"آه من أرضٍ لا تتّسعُ إلّا للآلهة وظلالها" (أدونيس)
ما دعاني إلى كتابة هذا المقال، هو حلول ذكرى مذبحة "قانا الجليل" (نيسان 1996) لارتباطها بالفكر اليهوهي، ومقال السيد علي القاسمي (جريدة "الأخبار"، 25 شباط 2022) الذي اختصر الفكر السومري - البابلي والفكر الفرعوني، ببضع كلمات تَجَنَّى فيها على التاريخ، وأثار غضب رفيقِنا أسامة عجاج المهتار، فردّ عليه بحقائق تاريخية (جريدة "الأخبار"، 16 آذار 2022)، والتاريخ مليءٌ بعشرات الآلاف، أو أكثر، من الصفحات عن كلٍّ من الحضارتَين الفرعونية والسراقية. وليس لي، في هذا المجال، غير الاستطراد في هذه الحقائق، ولن تتّسع هذه الصفحات لسردها، وما يعنيني، هو الفكرُ الذي أنتجها، وأنتج التاريخ. هذا ما أرغب بإيصاله إلى القارئ، لأنَّ ذلك الفكر الرؤيوي كان وراء التجربة الروحية بكاملها ووراء الإنتاج الحضاري، وما هو بعيدٌ عنه يتمثَّلُ في المعتقد السلفي بثلاثيّته، ووراءه، فكما قيل: "وراء الأكمة ما وراءها".
في مقدمة كتابه "مصطلح التاريخ"، وحصيلة ركونه في المكتبة الظاهرية في دمشق، لسَبْر ما خلَّفه علماء الحديث النبوي، قال أستاذي الراحل في التاريخ أسد رستم، إنَّ "التاريخ أولاً درايةٌ ثم رواية... التاريخ هو علمٌ... يعوزه ما يعوزُ سائر العلوم الأخرى من طبٍّ وهندسة وفقه وغيرها، وإنّه لا بدَّ لصاحبه من أن ينشأ نشأة علميةً خالصة، يتربّى فيها على الشروط الفنِّية، التي يقتضيها كلُّ علم...". وينسبُ الدكتور رستم الفضلَ إلى أبي حاتم الرازي في قوله: "إذا كتبتَ فقَمِّشْ، وإذا حدَّثتَ ففَتِّشْ" - والقمش هو جمع الإثباتات. (Evidence) ويستشهد أيضاً بالمؤرخ الإيطالي، جيوفني فيكو، إذ قال عام 1725م، إنّ "التاريخ فرعٌ من علم الاجتماع الإنساني."[1] لم تكن الحضارة يوماً حكراً على أمّة. فهي تنتقلُ من أمَّةٍ إلى أخرى، كما ينتقلُ الماء بين الأواني المستطرقة (التعبير للأب إيلي كسرواني). وقد بدأ الفكر الإنساني برحلات العقل ورؤياه التي سمَّاها جبران بـ"العينِ الثالثة"، وكما وصفها الحلّاج بقوله:
يا عينَ عين وجودي يا مدى هممي
يا منطقي وعباراتي وإيمائي
يا كُلَّ كُلِّي ويا سمعي ويا بَصَرِي
يا جملتي وتباعيضي وأجزائي
يا كُلَّ كلِّي وكلُّ الكلِّ مُلْتَبِسٌ
وكلُّ كلِّك ملبوسٌ بمعنائي[2]
ولم يكن الحلّاجُ صوفيّاً بمعناه المعتاد، وإنما كان، كغيره من النخبة الفكرية آنذاك، مؤمناً ذا رؤية ثورية جهادية عملاً بقولٍ أدونيس: "ملكٌ أنا ومملكتي خطواتي".
