رشيد سليم الخوري، الملقّب بالشاعر القروي، والذي جئنا على ذكره في مناسبة قراءتنا لكتاب " الإسلام في رسالتيه"، هو مجرد مثل عن الشعراء والأدباء الرجعيين، في نظر سعاده. وهناك أمثلة أخرى. نذكر الياس فرحات، إيليا أبو ماضي، عبد المسيح حداد والمير شكيب ارسلان وغيرهم.
المير شكيب ارسلان، وصفه بعض الكتّاب بأنه "امير البيان"؟ لأنه عزف على وتر العروبة الدينية، أعني العروبة على قاعدة الإسلام المحمدي، تماما مثلما حصل مع رشيد سليم الخوري نفسه، الذي عزف على نفس الوتر، فمدحه رياءً، المير شكيب ارسلان.[1]
ماذا قال سعاده في هؤلاء؟ قال ما يلي:
"قلنا أن الرجعة تحارب حربها الأخيرة، وها جبهة كاملة تنهار في المهجر: الياس فرحات، رشيد الخوري، ايليا أبي ماضي وعبد المسيح حداد. وهذه الجبهة ليست سوى حلقة من حلقات سلسلة الرجعة والبلبلة والتدجيل، ومنها حلقة شكيب ارسلان وأترابه"[2].
وقال أيضاً:
"لقد مدح الخوري، شكيب ارسلان، في "حارضته"، أي محاضرته التحريضية للطائفية، فقال عنه " أنه فتى فتيان العرب". ونحن نعلم، أن "ارسلان" ليس اسماً عربياً بل سلجوقياً. ونعلم أن شكيب ارسلان، الذي يريد أن يطهّر العالم العربي من الأجناس غير العربية، لم يتزوج إمرأة عربية، بل سورية شركسية. ونعلم فوق ذلك، أن "غالبا"، ابن شكيب ارسلان، لا يرى في أبيه، ما يدعو الى محبته واحترامه، فهو على خلاف معه، إنه قد تعب من تلوّن أبيه وريائه".
ورشيد سليم الخوري لم يكن فقط شاعراً من "الفحول"، كما أظهرته أوساط الرجعية في الجاليات السورية، في المغترب الأميركي، إنه أيضاً عالم كبير محاضر، في شؤون الإجتماع الفلسفية والدينية. لقد جمع الخوري المجد من أطرافه، ما دامت ساحة النقّاد المؤهلين خالية، إلا من أرباب الأدب الرجعي اللامناقبي اللامسؤول، الذين "لعمق" ثقافتهم و"دقة" شعورهم بالمسؤولية، يخلطون بين السمو والانحطاط، وبين العز والذل، فيسمّون الأشياء بأضدادها فإذا بالناظم المقلِّد، شاعراً فحلاً، وإذا بالجاهل أستاذاً في العلوم.
هكذا كان سعاده يصارع في ساحة النقد الأدبي، المزدحمة بأفواج الدجّالين، والكتبة والفرّيسيين، وخونة النهوض والتقدم والإرتقاء.
في محاضرته المشهورة عن المسيحية والمحمدية، والتي يسميها سعاده "حارضة" لا محاضرة،[3] لأنها تحرّض أبناء الشعب على الفتنة الدينية، ولخلوّها من كل شروط المحاضرة، كما قلنا، يخترع الخوري العالم الأديب، الفكرة التالية:
إن الدين المسيحي دين مذلّة وعزوف عن الحياة الدنيا، في حين أن الدين المحمدي دين القوة والنشاط والدعوة إلى الإهتمام بالحياة الدنيوية المادية الخ...ثم يعلن تفضيله الدين المحمدي على الدين المسيحي.
وقد ردّ سعاده، كما أسلفنا، على "محاضرة" الخوري، ببحث نقدي تحليلي طويل عميق، يكاد يكون الدراسة الوحيدة المثلى للدين المسيحي والمحمدي في زماننا، وإننا نكتفي بإبراز نتيجته الهامة التالية:
أننا كلّنا مسلمون لرب العالمين، منّا من أسلم بالقرآن، ومنا من أسلم بالإنجيل، ومنّا من أسلم بالحكمة. وهذه النتيجة تتفق مع أرقى قواعد التفسير الديني، أعني القاعدة التي تقول بأن يستخرج الدارس من كل آية، أفضل ما فيها. كما تتفق مع فلسفة سعاده القومية الإجتماعية التوحيدية.
