.مثلما تشرقُ الشّمسُ نوراً ساطعاً من بعد دُجى، كذلك تنشر الشّمس ذاتُها دمَها على الأفق، قرباناً صامتاً لسيادة الظّلام، فتستجيب بعضُ الشّعوب لنداء الأفول، فيما تصرُّ شعوبٌ أخرى على مواجهة تيّارات الغرَق بمجاذيف الرّوح، صائغةً من لحظات الصّراع رموزاً حيّةً تجتمع فيها حرارة الألم بجمال الكبرياء. لكنْ... شراعاً بعد شراع تترسَّخ هذه الرّموز حوافزَ محفورة في الوجدان الجمعي وتغدو أناشيد حضارةٍ على شفاه العصور.
هل سمعنا يوماً بالحَجَر الفلسفي؟
كان بعض العلماء الكيميائيّين، في العصور الخوالي، يبحثون عن حجرٍ غريبٍ سمّوْه الحجر الفلسفي، يمتاز بأنّ كلّ معدنٍ يمسّه يتحوّل ذهباً. لكنّ ذلك الحجر الأسطوري لم يكن ليُعثَر عليه... وحدهم العشّاق وجدوه في الحبّ، كما وجده الأدباء في الكلمة المجنّحة، وألفاه الفلاسفة في التفكير المنهجي. أمّا الجياع فوجدوه في الرّغيف، والظامئون في المياه الريّا، إلى آخر المعادلة التي من خلالها وضعنا الكتاب الذي ننتدي اليوم على مائدة كاتبه، في ميزان القراءة النّقديّة. هذه هي وظيفة الإضافة المعرفيّة، وهذا هو معيار الصّدق مع الذّات والآخرين، بل مع الحقيقة التي تمثّل حياتُنا البحثيّة سباقاً حكميّاً مع ما يَحُول دون الوصول إليها.
لم تكن رحلة الصّديق الدكتور إميل تنّوري مع عقلانيّة المعرّي أمراً سهلاً لعدّة أسباب، منها المحمول الفكريّ الذي يمثّله أبو العلاء، خصوصاً في حاضرةٍ متفوّقة قطباها بغداد ودمشق. ومنها موقع المعرّي المتقدّم في ديوان التّراث الحيّ، وهو موقع إبداعيّ يجعل من شاغله هدفاً راهنيّاً حتى يومنا هذا. كذلك يُقال في مصادر الشّغف لدراسة المعرّي. فنحن إذا أهملناه أو افتقرنا إلى أمثاله، فقدنا في التّراث عوامل نبضه وأجهزنا على شوكاته المسنونة... هذا دون أن ننسى رصد روافد الحياة العقليّة في العصر العبّاسي، وهي روافد علومٍ وفلسفات غذّى تربتَها العربيّة التّثاقفُ اليوناني - الفارسي - الهندي، وهو تفاعلٌ ارتقى بالنّزعة العقليّة بعد تأصيل الترجمات الفلسفيّة والتمرّس بالعلوم.
وفي عودةٍ إلى كتابه الذي ما زالت رائحة المطبعة تفوحُ منه، يستقرّ لدينا اعتماد الدكتور تنّوري منهجيّةً صارمةً غلبتْ فيها الموضوعيّةُ العواطفَ، والطَّرحُ المحدَّد الجملةَ الإنشائيّة. وقد أُبرزتْ في عنوان الكتاب وحروفه كلمتان هما: عقل المعريّ. ثم إنّ من معالم الغنى التي يحفل بها المؤلَّف عَرْض لمواقف بعض الأعلام القدامى من أبي العلاء، كالقزويني والتّبريزي وابن الأثير وياقوت وابن العديم، إضافةً إلى بعض الأعلام المعاصرين من مارون عبّود إلى طه حسين وعبدالله العلايلي. وإذا كان المعرّي رؤيويّاً في ارتيابه فلأنّه لم يكتفِ بالظّواهر والقشور والمسلّمات النّمطيّة. لذلك وشّح كتاباته في الشِّعر والنَّثر بالفكر الفلسفيّ، الدّاعي إلى اتّباع إمامة العقل وهو الملكة التي وهبها اللهُ للإنسان حتى يعقِل باستخدامها، فلا تستأثر بذهنه الأساطير ولا تعطّل عقلانيّته المخاوفُ من التّفكير والمعرفة والإدراك والاكتشاف.