وكان الشعرُ الملحمي أوَّلَ هذه الرؤية. حَدَثَ ذلك في ملحمة "قلقامش" (القلقون)، وفي ملحمة الخلق البابلية "إينوما إيليش"، وفي التوراة الكنعانية "كِرِتْ"، وفي الملحمة الكنعانية الأخرى "بعل". ومن الشعرِ انتقلت الرؤية إلى الفلسفة، فكان لهؤلاء الشعراء والفلاسفة والمفكّرين "قلوب طالما هَطَلَت سحائب الوحي فيها أبحُرَ الحِكَمِ"[3]، وهكذا فالإغريق أصلُهُم من آسيا، جاؤوا إلى الجزر اليونانية؛ والفلاسفة، الأيونيون منهم، ثمَّ عادوا وأبحروا من اليونان وسكنوا آسيا الغربية. "كانوا أنجب اليونان، جاوروا الأمم الشرقية، فانتفعوا بعلومها، واصطنعوا وسائل مدنيّتها. الحضارة الإغريقية الأيونية رضعت من حضارة المشرق". (كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية. يوسف كرم).[4] روحانية المشرق لم تمت يوماً. لا، بل كانت عرفانية ولَدُنِّيِّة، وشملت المشرق كلَّهُ. وكانت زَخْماً في التدفّق الحضاري في الهلال الخصيب. ولكنّ الغرب وكتّابه حاولوا طمس تاريخ تلك الحضارة. وأبرزوا، بتحيُّزٍ، حضارتَيهم الغربيتين: "الإغريقية" و"الرومانية". ويعترفُ، باستهزاء، الصحافيان البريطانيان، فيليب ماتيزاك، وفيليب ووماك، في "السْبِكْتيتور"، في 6 حزيران 2020، كيف سُيِّدَت الحضارة الإغريقية - الرومانية على حساب الحضارات التي سبقتها لمدة طويلة، بينما كان حديثُ الناس السائد قديماً: "لِتَرسُ سفينتي بسلام على الجانب الكنعاني".[5] والفكر السلفيّ، بِثُلاثيَّتِهِ أيضاً، حاول إيهام الناس بأنّ ما حدث قديماً قد مات، والزمن بدأ بالثُّلاثِيَّةِ الإبراهيميَّة. يقولُ سعيد عقل: "لم تُبقِ الروحانية جديداً جاء به اليهودي، وإنما كتبهم، كتبهم الخمسة الأولى، المعروفة بالتوراة والمنسوبة إلى موسى بالذات، أِستُوْحِيَتْ من مؤلّفات لنا سبقت موسى بسبعةِ قرون. والشعرُ الذي يفخر العبرانُ بأنَّهُمْ كانوا أئمة نبراته وَوَهْجَه الأنيق، وتطلُّعَهِ إلى ما بعد الوجود... مأخوذٌ من شعرائنا، وفي جُماعِهِ، مستوحًى من نظرتنا إلى الحياة والكون."[6] وفي مقابلة لي مع منصور الرحباني، ربيع 1996، قالَ لي: "يدَّعون الحضارة وهم سارقوها... نشيدُ الأناشيد لشاعرٍ من صور. المزاميرُ تحملُ صفات الإله "إيل" الكنعاني..."[7] والحقيقة تظهرُ من باطن الأرض، فالنصوص التوراتية لم تعد مستنداً تاريخياً، وأسوار أريحا أدْخَلَتْ مرارةً في فمِ علمائهم الباحثين عن الآثار. يكتب أحدُ كتّابهم: "الأولياء تصرّفوا وكأنهم رجالٌ أسطوريون، فبعد سبعين سنة من البحث المشدّد، لم يصل البحَّاثة إلى شيء ما: فالعبرانُ لم يدخلوا مصر ليخرجوا منها، ولم يقهروا أرض كنعان كما تصوّروا، ورئيسا العشيرة داود وسليمان، لم تتحقّق أحلامهما."[8] وفي كتابهِ "مَنْ كَتَبَ التوراة؟" (Who Wrote the Bible?)، يورِدُ الكاتب اليهوديّ، إليوت فريدمان، أقوال مفكّرين درسوا قصص التوراة، جميعهم قالوا بأنّ الأسفار الخمسة لم يكتبها موسى. وجميعُهُم، وبشكلٍ من الأشكال، عوقبوا على ذلك بأضراس الثلاثية السلفية.
