قبل مدة أرسل لي أحد الزملاء في القاهرة، بناء على طلبي، كتاباً كنتُ قد قرأت خبراً صغيراً عن صدوره في العاصمة المصرية منذ فترة. العنوان “لوقيان فيلسوف الشام والشرق” من تأليف عبد السلام زيان والناشر “دار شمس للنشر والتوزيع”. وبعد تصفحي لمحتوياته، عادت بي الذاكرة إلى سنة 1980 عندما تلقيت نسخة من كتاب كبير (400 صفحة) أصدرته وزارة الثقافة والإعلام العراقية بعنوان “من أعمال لوقيانوس السميساطي ـ مختارات من محاوراته وفصوله”. اختار النصوص وترجمها وعلق عليها سعد صائب ومفيد عرنوق. وقد نشرتُ حينها عرضاً لمحتويات الكتاب الذي اختفى بلمسة سحرية من مكتبتي في بيروت!
يتضمن الكتابان مجموعة غنية من المؤلفات التي وضعها لوقيان (الصيغة اليونانية: لوقيانوس) بالسريانية لغته القومية، أو باليونانية وهي اللغة التي استعملها أثناء إقامته في اليونان. ويلفت النظر في الكتابين، كما في غيرهما من أعمال أدبية أو فكرية مكتوبة بالسريانية، أن تعريب محتوياتهما غالباً ما يكون من لغة أجنبية كالفرنسية أو الإنكليزية وليس من السريانية مباشرة. وسنعود إلى هذه النقطة المهمة في سياق المقال.
وُلد لوقيان سنة 125 ميلادية في مدينة سميساط السورية الواقعة على نهر الفرات الأعلى، ويتكلم أهلها اللغة السريانية التي كانت اللغة السائدة في سورية الطبيعية. تلقى لوقيان دروسه الأولى في مدينته، وتعمّق بدراسة السريانية وآدابها. ثم راح يتنقل في أرجاء الأمبراطورية اليونانية إلى أن حط رحاله في أثينا عاصمة الثقافة في تلك الفترة، حيث أكمل دروسه الفلسفية والاجتماعية والأدبية، بالإضافة إلى الحقوق. وبعد امتلاك الأدوات المعرفية اللازمة، أخذ يلقي محاضرات ويؤلف مسرحيات وحوارات مهاجماً السفسطائيين والفلاسفة المزيفين وأدعياء الفكر، إلى جانب نقده اللاذع والمرير للظواهر الاجتماعية، خصوصاً النزعات العنصرية المسيطرة في اليونان. وقد اضطر إلى مغادرة أثينا بسبب بعض الضغوط، واستقر في الإسكندرية حيث توفي سنة 192 ميلادية.
وضع الدكتور أنور حاتم مقدمة كتاب “من أعمال لوقيانوس السميساطي”، وقال فيها: “لقد كان لوقيانوس يمثل عبقرية شعبه بمواهبه الجامعة، وحبه لشتى فنون الأدب، كما كان يأبى أن يحصر خياله بنوع واحد من أنواع التصنيف، أو يأسر فكره في ضرب واحد من ضروب الإنشاء. لقد كتب في الفلسفة فأبدع، ولجأ إلى الحوار فجدّد، وتولى البحث في نهج التاريخ فحاز قصب السبق. وأثبت مهارة نادرة في تكييف وجوه البلاغة واستعمال التهكم ورواية الأحداث وابتكار القصص، والتعمق في النظريات والعلوم ثم السخرية منها وأخيراً تحطيمها”. وأضاف حاتم: “كما أنه كان يمثل نفسية شعبه بحبه للأسفار والاغتراب وسرعة إئتلافه مع كل بيئة وُجد فيها، وحسن تفهمه لمختلف المهن والنحل، وعقلية الشعوب. وقد قضى شطراً كبيراً من حياته متنقلاً بين الأقطار والأمصار…”.
كان لوقيان يشدد على ضرورة العودة إلى الوطن من أجل إعلاء شأنه والمفاخرة به على العالم. ولطالما قال عن نفسه “أنا لوقيان السوري الهمجي”، في معرض نقده للنظرة الدونية التي حملها الإغريق عن السوريين وشعوب الشرق الأخرى. لذلك نراه يركز في كتاباته على التعريف بالحضارة السورية. فقد كتب عن “الآلهة السورية” ووضع مؤلفاً يتناول “كيف يجب أن يُكتب التاريخ”. وفي هذين العملين تظهر بوضوح نزعته المحلية، لجهة إبراز التوجهات الدينية السورية قبل ظهور المسيحية وانتشارها لاحقاً. وتأخذ دراسته للتاريخ في الاعتبار أن المؤرخين اليونانيين والرومانيين لم يكونوا منصفين في عرضهم لتاريخ الشرق الموغل في القدم.