ربّما كان المتنبّي أفحل شعراً كما يقول الأصمعي. لكنّ المعرّي أصدَق وأعمق. ولعلّ القيمة الأعلى لأبي العلاء كامنة في فكره وأخلاقه قبل كمونها في شعره، المقدود من ثقافة موسوعيّة، ومزاج سوداويّ لم يحسن صاحبه الظنّ بالنّوع البشريّ، فغاب الحدّ الأدنى من التفاؤل لديه بالإنسان:
سلطانُكَ النَّارُ إنْ تَعدِلْ فنافعةٌ وإنْ تَجُرْ فَلها ضيْرٌ وإحراقُ
والحقُّ كالشَّمسِ وارتْها حنادسُها فما لها في عيون النّاس إشراقُ
ومن تجليّات إيمان المعرّي، المشوب بسوء الظنّ من الدّنيا، قوله:
رددتُ إلى مليك الخلقِ أمري فلمْ أسألْ متى يقعُ الكسوفُ؟
فكمْ سَلِمَ الجهولُ من المنايا وعوجل بالحِمامِ الفيلسوفُ!!
لقد أشارَ المؤلّفُ إلى محاولاتِ بعض الفلاسفة العرب الفصلَ بين ما هو من نتاج الدّين، وما هو من نتاج العقل. لكنّ المشكلة في رأينا أنّ فلاسفة العرب القُدامى - إذا استثنينا ظاهرة ابن رشد - هم نُسَخٌ أرسطيّة، معدّلة وفقاً للظروف والبيئة والملكات الفرديّة. ولعلّ إحدى أهم الأفكار التي وردت في الكتاب أنّ المعرفة العقلانيّة هي المنهجيّة في البحث عن الحقيقة العلميّة. فالحقيقة تكتسب قيمتها بالمعرفة. والمعرفة العقلانيّة تتمثّل بإبطال التأثير الغيبيّ. لذلك حسَمَ عصرُ الأنوار الأوروبي المسألةَ بالدّعوة إلى استخدام القوّة الإدراكيّة والخروج من القُصور العقليّ إلى الآفاق الفكريّة المفتوحة، من غير أن يعني الاستقلالُ الفكريّ اختراقاً حتميّاً للمطلقات والغيبيّات. وإذا كان العقل مرجعيّة مركزيّة لدى شيخ المعرّة، فمعنى ذلك أنّه منذ عشرة قرون طرق أبواب الحداثة فسبق الأمم التي وصل بعضها اليوم إلى مرحلة ما بعد الحداثة. post-modernism وقد فسَّر بعض الدّارسين والمؤرّخين تأثير المعرّي عبر «رسالة الغفران» في «الكوميديا الإلهيّة» لشاعر إيطاليا الأعظم دانتي من قَبيل الاستباق المعرفي والفتح الفكريّ ومعارج الرؤيا. يقول طه حُسين في هذا الصّدد، وهو الملقّب بعميد الأدب العربي، إن «رسالة الغفران» هي آية الأدب العربي قديماً وحديثاً، كما أنّ صاحبها هو آية كُتَّاب العرب. ويضيف هذا الخبير بأبي العلاء إلى درجة كاد فيها أن يتماهى بالشخصيّة الكليّة للمعرّي، من دون أن يتحاشى نقده: «أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله، وأسرف في الثّقة بهذا العقل، ورفضَ كلّ شيءٍ سواه... فالعقل، مهما يكن جوهره ومهما تكن طبيعته، إنسانيٌّ أي محدود، محدود الطّاقة محدود المعرفة كغيره من ملكات الإنسان. فالغريب أن يُتّخذ العقل المحدود سبيلاً إلى ما لا حدّ له، وأن تتّخذ هذه الآلة القاصرة المتواضعة سبيلاً إلى بلوغ ما لا يُستطاع بلوغه.