كان أفلاطون يؤمن بالعقل. والعقلُ عندَهُ فيه شيءٌ من الألوهية، هذا العقل الذي وَصَفَ صورةً ذهنية لـ"الله". هذه الصورة الذهنية اختلفت من شعبٍ إلى آخر، واسْتمرَّ الخلافُ على مدى آلاف السنين، وتجَسَّدَ في الصراع بين صورة الله في "إيل" وصورة الله في "يهوه". صورة الأول نشأت في الأرض ذات الطبيعة الخصبة، وسمَّوهُ إله الخصب، وهو الإله الذي يموتُ ليُبعث حيّاً، وهو اللهُ الذي تمثَّلت فيه أيضاً الصفات الحسنى. والصورة الثانية حصلت بين القبائل في النقب (النقبُ اسمٌ كنعاني يعني الأرض اليابسة، أي الصحراء ذات الطبيعة القاسية). ومن الذين عالجوا التجربة الروحية لإنسان الهلال الخصيب والمشرق، هما الدكتور حسني حداد والزميل الدكتور سليم مجاعص، في كتابهما "بعل هداد"، إذ قالا في المقدمة:
"إنَّ الآلهة السوريَّة القديمة لم تكن آلهة محلِّيَة فحسب بل آلهة كونية... إنّ المؤرّخينَ إجمالاً، بمن فيهم من كتبوا أطروحات علمية عن أوغاريت وأساطيرها، لم يلاحظوا هذا التواصل التاريخي بين البعل القديم واللاهوت الحديث... ويمكن القول إنّ الثابت العبادي الأكبر في الشرق الأدنى قديمه وحديثه، هو عبادة البعل هدَّاد بصفة الإله الذي يموتُ ثمَّ يُبعَثُ حيّاً".[9]
تقول نظرةٌ إغريقية بأنَّ الكونَ توازنٌ بين أضدادٍ: باردٌ وحارّ، جميلٌ وقبيح، لطيفٌ وفظّ، حربٌ وسلام، ليلٌ ونهار، نورٌ وظلام، خصبٌ وجدب، فضيلةٌ ورذيلة. فـ"الفضيلة علم، والرذيلة جهل" إلخ... وما يسودُ الكون هو سيطرة ضدٍّ على آخر. وهكذا، إن سادت الفظاظة كانت الحرب، وإن سادت اللطافة كان السلام، وإن طال النهارُ قَصُرَ الليل، والأملُ أن تكونَ الغلبة لعناصِرِ الخير على عناصرِ الشرِّ، ويكون هناك فكرُ العدالة بدلاً من فكر الظلمِ والاستبداد، ويكونُ هناك حضارةٌ بدلاً من انحطاط.
لم يكن الدينُ طقوساً ونصوصاً، فالأنبياء تحدَّثوا بالأمثالِ وبما وراء النصوص، وكان المتصوّف العرفاني "الحلّاج" يدعو إلى "الأخذ بضرورة التأويل والمعنى الباطني للتكليف زيادةً على المعنى الظاهر."[10] وكان الفيلسوف الأخلاقي "سقراط" يرى أنَّ الدينَ تكريمُ الضمير النقي للعدالة الإلهية، لا تقديم القرابين وتلاوة الصلوات. وما كانت الطقوسُ، في مجالس الشراب قديماً، إلّا المعنى العقلي المضمر لتغيُّرات الطبيعة وتتالي الفصولِ واحتفاءً به، فتُزرعُ البذرَةُ، لتنفجر بالحياة، وقيامة الأرضِ والطبيعةِ متَّشِحَةً بثوب عشتار الأخضر، وتعودُ أغاني الحصّادين في تموز بالأعراسِ في مواسم الحصاد. تجربة روحيّة فذَّة ارتبطت بالرؤية الفلسفية لحركة الطبيعة وتتالي الفصول فيها. وترعرعت الأجيالُ مع بعلٍ ابن "إيل": يُدفنُ في الحقولِ ليومِ القيامة، كما حبّة القمح تُطْمَرُ في التراب لتنفجر بالحياة. وما إحياء المسيحِ للطفلة، التي زعموا بأنَّها ماتت، أعجوبة، وإنما تعبيرٌ عن رفضٍ للموت، وإيمانٌ بالقيامة. فالروحُ لا تموتُ، والإيمان يجبُ أن يكون مدعوماً بالقوة، كما القوة الكونية التي خرجت من ثوب المسيح الذي لمسته المرأة النازفة فشُفيت.
