لبنان في حالة انهيار شامل في كل مؤسساته ومرافقه نتيجة سياسات الحكام الفاسدين الخاطئة وجشعهم وأنانيتهم ونهبهم المنظّم. ظروف الناس المعيشية صعبة وقاسية والدولة عاجزة عن القيام= بوظائفها وعن توفير الأمن والاستقرار والخدمات العامة للمواطنين. الأكثرية الساحقة من اللبنانيين يعيشون في الذل والقهر والحرمان والشقاء ويعانون من الفقر والجوع والموت على أبواب المستشفيات. أموال الناس نُهبت والعملة انهارت والدولة الفاشلة أفلست والدين العام تفاقم والمرفأ دُمِّرَ بفعل إنفجار هائل نتج عنه كارثة إنسانية - وطنية كبيرة، ومؤلمة.
وبعد ما حلّ في هذا البلد من خسائر ودمار ومآسِ وأحزان ومن أزمات متعدّدة ومتفاقمة، نتساءل: ألم ينضج الوقت بعد لإجراء إصلاحات جذرية في بنيان هذه الدولة الفاشلة وفي نظامها الفاسد القائم على الطائفية البغيضة؟
ألم يتعظ هذا الشعب المسكين من فساد الطبقة الحاكمة ومن سلوكها الخسيس وأدائها المقيت؟ ألا يرى الشعب أن السياسيين الذين تربعوا على عرش السلطة لسنوات طويلة قد تشاطروا وتفنّنوا بفسادهم وصفقاتهم واستغلالهم لمواقع السلطة وقد تمادوا بألاعيبهم وتكاذبهم وسرقاتهم وهدرهم للمال العام ولأموال المودعين؟ وها نحن اليوم نرى أن معظمهم يحاول الحفاظ على امتيازاتهم ومناصبهم ونفوذهم من خلال التوريث السياسي والمجيء بأبنائهم عبر الانتخابات ليكملوا مسيرتهم المليئة بالوعود والنفاق والشعارات الكاذبة وبالصفقات والنهب والسطو "المقونن" والثراء غير المشروع.
هذه المنظومة السياسية الفاقدة الحس الوطني والأخلاقي والإنساني لا تكترث إلا لمصالحها ومنافعها. أليست هي من حوّل البلد إلى محميات طائفية وإلى احتكارات وسوق سوداء للمافيات على أنواعها؟ أليست هي من فصّلَ قانون الانتخاب الطائفي الحالي لضمان استمرار وجودها في السلطة؟ أليست هي من يعرقل ويعاند في تحقيق الإصلاح الفعلي؟
المطلوب من جميع المسؤولين الغيورين على لبنان وشعب لبنان الإسراع في عمليات الإصلاح الجذري الضروري الذي لطالما تحدثوا عنه ووعدوا الشعب به في أحاديثهم وتصاريحهم وبياناتهم ومؤتمراتهم وحملاتهم الإنتخابية ولكن كل وعودهم بقيت كلاماً فارغاً لا فائدة منه لأن أولوياتهم كانت دائماً تُختصر بكيفية نهب أموال الدولة وتحقيق المكاسب الخصوصية والإمتيازات المذهبية على حساب مصالح الشعب وحقوقه.
لقد دأب المسؤولون في لبنان على طلب المساعدات المالية من الخارج بغية إتمام المشاريع الإنمائية-العمرانية-الإصلاحية وكانوا في كل مرة يحصلون على المساعدات يوافقون على تنفيذ شروط الدول المانحة بإجراء الإصلاحات السياسية-الإقتصادية-الإدارية وبإعتماد القانون والمحاسبة والشفافية والإنتاجية ولكن في الواقع لم يحققوا لا مشاريع ولا إصلاحات، بل كانوا يهدرون الأموال ويتقاسمون الحصص والمكاسب في حين أن الشعب المقهور مغمور بالمتاعب والمعاناة من الفقر والبؤس والبطالة والذل وغياب الخدمات والرعاية والإنماء نتيجة تراكم الأزمات وتفاقمها في دويلة - المزرعة الطوائفية التي رسمها لنا الإستعمار الفرنسي، وأعلنها الجنرال غورو منذ مئة عام، إلى أن وصلنا إلى مرحلة الإفلاس والإنهيار الشامل في هذه الدويلة وعدم الثقة بكل الطبقة السياسية الفاسدة، الجشعة، والمتحكّمة بمقدرات البلاد والعابثة بمصالح الناس.
