.. وأحياناً لا شيء.
-وكم عدد أفراد أُسرتك؟
عندي أربع بنين.. ابنتان وصبيّان.. اسماؤهم: تحي.. سورية.. يحيى.. سعادة، فيكون عدد أفراد عائلتي مع زوجتي ستة أشخاص.
فابتسم الزعيم راضياً مستحسناً وقال:
-إذا كان ربحك اليومي ليرتين أو ثلاث فقط.. وعدد أفراد أُسرتك ستة أشخاص.. أيجوز لكَ أن تدخن هذا النوع من السكاير، الذي ثمن العلبة الواحدة منه يُعادل نصف أو ثلث ربحك اليومي تقريباً؟
وراح بعد ذلك يلقي عليَّ درساً في وجوب الاعتدال والاقتصاد في المصروف..
فأجبتهُ عندما انتهى:
أنا لا أُدخن هذا النوع من السكاير حضرة الزعيم، إنما اليوم وأنا عالم بأنّي سأقابلك، حسبت نفسي في عيد، وكان فرحي كبيراً جداً، أحببت أن احتفل به.. فاشتريت هذه العلبة.
-كان يجب أن يرافق سرورك اعتدال، لكي تتجنب نقصاً ستشعر به عائلتك، ولا شك، التي يلزمها هذا المبلغ الذي أنفقتهُ على غير طائل.
-لن أعود إلى مثل هذا حضرة الزعيم.
-أعطني هذه العلبة يا رفيقي.
فتناولت علبة "اللوكي سترايك" من جيبي وسلمتها له، فنادى الرفيق فريد مبارك وقالَ لهُ:
-دبّر هذه العلبة يا رفيق فريد، أو بعها واشتر ببعض ثمنها علبة سكاير رخيصة وآتني بها.
وغادر الرفيق فريد مبارك المكتب حاملاً العلبة.. ثم عاد بعد قليل بعلبة سكاير "طاتلي سرت" كان ثمنها ثلاث قروش فقط، فسلمها للزعيم مع ما تبقى من ثمن العلبة الأولى، فقال لي وهو يعطيني المبلغ وعلبة السكاير الرخيصة:
-من الآن وصاعدا دخّن هذا النوع من السكاير.. إذا كنت لا تستطيع التوقف عن التدخين، وحاول أن تتذكر دائماً هذا الدرس.
-سأذكرهُ ما حييت حضرة الزعيم.. ولن أنساه مُطلقاً.
[1] محمد أمين صباح: من مناضلي الحزب. عرف العمل الحزبي والمسؤوليات في كل من النبطية وشاطئ العاج. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
[2] "مام" : أي المكتب الأعلى المختص. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
[3] "خان أنطون بك": منطقة في بيروت مجاورة للبحر في الحي المعروف حالياً. باسم "ميناء الحصن".
[4] فريد مبارك: اقرأ النبذة عنه على الموقع المذكور أعلاه.