فالتجربة الروحية واحدة. كان الأنباط يحتفلون في الخامس والعشرين من كانون الأول، يومَ ولادة الإله "دوسارس" الابن الوحيد من العذراء "كعبو" ومن الإله "دسبوتو". وكان هذا تعبيراً عن انتصار النور على الظلام، إذ في هذا اليوم يطول النهار على حساب الليل، وكانوا يسمّونه عيد الشمس، وكانت "البتراء"، عاصمة الأنباط، قِبلةً للمسلمين في أوائل الرسالة المحمّدية. وتبنّت المسيحية هذا اليوم للاحتفاء بمولد المسيح.[11]
ولم يكن موتُ الإلهِ إلّا موتاً للطبيعة خريفاً وشتاءً. ولم تكن القيامة إلّا قيامةً ربيعية للطبيعة. وكان رأس السنة الجديدة يبدأ بمجالس الشراب في بابل وآشور في آخر أسبوعٍ ربيعيّ من آذار، وتصلُ الاحتفالات إلى ذروتها في الأول من نيسان. السماء روحٌ، والكواكب، ومنها الأرض، مادةٌ. والروحُ والمادة التحمتا بالعقل، فكانت الحركة، وكانت الحياة. وقد وَصَفَ أنطون سعاده هذا الالتحام بـ “المدرحية" الكونية. الحياة الإنسانية الحضارية، لم تبدأ بالإبراهيمية، بل بدأت بعقل الإنسان ودعوته إلى السكنى، وإلى حصاد القمحِ الوحشي. وبالعقلِ تطوّرت الحياةُ تصاعدِيّاً فتلازُمِت عناصرها الاجتماعية، والإدارية، والتشريعية، والاقتصاديَّة، والروحية، واللغوية - الثقافيَّة، فزرع الإنسانُ القمحَ بدلاً من جمع القمحِ الوحشي، ثُمَّ بنى القرى وبعدها المدن، وظَهَرت المجتمعات لأوَّلَ مرة، فزالت البداوةُ، حين أنشأ سرجون الأول الدولة. وباسم العقلِ كتبَ حمورابي الشرائع لتنظيمِ المجتمعات. وسخَّرَ الإنسانُ البيئة، بنطاقها الجغرافي، في دورة اقتصاديَّة واحدة، من أجل خدمة الإنسان. واهتمَّ الملك القوي آشور بانيبال بالثقافة، فكانت مكتبة نينوى. وَتَوَحَّدَت اللغة في الصوت والصورة والمسماريةِ والأبجدية في جذرهاِ. العقلُ ألهم الشعراء، فكانت الفلسفة والرؤية إلى الكونِ، وكانت النبوة في رؤياها المتخطية للزمن. هكذا كان مفهوم الله "إيل" وصفاته الحسنى، وهو الإله المحبُّ، الذي، بعد كلِ كارثة للطوفان السنوي، كان يدعو ابنه "أوشتابشتيم - الإنسان" ليُشارِكه في عملية إعادة البناء وإعادة الخلق. فما بالُ هذه الأرض، التي مشى عليها أصحابُ العقل والرؤية من ملوكٍ وقُوَّادٍ، وشعراء وفلاسفة وأنبياء، وشهدت تجربةً روحية فذّة لم تشهدْها أيةُ أرضٍ أخرى؟ وما الذي جَلَبَ على أُمَّتها كُلَّ هذه الويلات، كما تساءلَ أنطون سعاده؟ الأرض التي مشى عليها حمورابي، وبانيبال، وسيفُ الدولة، وأبو الطيب. كيف شّحَّتْ مياهها في الأردن والعاصي ودجلة والفرات؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من مقارنة مفهوم الله “إيل" بمفهوم الإله "يهوه"، رَبِّ القبائل في النقب؛ والنقبُ، في لغة كنعان، أرضٌ يابسةٌ ليس فيها إلا الرمل. ويهوه هو ربّ لوط، الذي أدار ظهره لـ “سدوم وعامورة" وهُما تحترقان في لهب الكبريت! وهو الشبقُ الذي دفع يشوع ليلاقي غُلمة راحاب فيضربُ أسوارَ أريحا، فتلتهمُ النارُ الأطفال والنسوة والشيوخ، حتى العشب الأخضرُ في أريحا كان يلتهب. وهو ربُّ نوح الذي أقنَعهُ بأنّ شمسَ الربيعِ الساطعة التي كانت، كلَّ سنة، تُذوِّب الثلوجَ المتراكمة على الجبال العراقية الشمالية فتحدث كارثة الطوفان، ما كانت إلا رسالةَ عقابٍ للإنسان بسبب خطيئته التي وُلِدَت معه. وهو ربُّ أوريانوس الأول بابا روما في دعوته إلى الحروب الصليبيَّة[12]، وهو ربُّ الغرب الذي تَجَبَّرَ بالقوة في منطقه الاستعماري وغزواته على العالم وفي تدميرِ بعضه بعضاً في حربيه العالميّتين الأولى والثانية، وفي إرعابه للعالم، اليوم، بحربٍ عالمية ثالثة. وإذا كان الله تلك الصورة الذهنية التي وصفها أفلاطون، وعَبَّرَ عنها الحلّاج، ووصفها الإسلامُ بالصفات الحسنى، فما خالفها من مفهوم "يهوه" لم ينتمِ إلى دين، وإنما عبَّرت عنه الثلاثية السلفية وما تشابهها كونيّاً.