حقاً، إنّ كتاب سعاده "الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية"، يظل دعوة لكل إنسان مهتم بالأدب الرفيع والفكر الفلسفي العالي، وفيه يكتشف الإنسان، الفرق الحاسم بين عقلية النهوض الإجتماعية، وعقلية الإنحطاط والسفول والأنانية، التي تتجلّى عند أدباء الرجعة[4].
وتجدر الإشارة إلى أن الصحافيين المتربّعين في ساحة الأدب الصحافي، لم يكونوا أحسن حالاً من نظرائهم النظّامين والمحاضرين، وسعاده لم يتركهم دون درسٍ لظاهرتهم، التي لا تختلف بخصائصها، عن الظاهرة الرجعية الإنحطاطية عموما. سعاده كما نعرف، كان صحافياً بالإضافة إلى عمله الإنشائي التعميري العظيم، كزعيم للحزب السوري القومي الإجتماعي. وقد بدأ العمل في الصحافة مع والده، منذ فتوته الأولى، سواء في جريدة "الجريدة"، أو في مجلة "المجلة"، اللتين كان يصدرهما والده في المغترب البرازيلي والإرجنتيني.
من أدباء الصحافة الذين تعرّض سعاده لنقدهم، نذكر السيد عبد المسيح حداد، صاحب جريدة "السائح" النيويوركية، (وهي صحيفة الرابطة القلمية أيام جبران خليل جبران)، كما نذكر الشاعر الصحافي إيليا أبي ماضي، صاحب جريدة "السمير" النيويوركية أيضاً، ويقدم سعاده مثالاً عن الأدب الصحافي لهذين الكاتبين، النموذج التالي:
كتب صاحب جريدة "السائح" في عدد جريدته المؤرخ في 19 آذار 1942، في باب "رسائل الجوالي" معلّقا على نعي وصله بوفاة شاب، مقالة يقول فيها:
"صُعِقت الجالية هنا، والجوالي السورية العديدة، للفاجعة المحرقة التي المّت بعائلة السيد لويس ناصيف، التاجر الكبير في هويلن، وست فرجينيا. فقد نقل إليه البرق من دائرة الجنود البحريين في مدينة باريس، وست كارولينا، أن وحيده الشاب النجيب، والبطل الحبيب، لويس، قد خرّ صريعاً في حادثة فجائية حربية. وقد نقل إلينا الخبر، الذي شعل النار في أفئدتنا، بالتلفون مساء أمس، فلم نحصل على أكثر من هذه التفاصيل...الخ".[5]
وفي الفقرة الأخيرة من هذا التعليق يقول الحداد: "إنه لخطبٌ جلل، إنها لمصيبة لا تُحتَمَل".[6]
وكان صاحب جريدة "السمير"، قد سبق جريدة "السائح" إلى إعلان الخبر، إذ نشر في عدد جريدته الصادر بتاريخ 18 آذار، في باب - أخبار محلية - وتحت عنوان فقيد الصبا، "يا للفاجعة"، تعليقاً يقول في مستهله:
"روّعنا البرق في هذا الصباح، بخبر وقع علينا وقوع الصاعقة، فزلزل منا القوى، وهو وفاة الفتى الذي كنا نتوقع له مستقبلاً باهراً، في عالم الجندية، لذكائه وبراعته وحماسته، وتفوقه في ضروب الرماية والمسابقة، وهو المأسوف على شبابه النضير، وأدبه الوفير، المرحوم "لويس ناصيف جونيور"، ونجل صديقنا التاجر البارز في هويلن، وست فرجينيا، لويس ناصيف وقرينته المهذبة السيدة شهريان، الذي مات في المعسكر، ...الخ"[7]
وبعد أن تحدث عن كيفية تطوع الفقيد في الجندية، وهو وحيد والديه، ينتهي إلى الوصف التالي، في مجال نعيه:
"هذا هو الخبر، الذي نكتبه بيد مرتجفة، ونفسٌ حزينة مضطربة.. وإننا لا ندري بأيّ الكلمات، نقدر أن نعزّي أبويه وجدّيه ، فإنّ هذا الخطب، من الخطوب التي تعقل الألسن والأقلام، وتترك المرء المصعوق"[8].
