غادرنا الأب سهيل قاشا (1942 - 2022) بصمت في 21 شباط (فبراير) الماضي، وهو الكاهن الغزير بالإنتاج والإشكاليات، الآتي من بلاد الرافدين التي شهدت ولادة الحضارة وازدهرت بالأساطير والعطاءات الفكرية، فكانت مهداً غنياً لتراث عريق تعتزّ به الإنسانية.
الأب سهيل قاشا أتى إلينا من بلاد تحدّت الصهيونية وقصفت بصواريخها الكيان الإسرائيلي المعتدي، واليوم تعاني من فوضى أميركية وتغلغل صهيوني يهدّدان وحدة العراق وسلامة أراضيه.
من زمان، وعى الأب سهيل قاشا الخطر الصهيوني على بلادنا، فكانت له مؤلفات وكتابات عديدة حول تاريخ منطقتنا ولا سيما الحضاري والديني منها.
كما كتب في الحوار المسيحي الإسلامي وفي التراث المسيحي القديم، ولا سيما تاريخ الكنيسة السريانية العريق.
ورغم سريانيته، فهو منفتح ومحاور ومُلم بمختلف فروع السريانية والكنيسة المارونية واحدة منها. كما له جولات كتابية في التراث الإسلامي وتلاقيه مع التراث المسيحي وكلاهما نابع من حضارة واحدة. حرص الأب سهيل قاشا في كتاباته على التوجه إلى أبناء قومه من مسيحيين ومسلمين، ودعاهم إلى الوقوف صفاً واحداً ضد المبادئ الهدّامة التي تعمل لها الصهيونية العالمية في السر والعلن من أجل تحريف الإنجيل وتدمير الكنيسة والنيل من الفكر الإنساني والمسيحي.
في عام 1978، نشر سلسلة أبحاث حول «الصهيونية تُحرّف الكتاب المقدس»، فكانت شبه إنذار لفضح المخططات الصهيونية ومحاولاتها للتشكيك في العقائد اللاهوتية. وقد استشرف الأب سهيل قاشا باكراً ما نشهده اليوم من مذاهب وبدع تندسّ في صفوف المسيحية الغربية، ولا سيما البروتستانتيّة الأميركية وبعض مدارس الإنجيليين المحافظين الذين تحالفوا مع اليهودية المتصهينة وشكّلوا إيديولوجية الهيمنة في الإدارة الأميركية التي تخطط بعض أجنحتها للسيطرة على العالم، بخاصة على مشرقنا حيث أطماعها في نهب الثروات النفطية وعملها لضمان «أمن إسرائيل».
ركّز الأب سهيل قاشا على أن مفهوم الصهيونية هو العمل من أجل تكوين مجتمع يهودي في فلسطين، والفكر الصهيوني نابع من عقائد التوراة وشرائع التلمود والفكر اليهودي العنصري.
تميّز الأب قاشا عن غيره من المفكرين باعتباره أنّ الصهيونية حركة قديمة مرّت بأدوار عديدة وهي تعبر عن أهداف اليهود وأطماعهم عبر التاريخ من أجل العودة إلى صهيون ويسميها الصهيونية القديمة.
أما الصهيونية الحديثة كما يحددها في كتابه، فهي أسلوب عمل للاستعمار الاستيطاني في منطقتنا وصنع دولة لليهود يحقق نداء الماضي بالعودة إلى صهيون. وصهيون في الأصل جبل يقع إلى الشرق من مدينة القدس القديمة.
حرص الأب قاشا على التمييز بين هذا المفهوم اليهودي للصهيونية ومفهوم «صهيون» وفق التعاليم المسيحية وهو «يعني ملكوت السموات الذي بشّر به المسيح بأورشليم الجديدة التي ستكون في اليوم الأخير مأوى للصالحين والأبرار».
استعرض الأب قاشا علاقة الصهيونية بشهود يهوه والماسونية وبروتوكولات حكماء صهيون والصهيونية المسيحية، وغيرها من التنظيمات، وكلها حسب رأيه أشكال ووسائل لخطة صهيونية عالمية واحدة «تهدف إلى السيطرة على العالم وإخضاع الشعب اليهودي الذي فرضت عليه الحركة الصهيونية نفسها وصيّة عليه».