وفي كتابه بعنوان «تجديد ذكرى أبي العلاء» يكثّف طه حسين الإشكاليّة المصاحبة لشخصيّة المعرّي الثقافيّة فيُسمّيه الفيلسوف المشاكس. لكن طه حسين الذي وضع غيرَ كتابٍ عن المعرّي يعتبر أنّنا غير محتاجين إلى أن نتذكّر الإيمان الدينيّ للمعرّي باعتباره أَظْهَرَ أثراً من أن يُشار إليه. فالرجل لم يترك مذهباً من المذاهب الدينيّة والفكريّة في عصره إلاّ أعطاها وأخذ منها... فقد هاج اليهودَ والنّصارى، وناظرَ البوذيّين والمجوس، واعترض على المسلمين، وجادل الفلاسفة والمتكلّمين، وذمَّ الصّوفيّة، ونصَّ على الباطنيّة، وقدح من الملوك والأمراء، وشنَّعَ على الفقهاء والنسّاك، ولم يُعفِ التجّار والصنّاع من اللّوم والعذل، ولم يُخلِّ الأعرابَ وأهلَ البادية من التعنيف والتثريب.
وكم كنّا نتمنّى، في معرض دراسة المعرّي من قِبَل الدكتور تنّوري، دراسةً تنحو منحى الدور الاستشرافي لأبي العلاء، لو أنّه أبان عن القراءة التي نشرها الباحثان الفرنسيّان ميغاربنه باتريك وڤونغ هْواهُوي حول تراث المعرّي (لوموند دبلوماتيك في ك1 2009)، وذلك بعد ترجمتهما للزوميّات إلى الفرنسيّة. وقد جزما أنّ فكر الحداثة بدأ في المشرق حيث يمكن إثبات أنّ فكر المعرّي يتضمّن رؤية عقلانيّة نقديّة، وتصوّراً للارتقاء الديني، ونظريّة للذات أسّست في رأيهما لفكر كانط النّقدي، والتقوى المأساويّة لباسكال، والوجوديّة اليائسة لكيركيغارد.
هذه الشخصيّة الاستثنائيّة في تاريخ أمّتنا وتواريخ الإنسانيّة جمعاء تدفعنا إلى أن نسأل: هل كان المعرّي مدرسة؟ هل كان انعطافة حضاريّة أو نقطة تحوّل في مجرى الفكر الإنساني؟ هل هو فيلسوف، أم أديب تزيَّا بالفلسفة؟ هل هو ظاهرة ثقافيّة عامّة ولو على تفوُّق، أم أنّه حالة بركانيّة ما زالت متأجِّجة؟ قطعاً، ليس سهلاً تسديدُ هذا الكمّ من الأسئلة الفلسفيّة والنّقديّة. فالفلسفة خوضٌ في الأسئلة الكبرى لأنّها بنْتُ العقل الخالص. أمّا الشِّعر فمزيجٌ من الفكر والشعور والرّؤيا. قد تتشابه الفلسفة بالشِّعر في صعوبة التحديد، إذْ ليس من إجماع على تعريفهما، فمن أرسطو إلى جورج خضر، نحن في الفلسفة والأدب مع الدهشة... والدهشة نزهة مع العقل والقلب معاً. وإذا كان البحث عن الماهيّة لازمة من لوازم التفكير الفلسفي، فإنّ البحث عن اللّهب الخلاّق هو شرط الأصالة في العمل الشِّعري.