هذا الموضوع كُتِبَ على أعمدة، في عدة أعداد، في الصحيفتين المذكورتين، كما نشر فيهما رسم الشاب الفقيد، أكثر من مرة، وامتازت جريدة "السمير" بنشر الرسم ثانية مبكراً[9].
وقد علّق سعاده على هذه الظاهرة، بوصفها أنها ظاهرة الأدب، الذي صار تجارة بغيضة ويلاحظ أن تعليقَي الصحيفتين متفقان في الأسلوب، متجانسان في الغاية. فالأسلوب أدبي تقليدي، لا شعور حيّ فيه، والغاية تزلّف إلى "التاجر الكبير" والد الفقيد[10].
والحقيقة أن حرب سعاده، للأدب التقليدي الرجعي، قد اتسمت أثناء وجوده القسري في المغترب الأميركي الجنوبي، إبّان الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل، (أي ما بين 1939-1947)، حتى شملت جميع أعضاء الرابطة القلمية، من شعراء وأدباء وغيرهم، فلم تقتصر على السيدين حداد وأبي ماضي كما قلنا.
وهو يحمّل أدباء المهجر، الذين يسميهم بأدباء "الهفت والبهت"[11]، المسؤولية الرئيسية في بقاء المستوى الروحي- المناقبي للجاليات السورية منحطّاً، قوامه النعرات الطائفية والنزاعات الفئوية والخصوصية. وهو يقول إن أعظم أسباب انحلال الروابط القومية والإجتماعية، وابتعاد أبناء السوريين المولودين في المهاجر، عن لغتنا العربية القومية، وكرههم الإنتساب لأمتهم، إنما صدر عن تلك الطائفة من الكتّاب، الذين اندفعوا وراء طلب "جنون الخلود" الأناني، بديل النهوض بشعبهم، والإرتقاء بحياة الأجيال الصاعدة [12].
وهو يأسف أن تكون الرابطة القلمية، التي تألقت شمسها أيام جبران قد انتهت إلى جيفة ميتة"[13]. وأن يكون الشوق العظيم إلى حقيقة أساسية وعهد جديد، الذي أحيا الرابطة القلمية، وشحذ أقلام أركانها، وفي مقدمتهم جبران، قد خبا منذ عدل جبران عن لغته القومية إلى الإنكليزية، وطلّق نعيمه النقد، ليصير مقلَّداً صوفياً، وغادر الريحاني روحية "الريحانيات"، ليسيح في العربة بالإتفاق مع الإنكليز[14].
ويقول سعاده، إنّ مبدأ "الرابطة القلمية" السلبي، الذي قال بالإنعتاق عن العالم القديم المتهالك، والتفتيش عن الجديد المحيي، قد خرج عنه جميع القلميين، وظلّ من حظ جبران وحده.[15].
واضح إذن، أن سعاده، كما كان يميّز في كتاباته الفلسفية – الإجتماعية المناقبية، بين العيش والحياة، كذلك نجده يميّز بين نوعين من الأدب، أدب الكتب وأدب الحياة. في كتاباته الفلسفية، يقول أن العيش لا يفرّق بين الذلّ والعزّ، في حين أن الحياة لا تكون إلّا في العز. وهذا معناه في لغة سعاده القومية الإجتماعية، أن أهل العيش، عبارة عن قطعان بشرية. إنّهم شأن السائمة وحاجاتهم حاجات غريزية، فهم مفتقرون إلى دافع العمران والثقافة. أما أبناء الحياة، فهويّتهم أمة ناهضة، نحو أجمل المثل العليا، التي تستطيع النفس الإنسانية العاقلة المُدركة، أن ترسمها وتطلبها. إن العيش شيمة الجماعة المنهارة، في حين أن الحياة، شيمة المجتمع الموحَّد المتقدم بخطى ثابتة، نحو غايته المثلى.