والحركة الصهيونية تعمل في السر والعلن على هدم الأديان الأخرى وخاصة المسيحية من أجل إيقاع العالم في الفوضى والتفكك الخلقي تنفيذاً لمخطط الصهيونية في السيطرة على العالم.
وقد تجلّى ذلك بشكل أساسي في تحريف الإنجيل وإصدار «نسخة إسرائيلية» لأسفار العهد الجديد طُبعت في القدس عام 1970 وعملت الصهيونية على نشر هذه الطبعة في مختلف الكنائس، ونظمت المؤتمرات ودعمت شيعاً وبدعاً مسيحية متصهينة هدفها إقناع الجماهير المسيحية في أوروبا وأميركا بمساعدة اليهود لإقامة دولة إسرائيل تمهيداً لعودة المسيح المنتظر. هكذا يسهل إفساد الرأي العام المسيحي وتحوير رسالته من طريق الخلاص الإلهي في الملكوت السماوي إلى بناء مملكة عنصرية على أرض فلسطين.
وقد تُوجت حركة التحريف والتزوير في وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح التي صدرت عن المجمع المسكوني عام 1963. وقد استغلّت الصهيونية هذا الموقف الإنساني المتسامح للفاتيكان لتوظيف التبرئة في مسيرة تشويه العقيدة المسيحية الحقيقية وتشجيع البدع والحركات والكنائس المشبوهة خاصة في الولايات المتحدة الأميركية لتوظيفها في دعم الحكومة الإسرائيلية ودمج العقيدة الصهيونية مع العقيدة الأميركية التوسعية.
وقد استهدفت الصهيونية أولاً المسيحية المشرقية لأن الكنائس الأنطاكيّة هي الأقرب إلى روح المسيحية الحقّة، وهي الأصلب والأقدر على مواجهة محاولات التحريف والتزوير التي تقوم بها الصهيونية.
كما أن الصهيونية تستهدف أولاً المسيحيين المشرقيين لأنهم عنصر مقاومة لمشاريعها التهويدية. لذلك سعت الصهيونية وتسعى إلى تهجير المسيحيين من مشرقهم، خاصة في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان حتى تكون الأرض مباحة لتوسع «إسرائيل» وتهويدها للمنطقة من أجل بناء إسرائيل الكبرى.
إن الصهيونية تنظر إلى المسيحية المشرقية بعداء وكراهية، لأن الكنيسة الأنطاكية أصيلة وصلبة في التزامها بعقيدتها المسيحية، والمسيحيون الأنطاكيون متشبّثون بانتمائهم إلى أرضهم ومتعلّقون بجذورهم ومتمسكون بأصولهم وتراثهم العريق. صراع المسيحية الأنطاكية مع الصهيونية هو صراع وجود لأنه صراع حضاري يمتد إلى الجذور التاريخية. إنه صراع بين العنصرية والإلغاء من جهة، والتسامح والمحبة من جهة أخرى.
إن المسيحية الأنطاكية اليوم مدعوّة إلى التعبير عن أصالتها ورسالتها المتميزة عن العقيدة الصهيونية الأوتوقراطية العنصرية التوسعية وعن عقيدة المحافظين الجدد التي تستغل المسيحية لأغراض الهيمنة والتسلط الأميركيَّيْن.
المسيحية الأنطاكية مدعوّة إلى إعادة الروح إلى رسالة المسيح في المحبة والعطاء والتسامح وبناء ملكوت الفقراء والمعذبين والمتعبين. كما أنّ الحضارة المادية الأميركية بحاجة إلى القيم والأخلاق والروح المسيحية الحقّة لتنقذها من تشييء الإنسان وتضليله وتغليب الشر والاستغلال.
"الصهيونية تحرف الإنجيل» ليس مجرد كتاب يفضح تسلل اليهود الصهاينة إلى داخل الكنيسة، وسيطرتهم أحياناً على مراكز التعليم المسيحي وتفسير الكتاب المقدس والتوجيه اللاهوتي عبر التحريف والتزييف. هذا الكتاب ليس مجرد نص علمي، بل هو صرخة أرادها الأب سهيل قاشا كجرس صغير بدقّات لطيفة لإنقاذ الضمير الإنساني أولاً والمسيحي ثانياً لما تخطط له الصهيونية من سياسات هدم وتخريب. وأردّد مع الأب سهيل قاشا، ولو بعد غيابه... اللهم إنّي بلّغت اللهم فاشهد.