نعود الآن إلى مسألة اللغة، إذ يبدو أن هناك من يطرحها كبديل عن الهوية أو كهوية قائمة بذاتها. لوقيان وغيره من الكتاب، في عصور ما قبل سيطرة القبائل العربية الحاملة راية دين جديد، كانت السريانية (الآرامية) لغتهم الأم. الغالبية العظمى وضعت مؤلفاتها بالسريانية وباليونانية التي هي لغة الدولة. وعلى الرغم من خطة “هلينة” المجتمعات التي سيطر عليها الإسكندر، إلا أن الشعوب المغلوبة حافظت على تراثها الروحي والثقافي… بل وأثرت بعمق في الفكر اليوناني من خلال التفاعل الإيجابي واستقرار عدد كبير من المفكرين والكتاب في العاصمة أثينا.
تعرضت سورية الطبيعية إلى ثلاث موجات غزو متتابعة (الفارسية واليونانية والرومانية)، أسقطت آخر أمبراطورية محلية (الأشورية ـ البابلية الجديدة) وأفقدت السوريين سيادتهم على أنفسهم. ومع ذلك ظلت السريانية (الآرامية) هي اللغة المنتشرة في سوريا الطبيعية، واستعملها الناس في شؤونهم الدينية والدنيوية. ولوقيان واحد من الذين حرصوا بشدة على التأليف بالسريانية، وترك لنا نتاجاً منوعاً ظل شبه مجهول حتى وقت متأخر، علماً بأن الباحثين الأوروبيين اطلعوا في وقت مبكر على كتاباته باليونانية. ومن ثم قاموا بترجمة بعض مؤلفاته السريانية إلى اللغات الأوروبية الحية.
والغريب أن كل الذين كتبوا عن لقمان وترجموا بعض أعماله، استندوا إلى الترجمات الفرنسية والإنكليزية (وأحياناً قليلة الألمانية). ولست أعرف، شخصياً، أية ترجمة عن السريانية مباشرة. ومن المتعارف عليه أن الترجمة، مهما كانت دقيقة، تُفقد النص المُتَرجَم بعضاً من خصائصه الأسلوبية… فما بالك بترجمة عن الترجمة! أضف إلى ذلك القرابة الوثيقة بين العربية والسريانية، ما يجعل الترجمة بينهما أسهل وأدق.
وعلى الرغم من الجهود المتزايدة في الدراسات السريانية خلال العقود القليلة الماضية، إلا أنها لا ترقى أبداً إلى المستوى المطلوب. إن قسماً لا يُستهان به من التراث السرياني غير الديني تعرض للتجاهل والرفض بعد اعتناق المسيحية وتحولها إلى دين رسمي في سورية الطبيعية. وعندما جاء الإسلام بلغته العربية، أحدث نوعاً من القطيعة المعرفية مع اللغة السريانية… فدخل التراث السوري المكتوب بغير العربية في حالة من الإهمال ما زالت مستمرة حتى اليوم بشكل أو بآخر.
نحن نشهد حالياً جهوداً لإحياء “اللغات السورية القديمة”. ولا شك في أن هذا عمل ضروري ومفيد. لكن حذار التعامل مع اللغة بوصفها “هوية متمايزة” عن الهوية القومية العليا. العربية الآن هي لساننا القومي، بكل ما أضيف إليها من مؤثرات سورية. ومع ذلك سيكون من الخطأ أن نتعامل مع أدب اللغة العربية في العصر الجاهلي على أنه البداية المبكرة للأدب السوري. فمثل هذا الاعتبار يلغي بشطحة قلم تراثاً ثقافياً حضارياً يعود إلى آلاف السنين قبل “العصر الجاهلي”. وفي هذا السياق ندرك أهمية ترجمة تراثنا العريق (لوقيان السميساطي نموذجاً)، لأن الشخصية الثقافية للأمة هي التراكم الحضاري للجماعات المتفاعلة ضمن الحيز الجغرافي الذي هو سورية الطبيعية.
مؤلفاته:
كتب لوقيان كثيراً من قصص الإبداع، وترك عشرات المؤلفات والقصص والرسائل في الأدب الفلسفي العالمي. 27 قصة في “حوار مع الأموات”، و15 قصة في “حوار في البحر”، و26 قصة في “حوار مع آلهة الأولمب”.
تُرجم له:
- من أعمال لوقيانوس السميساطي. وزارة الثقافة- بغداد 1979.
- من أعمال لوقيانوس السميساطي. طبعة ثانية، دار المعرفة – دمشق 1988.
- محاورات لوقيانوس السميساطي – الجزء الثاني. دار طلاس – دمشق 1988.
- الإلهة السورية. الأبجدية للنشر – دمشق 1992.