جندي يموت من جرعة هلع زائدة، وصبيّة تطارد الموت. جندي تصطكّ أسنانه في دبابته المدرعة وعينه على منظار مدفع، وفتاة، تحت مقعد سيارتها مواد شديدة الانفجار، وفي يدها صاعق تفجير. هذه معادلة رعب، تكفي وحدها ليعرف العالم أن الحرب هنا لن تنتهي، إلى أن تعود الأرض
لم تكن العمالة بعد «وجهة نظر»، حين قررت سناء محيدلي أن تفجّر نفسها بحاجز لجيش الاحتلال الإسرائيلي وميليشيا «الخائن أنطوان لحد» على معبر باتر _ جزين في 9 نيسان 1985. قالت سناء ابنة الثامنة عشرة من عمرها في شهادتها المسجلة، إنّ «جنود العدو يتلفتون يميناً وشمالاً هرباً من الموت، وهم ليسوا مثلنا». وفي مقطعٍ من شهادتها المكتوبة، تطلب سناء من أمّها ألا تحزن لأنها اتخذت قراراً كهذا، «فأنا فضّلت الموت على أن يغدر بي انفجارٌ أو قذيفة أو يد عميل، هكذا أفضل وأشرف».
ويقول هيثم (اسم مستعار)، أحد ضباط جبهة المقاومة، الذين شاركوا في إعداد العمليّة، إن سناء كانت تعيش حياتها بشكل طبيعي قبل أيام من العملية. تستيقظ باكراً، وتنطلق إلى التدريب، ولم تكن تحسن قيادة السيارات، فصمّمت على التعلم في خمسة أيام. «سناء كانت مثلنا، لكن لديها الجرأة على أن تنتصر على أكبر المخاوف الإنسانية، كرمى لقضيّة».
يرى الضابط أن قيمة العمليات الاستشهاديّة لم تكن في كمّ الجنود الذين يقتلون أو الآليات التي تدمّر. فالفعل بحدّ ذاته هو الأساس. «في الحرب، كلّ سلاح له سلاح مضاد، يتطوّر بوتيرة تطور السلاح الأصلي. الدبابة تدمرها قذيفة، والطائرة صاروخ، والصاروخ منظومة دفاع، وحدها المعنويات يدمّرها مقاتل يقبل على الموت كما يقبل على السعادة». العمليات الاستشهادية، بحسب هيثم، كانت حرباً نفسية أكثر بكثير مما كانت حرباً عسكرية.
قد تجد في حلب قاعة في المكتبة الوطنية باسم سناء محيدلي، وشارعاً في طرابلس الغرب باسم عروس الجنوب، وحديقة عامة في تعز اليمنية باسمها. لكن، لا ساحة في بيروت لسناء محيدلي ابنة عنقون الجنوبية، ولا طابعاً بريدياً يحمل اسمها، ولا مستشفى حكومياً أو مجمّعاً جامعياً. لكنك تجد شارعاً باسم المفوض السامي الفرنسي «المحتل» الجنرال غورو، أو باسم الرئيس المصري أنور السادات الذي وقّع أول وثيقة استسلام عربية في كامب ديفيد.