الفرق بين العيش والحياة، عند سعاده، يوازي تماما، الفرق بين ما هو عدم وجمود، وما هو بعثٌ ووجود، أو الفرق بين السعي إلى مثلٍ دنيا، والسعي نحو مثل عليا. فما هي علاقة هذا التمييز بين العيش والحياة، بالتمييز الذي أنشأه سعاده، بين أدب الكتب وأدب الحياة؟
يجيب سعاده: "إنّ نقص الحياة والأساس الحياتي في أدبنا، لأمر رائع ونتيجة مؤسفة جداً، لأنها تضرب بيننا وبين المثل العليا، حجاباً كثيفاً، ولا تمدّنا إلا بما ابتذل من الألفاظ، وهزل من المعاني، وأفقر من المبادىء".
ويعدد سعاده الأسباب المباشرة لهذا الفقر، في إسراع الشعراء إلى قرض الشعر، تقليداً للقديم القريب، وإقبال الأدباء على الكتابة، وليس لهم من عدّة، إلا عدّة اللغة"[16] .
أما الأسباب العميقة البعيدة، لشيوع أدب الكتب في مجتمعنا، فيراها سعاده كامنة في نمط الحياة في بيئتهم، وهو النمط الرجعي الإنحطاطي، الذي يسميه سعاده، عيشاً لا يفرّق بين الذل والعز، بين القبح والجمال.
ويضرب سعاده على ذلك، مثال الحياة الحبّية في محيطنا، التي هي من أهم عوامل الشعر، فيقول أن القدود والخدود والنهود، أي المؤثرات الجنسية، هي العامل الأقوى في إثارة شعور الشاعر، ونشاط مخيلة الأديب، في حين أن الحياة الحبّية الراقية، هي نهوض نحو "المطالب العليا، الباعثة على الإقدام والشجاعة والكرامة، وتنقية النفس من الشوائب، على منهاج معيّن[17]. وفي مناسبة أخرى، يصف قضية الحب، بأنها "إتحاد فكر وشعور، واشتراك نفوس في فهم جمال الحياة، وتحقيق مطالبها العليا"[18]
ويختتم سعاده كلامه عن أدب الحياة بقوله:
"الذي أريد أن أقوله، في ختام هذه العجالة، هو أن أصول الأدب، يجب أن تكون في الحياة لتتمكن من إعطاء ثمار تغذي الأحياء، فكثرة الإطلاع الأدبي دون اختيار الحياة السامية، لا تصنع أدباً ولا أديباً يبقيان، لأن "كل أدب لا يعرف الحياة، لا يحيا"[19]
Ω Ω Ω Ω Ω Ω
[1] سعاده، الأثار الكاملة، جزء 9، صفحة 298
[2] المرجع السابق صفحة 299
[3] سعاده-"الإسلام في رسالتيه"-الطبعة 3- 1958، صفحة 5
[4] المرجع السابق، ص 17،16،4
[5] جريدة "الزوبعة" العدد 45، 1 حزيران 1942، صفحة 5-6
[6] المرجع السابق نفسه
[7] المرجع السابق نفسه
[8] المرجع السابق نفسه
[9] المرجع السابق نفسه
[10] المرجع السابق نفسه
[11] جريدة الزوبعة، العدد 43، السنة 2، 1 أيار 1943، مقال "تجار الأدب في المهجر".
[12] المرجع السابق نفسه
[13] المرجع السابق نفسه
[14] المرجع السابق نفسه
[15] المرجع السابق نفسه
[16] كتاب الأثار الكاملة، المجلد 2، ص 208-209، مقال"أدب الكتب وأدب الحياة".
[17] المرجع السابق نفسه
[18] المرجع السابق ص 68، بحث "الصراع الفكري في الأدب السوري"
[19] المرجع السابق نفسه ص 211