فيدرالية طوائف أو مجتمعٌ وطنيٌّ واحد؟ هذه هي المقولة المركزية في سجالات الفكر السياسيّ اللبنانيّ السائد اليوم، وهي تقوم على قاعدة أنّ لبنان هو ائتلاف بين مجموعة طوائف متفاهمة على بقائه واستمراره على قاعدة «العيش المشترك» والتوافق. لكن صعوبة تفاهمها أو استحالتها أحياناً هو سبب بلائه، وتالياً، المبرّر الضمنيّ للمطالبات بالفيدرالية أو الحكم الذاتيّ أو كلّ أشكال التقسيم العلنيّ أو الضمنيّ الخجول.
ورغم توافق الطوائف في «الطائف» لإنهاء الحرب وإقامة السلم الأهليّ، إلا أنها تضمنت خيبة أمل منه، وذلك لأن «الطائف» - كما يدّعي البعض - سلّب بعض الطوائف ضماناتها التي تعتبرها «امتيازاتها». إنّ منطلق البحث الآن هو عجز أي عقد اجتماعيّ طائفيّ أو ميثاق طائفيّ أن يكون حلاً بدل العقد الاجتماعيّ الفردانيّ المنشود كما طرحه جان جاك روسو. الصيغ الطائفية أدت إلى سلم طبقي بين الطوائف نفسها، مما فاقم من أزماته:
يتربع في قمة الهرم ثلاث طوائف محظية تتوزع بينها الرئاسات الثلاث الأساسية (موارنة = رئاسة الجمهورية، شيعة = رئاسة المجلس، سُنّة = رئاسة الحكومة)، كما تحتكر هذه المذاهب الوزارات السيادية والوظائف الأساسية. تأتي في الطبقة الوسطى مذاهب المرتبة الثانية (روم أورثوذكس، روم كاثوليك، ودروز)، يتحاصصون بقية الوزارات والوظائف. وما تبقى من فتات تتوزعه المذاهب الباقية التي تُشكل طبقة ثالثة محرومة ومقصية عن المغانم الأساسية. وهكذا تغدو التوافقية محاصصة على قاعدة اختصرت بمعادلة 6 بـ 6 مكرر.
نظام المحاصصة هذا لازم نشأة الكيان اللبناني منذ قرن، وهو أساس مفهوم الديموقراطية التوافقية التي ترتهن عواملها الهشّة للإرادات والمنافع الطائفية التي تستحوذ على أبحاث وتبريرات أوساطٍ معيّنة، تفرّع عنها معاناة «الإحباط» لعدم تمثّل هذا الفريق وفق طموحاته، أو لخسارته بحسب تصوّره، أو تنازله عن «حقوق» في نظره «وامتيازات» في نظر الآخرين. كلّ ذلك يُشكل - إضافة إلى سوء أداءٍ في الحكم - مرتعاً ملائماً لنمو هذه الأفكار في الاتجاه السلبيّ، ذلك أن المذهبية والطائفية تمادت في ظلّ «الطائف»، بل في ظل التطبيق السيّء له، وأصبح خطرها أشدّ مما كانت عليه قبل الحرب الأهلية. والحديث الطائفي من ضمن هذا المنطلق وما أفرزه من خلل، ينطوي على حنين للعودة إلى ما قبل «الطائف».
لقد وزّعت وثيقة «الطائف» السلطات المأخوذة من رئيس الجمهورية على المجلس النيابيّ والمجلس الوزاريّ، فحصل «تفتّتٌ في السلطة الإجرائية الموزّعة على ترويكا الدولة، وهذا أمرٌ معطِّل للحكم والاستقرار... إن الدولة بحاجةٍ إلى رأسٍ واحدٍ يمكنه أن يفعل في القرار والحكم» (د. إيلي حريق). كما أن الترويكا هي نتيجة الفيتويات الواقعية التي تستعملها المذاهب المحظية نتيجة تفسير خاطئ للميثاقية التي اعتبرت أن تمثيلها هو للأقوى فيها. إن الكلام عن توزّع السلطة بالدعوة إلى مركزتها مقصودٌ منه استعادة ما فقد في «الطائف» الطوائفي.
إن الظاهرة الجديرة بالدراسة هي أن أركان الحكم على اختلاف مواقعهم، أظهروا طوال فترة ما بعد «الطائف» أن ثمّة خللاً في الطائف لجهة صلاحية كلٍّ منهم، والحقيقة أن الخلل هو في اعتماد الأساس الطائفيّ للدستور، سواء السابق أو الحاليّ. فما دامت الطائفية هي أساس القياس سيبدو تمركز السلطات طغياناً لطائفةٍ على أخرى، وبالمقابل يبدو توزيع السلطات تحقيقاً للتوازن الطائفيّ الذي هو في الوقت نفسه مصدر الخلل في ممارسة السلطة.