لا همّ، فقيمة سناء الأصلية في ثلاثة مكامن. أوّلها، حجم الرعب الذي أدخلته وجيلها في قلوب جنود الجيش الاسرائيلي، وهو الذي قرّر اجتياح لبنان عام 1982 «بفرقة موسيقية». ثانيها، إدخال سلاح العمليات الاستشهادية بزخم كبير في منظومة المقاومة والدفاع بوجه القدرة العسكرية الإسرائيلية. وما الارتباك الذي أصاب وقتئذٍ وزير الدفاع الاسرائيلي إسحاق رابين في ردّه على سؤال صحافي إسرائيلي عن كيفية مواجهة هذا النوع من العمليات، وجوابه «بأننا لا نستطيع فعل شيء غير إجراءات أمنية محدّدة. أنُهدّد من جاء ليموت بالموت؟»، سوى دليل على الحيرة التي سبّبها هذا السلاح الفتاك في مواجهة الجيش الاسرائيلي. ثالث المكامن، البصمة التي تركتها سناء وأترابها في جيل كبير لحقها. اسمها أطلق على عددٍ كبيرٍ من مولودات الثمانينيات، في عائلات تحمل أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو أحزاب أخرى، كانت تنضوي تحت عنوان جبهة المقاومة. وهذا الجيل، بعد أكثر من ربع قرن، تسكن سناء حيّزاً كبيراً من ذاكرته، ما يدفعه إلى الزجّ بتجربتها في كلّ مثال للقوّة والشجاعة، ويحمله على تعليق صورها وتناقل كلماتها، والبحث في اللاوعي عن حنين لهذه التجربة، مع انكفاء أحزاب الجبهة عن خوض عمل مقاومة حقيقي.
وسناء لم تكن وحدها في هذه الفترة الذهبية الملتهبة من مواجهة القومي وجبهة المقاومة الوطنية المباشرة للجيش الاسرائيلي. وما أكسبها شهرتها هو طليعية عمليتها، لكونها فتاة، والمدى الذي احتلته في وسائل الإعلام الاجنبية قبل العربية أو المحلية. إلاّ أن لسناء رفقاء كثراً، «مغمورين» بشكل أو بآخر، ولا تعرف عنهم سوى قلّة من الناس، ولا تقلّ بطولاتهم عن سناء بشيء.
افتتح الشهيد وجدي الصايغ (ابن بلدة شارون في قضاء عاليه، نفذ عمليته في 13 آذار 1985 على معبر كفرحونة) عصر العمليات الاستشهادية في جمّول. تبعته سناء بعد أقل من شهر، وتبعها بعد عشرة أيام مالك وهبي «نسر البقاع» (ابن بلدة النبي عثمان البقاعية، فجّر نفسه برتل من الدبابات على مدخل جسر القاسمية الشرقي).
ومن حلب، جاء الفتى خالد الأزرق، وفجر نفسه صباح 9 تموز 1985 على الطريق الرئيسية بين مرج الزهور وحاصبيا بحاجزٍ مشترك للاستخبارات الاسرائيلية وجهاز الـ504 في جيش لحد. وفي اليوم نفسه، فجرت ابتسام حرب (من غريفة _ الشوف) سيارتها على جسر البياضة في حاجز مشترك مماثل. وعبّرت ابتسام في شهادتها المسجّلة عن مدى سعادتها بردّها على اتفاق 17 أيار.
لم تنته السلسلة، استشهد أيضاً علي غازي طالب ابن تكريت العكارية، ومريم خير الدين من بعلبك، وعمّار الأعسر من بانياس، ونورما أبي حسان من القبة في طرابلس، ومحمد قناعة من حلب في عملية مشتركة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وزهر أبو عساف من السويداء، وآخرهم الاستشهادية فدوى غانم ابنة بلدة الحيصة العكارية التي فجرت نفسها في 25/11/1990 بدورية إسرائيلية على طريق أرنون _ الشقيف.
بعد ربع قرنٍ على هذا «الزمن الجميل»، لا بدّ من الاعتراف بأن جبهة المقاومة الوطنية تستطيع وحدها وصل حلب بطرابلس، والسويداء ببعلبك وغريفة ببانياس. ليس انتقاصاً مما حققته المقاومة الاسلامية في ما بعد من إنجازات، بل دعوة من جيل انقطع عن الأحزاب الوطنية، لإعادة الوصل مع آلاف الشباب الذين يسكنهم هاجس المقاومة المسلحة. ومهما كانت المبرّرات والحجج، فهي واهية، لأن العودة إلى المقاومة هي الطريق الوحيد للعودة إلى الحياة.