الدولة المدنية الحديثة التي حلمَ بها اللبنانيون لعقود مضت.. هذه الدولة المنشودة لم تبن حتى اليوم وما زالت حلماً بعيداً يتغنى به الجميع على امل الإنجاز في المستقبل..
ما هي المعوِّقات أمام بناء الدولة العصرية؟ وكيف تبنى هذه الدولة التي من أهم واجباتها الإهتمام بمصالح الشعب وبتأمين رفاهيته وسعادته في الحياة؟
برأينا هناك أسباب عديدة في عدم بناء الدولة الحديثة حتى اليوم. وللإختصار سنكتفي بإيجاز أربعة أسباب نرى أنها أساسية ومهمة:
السبب الرئيسي الأول يرتبط بهذا النظام السياسي الطائفي الجامد ومن يتربع عليه من طبقة حاكمة فاسدة ومستبدّة تتكون من زعماء تقليديين وطائفيين وإقطاعيين نفعيين متسلطين على الشعب يقهرونه ويستبيحون كرامته ويهضمون حقوقه وينهبون خيراته.. هذه النظام الفاسد بامتياز يمنع الخرق الفعلي لبنيته من قبل الأحزاب العقائدية العلمانية ويقاوم أية محاولة إصلاح أو تغيير، والطبقة السياسية الحاكمة فيه والمرتهنة للإرادات الأجنبية تسعى دائماً للحفاظ على منافعها ومكاسبها وترسيخ نفوذها وضمان استمرارها في مراكزها من خلال أساليب الفساد والوراثة والتكاذب والتزوير والاحتيال والقهر والإستبداد وتصويرها للشعب ان الظروف غير مؤاتية لإجراء إصلاحات وان الإصلاح سيقود إلى أزمات لا تُعرَفْ نتائجها.
السبب الثاني نراه بغياب المؤسسات القومية الصالحة لتجديد حياة الأمة ولإيقاظ الوجدان القومي من نومه فالمؤسسات الإجتماعية والتشكيلات السياسية القائمة في المجتمع هي مؤسسات الاقطاع السياسي والعشائر والعائلات والمذاهب الدينية وهي بمعظمها مؤسسات خصوصية تقليدية إنتفاعية تدّعي الوطنية والتقدمية ولكنها تعمل لمنافعها وغاياتها الخصوصية وتتضارب فيما بينها لتنتج سياسة العائلات والمذاهب وثقافة الحقد والفتنة والتعصب والإنقسامات الطائفية والتصادم الإجتماعي والأنانية العمياء. هذه المؤسسات اللاقومية المتنافرة والمتضاربة المصالح والأهداف، والقائمة على التبعية للخارج، لا تصلح لحاجات الأمة ولإيقاظ الحس الإجتماعي بين ابنائها ولا تأتي بالتربية القومية المولِّدة للتعاون الإجتماعي ولثقة الشعب بنفسه التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة والتي تدفعه إلى حل قضاياه بنفسه وإلى تحسين حياته والسير إلى ما فيه صلاحه وفلاحه..
وثالثُ الأسباب يكمن في اهتمامنا كثيراً كأفراد بنجاحنا الفردي وحياتنا الفردية وحاجاتها دون الإكتراث للمصلحة العامة ولقضية المجتمع وأغراضه وللنجاح القومي العام الذي يشكِّلُ ضمانة للنجاح الفردي وينعكس على الأفراد خيراً وعزاً وسعادة.
ورابعُ الأسباب الرئيسية يكمن في إهمالنا للإنتاج العلمي والمعرفي والفكري وعدم السير في مسارات التجديد والإبداع والإعتماد على التفكير العملي الحقيقي الذي يتناول المجموع ويدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه والذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في شؤون حياتنا القومية..