إنّ الخلل ليس في «الطائف» حصراً، بل بالطائفية التي لازمت النظام منذ قيام الجمهورية، ثم ميثاق 43، وأخيراً «الطائف»، والقياس في جميع الأحوال ينطلق من معيارٍ طائفيّ. فحين تمّ جمع السلطة في الرئيس، كان ذلك يعني جمعها في ممثل طائفةٍ معينة، ثم حين تم توزيعها من خلاله كان ذلك خللاً يشكو منه مَنْ يدعو إلى حدوث توازنٍ طائفيّ.
إن مركزية السلطة لمصلحة الدولة وأدائها تقتضي الخروج من الخلل الأساسيّ، أي من النظام الطائفيّ لتفعيل السلطة على مقاس الشعب الواحد، لا على مقاس المجموعات الطائفية المتنازعة على السلطة والصلاحيات، إذ إن مَنْ يتنازع على السلطة وعلى الصلاحيات هم حصراً ممثلو الطوائف أو مُدّعو تمثيلها، وهم أيضاً تحديداً أوليغارشية مذهبية لها منافع طبقية عائلية إقطاعية تتنافس وتتناقض مع فئة تُشبهها من داخل مذهبها وفي المذاهب الأخرى. لذلك، المطلوب إلغاء الطائفية لتقوم سلطاتٌ مدنية حقيقية على مقاس مصلحة الشعب الواحد لا على مقاس الطوائف وممثليها.
إن «الطائف» لم يوجد علاجاً سحرياً لحالة مرَضيةٍ مزمنة، إنه مسكّنٌ أوقف النزيف، ولكنه لم يشفِ من المرض المزمن والتورّم المتفاقم. وما الأزمات المتكررة إلا دليل استمرار العلّة التي لا تزول إلا بتطبيق هدف «الطائف»، وهو إلغاء الطائفية والانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية أساسها المواطنة لا الانتماء الطائفي. «الطائف» صيغة انتقالية، وكل إطالة في أمدها ستكون مبرّراً لبعث العصبيات المذهبية والطائفية، وكلّ تقصير لأجَلها بالتقدم إلى الإمام نحو الدولة العصرية المدنية أمرٌ مطلوبٌ ومُلِح. لبنان الديموقراطيّ الذي نتمسّك به ونتغنى به، هو عملياً وبحسب ما هو قائم، تجمّعٌ من القبائل الطائفية تُحاول أن تُلائم بين «الديموقراطية والقبلية الطائفية» على نحوٍ عجيب.
في ظلّ هذا التفكير نتساءل رغم تبنّي الحداثة والعصرنة، لماذا قامت هوّة التخلف والفقر بين امتيازاتٍ تراكمت وظلاماتٍ تجمّعت لتؤدّي إلى الانفجار؟
إن مواقف بعض المسيحيين والمسلمين المتناقضة عشية الاستقلال عام 1943، وعشية «اتفاق الطائف»، هي تعبيرٌ عن تنقّل الحالة إيّاها من طائفةٍ إلى طائفة، وموقفها من الكيان بحسب موقعها في السلطة وترتيبها في النظام الطائفيّ. لقد أُعجب البعض بميثاق 1943 لأن ما أتى بعده لم يخرج عن دائرته الطائفية إلا في توزيعٍ جديدٍ للحصص. لكنّ كلّ كيانٍ ينشأ على أساس تعاقدٍ طائفيّ هو كيانٌ أبعد ما يكون عن النشأة الطبيعية الناتجة من وحدة حياة معاصرة أقوى من كلّ الإرادات الجزئية المكّونة لها. وهذا هو الفارق بين وحدة الحياة الطبيعية التي لا يُجادل فيها، مهما تقلّبت الأحوال، و«العيش المشترك»، ونُشدّد على «المشترك» لأنه مفهومٌ يشترط التِقاء عدة إرادات، لولا «تشاركها» لما قام هذا العيش، فهو رهن مشيئتها المتعددة أكثر مما هو رهنُ دورة حياةٍ صاهرة تعلو على جميع الإرادات.
إن حياة المتّحد الطبيعيّ لا تخضع لإرادة وأهواء الناس المنخرطين فيه، بل لدورة الحياة التي تكونه. أمّا الكيان السياسيّ الذي نشأ بتعاقدٍ ضمنيّ أو علنيّ للقوى التي تمثله والموازين التي تصنعه وتقرر وجهته، لذا يخضع لمثل هذا الوضع المرجرج المأزوم باستمرار والمطروح دوماً على إعادة البحث.
ما نشهده في لبنان هو علاقة جدلية وتواطؤ بين سلطة تستغل العصبيات المذهبية حتى تحمي نظامها، وطوائف تُسخر السلطة حتى تُحافظ على حصصها ودورها. وفي كل الحالات الوطن والمواطن يخسران المستقبل، وبداية الإنقاذ تكون ببناء نظام جديد يغير العلاقة الزبائنية بين السلطة ومذاهبها.