لقد غنَّى ڤكتور هوغو الابتهاج بالحزن، وتاقَ أنسي الحاج إلى الفرح بالغياب، أمّا المعرّي فلم يجد له خلاصاً إلاّ بالموت، ولا توحّداً سوى في جسد الرّحيل:
أنا صائـمٌ طول الحيـاة وإنَّمــا فِطري الحِمـام ويوم ذاك أُعيّـدُ
أو: إذا حان يومي فلأُوَسَّدْ بموضعٍ من الأرضِ لم يحفر به أحدٌ قبرا
فهل أقحم أبو العلاء نفسه في سجنٍ فلسفي؟ أو في سجونٍ ثلاثة طابَ له التّنفيس عن بَرَمِه منها. ألم يلمس المعرّي الضّرير أنّه راءٍ فقد البصرَ لا البصيرة؟ وهل يرتاب في أنّ ظلاميّي اليوم أوفر عدداً وأخطر شأناً من ظلاميّي عصره الذين رموه بالزندقة والإلحاد والمروق؟ بل هل يفقه نازعو تمثاله الإرهابيون في إدلب أن أحداً لا يستطيع اقتلاع جذور الأجنحة من الفضاء كما قال الشّاعر الكبير أدونيس في مقال له نشرته صحيفة «الحياة» في 19/11/2015 بعنوان: ماذا يفعل الآن رأسُ المعرّي على مسرح القتل والاغتيال؟ وطبيعيّ أنّ السّؤال الأدونيسي يختزن بنفسه الجواب الأبلغ.
لنعترفْ، في هذه المراجعة النّقديّة لكتاب طازج عن عقل المعرّي وموقفه من الدّين وفريسيّيه، أنّ أبا العلاء ملتبسُ الموقف أحياناً بل مستدعٍ معظمَ الأخصام والأعداء. لكنّ الرَّجلَ كتبَ، ربّما، للنُّخب لا للجمهور، ولم يكن جهويّاً أو فئويّاً. لم يكن متعالياً ولا تجريديّاً. والحقّ أنّه قبل تصنيفات المعرّي في كُتب التّراث وبعدها، قبل كُتب المحدّثين وبعدهم، سيبقى ذلك «البحرُ الذي لا ساحل له في اللّغة» كما وصفه السّمعاني، ذا نتاجٍ ثرّ لم تُقَل فيه الكلمة الأخيرة بعد. وهذا القول ليس انتقاصاً من شأن المعرّي بقدر ما هو اعتراف بحركيّة تراثه الفاعلة حتى اليوم، وبخوضه غمار اللّعبة الفلسفيّة التي هي مساءلة للأجوبة قبل أن تكون جواباً على أسئلة. لذلك سأل هايدغر في تأمّلاته عن مصدر العمل الفنّي: كيف يولد النصّ أو الفنّ؟ هل هو الوليد أم الوالد؟ ومن يخلق الإبداع؟ من يؤسّس الفكرة ومن يترجمها كائناً يخفق بالحياة؟
وحريٌّ بنا، في وقفتنا النقديّة إزاء كتاب عُنيَ كاتبُهُ بالفلسفة، أن نتطارحَ بعض المقارنات. فلو تناولنا ديوان «سَقْط الزّند» لتبيَّن لنا أنّه أرفع من «لزوم ما لا يلزم». ومتى فهمنا «رسالة الغفران» أدركنا تفوّقها على كتاب «الفصول والغايات». أمّا كتب المعرّي الأخرى المفقودة فلم يُتَحْ لنا الاطّلاع عليها لنكوّن منها موقفاً فكريّاً يجعل نظرتنا إلى بصير معرّة النّعمان أكثر شموليّة وعدالة. أمّا مؤلّف الكتاب عنه الدكتور إميل تنّوري فنلمح في موقفه من رجال الدّين بعض قسوةٍ وبعض تعميم. صحيحٌ أنّه يميّز ما بين الدّين النقيّ من جهة، والمؤسّسة الدينيّة المشوبة بمصالح الدنيا الفانية من جهةٍ أخرى. وصحيح أنّ القيم غير مقصورة على الدين وغير محصورة فيه، إلاّ أنّ الدين بطبيعته يعزّز قيم الفضيلة والتّسامح والتّراحم والتوادّ... والمعرّي عينه يقول:
ألدّين إنصافُك الأقوامَ كلَّهمُ وأيُّ دينٍ لآبي الحقّ إنْ وَجَبا؟