في مطلع الثلاثينيات كتب أنطون سعاده داعياً أبناء شعبه للمباشرة في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي ومطالباً بوجوب اعتمادنا على التفكير العملي لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتحقيق مطالب عليا، فقال: "لقد تعلمنا فيما مضى ان نهتم كثيراً بحياتنا الفردية وان نحافظ كثيراً على جلودِنا. كانت نتيجة ذلك اننا أهملنا حياتنا العامة حتى دبَّ فيها الفساد وملأها غِلاً وغشاً وحقداً وبغضاً وحسداً ونميمةً ورياءً وأصبح محيطنا كله يعج بالفساد ويضج."[1]
بعد كل الكوارث التي حلّت بلبنان وبعد إفلاس الدولة والإنهيار الاقتصادي الحاصل، هل اقتنعت الطبقة الحاكمة بضرورة الإصلاح؟
إن الإصلاح هو مسؤولية وطنية وحاجة ملحة في كل شأن من شؤون حياتنا القومية ولا يمكن لأي عاقل أن يتنكر له. فكيف نخرج من الإنهيار الحاصل ومن واقعنا المأزوم بالمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية إن لم نبادر إلى القضاء على وباء الفساد ومحاسبة الفاسدين والسارقين والمرتكبين الجرائم الوطنية وإلى إجراء إصلاحات جذرية في هذا النظام تؤدي إلى اجتثاث الطائفية وإزالة عوامل التفرقة والتخلف والفوضى والإهمال وتهيئ الأسباب الكافية للنهوض الشامل ولبناء المجتمع المتمدن الراقي؟
وبدون الإصلاحِ كيف نواجه حالاتِ البؤس والحرمان والإستغلال والتمزق الإجتماعي وهجرة الشباب والتطرف المذهبي وأحقاده؟
وبدون الإصلاحِ الفعلي وبناءِ المجتمع المحصّن وقيامِ الدولة القوية، المرتكزة إلى عمقها ومحيطها القومي الطبيعي والمتعاونة بعلاقة طبيعية ومميزة مع الدولة الشامية، كيف نواجه ارهاب دولة العدو وأطماعها في ثرواتنا ومواردنا الطبيعية وفي ابتلاع وطننا وطمس هويتنا؟ وبدون جيش قوي ومقاومة باسلة، كيف نحرّر مزارع شبعا وباقي القرى المغتصبة ونتصدى لعدونا الإرهابي الذي لا يكّف عن إعتداءاته علينا وعن ممارسة غطرسته وتهديداته المستمرة؟.
إنَّ مصلحتنا الوطنية تحتم علينا ان نعيد النظر في الكثير من احوالنا الإجتماعية وان نبادرَ إلى إصلاح مجتمعنا وتحصّينه بالوعي القومي الصحيح الذي يؤسس لدولة المواطنة ولوحدة المجتمع وبعث فضائله النبيلة وتنمية روح التعاون بين أبنائه واستنهاض القوة الكامنة في نفوسهم.
مصلحة الجميع الأكيدة هي ان نتوّحد من أجل إنقاد البلد.. هي أن نتعاون جميعاً ونعمل بإرادة واحدة: هي إرادة الحياة، إرادة الخير والإصلاح والبناء.. فلنباشر معاً في ورشة الإصلاح الجذري ووضع مداميك الدولة الحديثة الضامنة لحرية الشعب وحقوقه والساهرة على رعاية مصالحه وتأمين بحبوحته وعيشه الكريم.. ففي ظلال الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها الجديدة الصالحة والمحرِّكة لطاقات الإنتاج والعاملة من أجل سلام المجتمع وضمان أمنه ورقيه تتبدل المعادلات ويتحوّل الشعب بكل أجياله إلى قوة فاعلة ترتقي بالحياة إلى أعلى ما تتوق إليه النفوس من منعة وخير وبحبوحة وأمان ويكون لها القول الفصل في كل القضايا التي تخص الأمة وجوداً ونهوضاً وتقدماً وإرتقاء.