فالعقل إذاً عدوّ الجهل لا عدوّ الدّين. والحبُّ عدوّ الحقد لا عدوّ الحقّ. فهلِ الحبّ مثلاً أدنى من العقل في الإدراك؟ ولماذا لا يكون حبُّنا للهِ وسيلةً لمعرفته ما دامَ هو مرجعيّة العقل والضّمير؟ وما دُمنا نحن نصنّف أنفسَنا بين العقلانيّين، فلماذا نتجاهل اعتقادَ اللاّهوتيّين بعدم الفصل بين العقل والقلب؟ القلب عندهم ليس ارتعاشات بل رؤية. والله هو المعطى الأوّل الذي لا يحتاج إلى تأييد عقلي. أليس اللهُ أسطع من البرهان؟ ألا يحتاج العقل إلى تصحيح الحبّ له؟ أليس لافتاً قولُ الإنجيل إنّ الله هو الكلمة؟ وطلبُ القرآن اعترافاً لا إثباتاً في الآية الكريمة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، أليس بدوره لافتاً أيضاً؟ بلى، وقد استجاب شيخُ الصّوفيّين الأكبر ابن عربيّ لنداء الكمال العلويّ من أجل الخروج من حالة النّقص السّفلى، للتوجّه نحو النّور المبثوث من قبل الذّات الإلهيّة، ضمن الكون في جملته الجامعة، على ما يقول في كتاب «المعرفة» القيِّم.
خاتمة:
كنتُ في السّابعة عشرة من عمري يوم نشرتْ لي صحيفة «الجريدة» المقالةَ الأولى، وكانت عن المعرّي، لشدّة إعجابي بزوبعة الدّهور كما دعاه مارون عبّود، ولمتابعتي مآثر ذلك المجهول، كما دعاه العلاّمة عبدالله العلايلي. غير أنّني اليوم لم ألتفت إلى تلك المقالة، كما تحاشيتُ الاستشهاد بقصائد أبي العلاء الشّائعة، حتى لا نكرّر أنفسنا كالببغاء. فلم أعرض لكم قصيدة «غير مجدٍ»، ولا قطعة «ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل»، ولا «أفيقوا أفيقوا يا غواة»، ولا شعرَه الرّافض لأكل اللّحوم، وإنتاجِ ِالحيوان، والتناسلِ التقليدي. لقد آثرتُ الإضاءة على رأيه في ما يُسمّى اليقينيّات، وعلى الشِّعر غير المستهلك في مفهومه للدِّين والخلق والعالم والشّباب والمصير. من ذلك أبياته التالية:
أما الحقيقة فهي أنّي ذاهبٌ والله يَعْلم بالذي أنا لاقِ
أمّا اليقين فلا يقينَ وإنّما أقصى اجتهاديَ أن أظنّ وأحدسا
إنّ الشبيبة نارٌ إن أردتَ بها أمراً فبادره، إنّ الدهر مطفئها
العقل يُخبر أنّني في لجةٍ من باطلٍ وكذاك هذا العالمُ
ثلاثة أيّامٍ هي الدّهر كلُّه وما هي غير الأمسِ واليوم والغدِ
نعم، إنّ في أسفارِ المعرّي انسكاباتِ بهاء. فأبو العلاء علامة استفهام استثنائيّة تفتح في الجدران نوافذ اليقظة، وتمتحن البصيرة بالأسئلة الشّجاعة، التي تحفّز الكائن الآدمي على تخطّي الحواس والنّزوات فيرتقي بعقله وإنسانيّته من البهيميّة إلى الكينونة الأسمى. وحتى يطمئنّ صديقُنا وزميلُنا إميل تنّوري إلى واقع معرفتنا بترفّعه عن الطّائفيّة وباعتناقه العنيد للعقلانيّة، نؤكّد له أنّنا، بمعيّة أبي العلاء، ننتمي إلى العقل لا إلى الخرافات. إذْ ذاك فقط نستقدح، والمعرّي، شراراتٍ معرفيّة تؤسِّس لمرحلة جديدة من مسيرة هذه الأمّة المأزومة التي تكاد ترضى القبر لها مكاناً تحت الشّمس.
___________________