وفي الحديث عن مفهوم يهوه، ومفهوم نيسان وربيعه، ومجالس الشراب في مواسم الحصاد، تعودُ بي الذكرى إلى يومِ قانا، حين كانَ الربيعُ يحملُ الفرحةَ بالقيامة. لم أكُن قد وُلِدْتُ يومَ تَحَوَّلَ الماءُ إلى خمرٍ ليدومَ الفرحُ، ويستمرَّ عرسُ الناس. لا، بل كنتُ يومَ المناحة، يومَ تحَوَّلّ الخمرُ إلى دمٍ. وكما رأى الشعراء في الملاحمِ ورُؤياهم قديماً، رأى الشاعرُ محمد شمس الدين في حديثِهِ عن "إشعيا": "رأت عيناي مجد الرب آتياً ملطَّخاً بالدم / مباركٌ عليكَ هذا الخمرُ فوق القيء/ أسلتَ من كرومنا فوق التراب يا إشعيا أنهرا / ولَطَّخَتْ ثيابك الدماءُ والخمور/ مباركٌ عليك هذا التاجُ من جماجم القبور". يومها، شاركهُ في المناحة الشاعرُ نزار قباني: "وجه قانا.../ شاحبُ اللون كما وجه يسوع/ وهواءُ البحرِ في نيسان.../ أمطار دماءٍ ودموع". وشاركَه الشاعرُ أدونيس: "بؤرةٌ للفجيعة، أم حزمةٌ من حَطَبْ/ تتوالَدُ في كلِّ بيتٍ من بلاد العربْ/ كيفَ لم تتكلَّم؟ / ما الذي يتكلَّمُ في ساحة النارِ غيرُ اللهب". ويختمها محمد شمس الدين: "جمالُ قانا حاملٌ ضريحهُ/ وشاهدان اثنان يعرفان سرّها المكنونْ/ الصمتُ والجنونْ". فتتكرَّرُ الأسطورة البابلية كمناحة كونيَّة: "من فجاج الأرض يأتي عريرُ أرواحٍ، ووجوه أبقارٍ، وأنيابُ حميرٍ، وأطرافٌ، كما النمورِ المرقَّطة، تُداعبُ أثداءها الذئابُ والخنازيرُ، تأخذ الزوجَ من ذراعَيْ زوجته، والرضيَعَ من ثدي أمِّهِ، والصبيَّ من حضن أبيهِ".
نورُ المشرقِ شمسٌ ساطعةٌ، فيحُجُّ إلى المشرقِ رسولٌ من روما. فيتساءلُ الشعبُ: روما... روما... أيتها البربرية، يا قاتلة قرطاجة، الرُّسُلُ يأتونَ من المشرقِ وليس من الغربِ، وأنتِ قاتلة بولس الدمشقي - الإنطاكي وبطرس الجليليِ، لقد ولَّى عصرُ أوريانوس الأول. أيَّ فرسٍ تمتطي يا رسول روما؟ فينطلق صوتُ نشاز من جوقة الإسخريوطيين، ومن مدينة الآلهة الأربعة أربيل، نهار الجمعة، 24 أيلول 2021، أو ما يُسمَّى بـ “مؤتمر السلام والاسترداد" ليقول إنَّ رسولَ روما آتٍ على فرسِ إبراهيم. وتبدأ جوقة الإخوةِ الثلاثية الإبراهيميةُ، في مهمّتها، إذ ارتفعت من هذا المؤتمر دعواتٌ للتطبيع مع الاحتلال في فلسطين، تحت شعار وحدة الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وأطلقوا على "أور" لقب مدينة إبراهيم، كما فعلوا بأورشليم - القدس، إذ سَمَّوها مدينة داود، وتجنَّبوا الحديث كُليّاً عن المغزى الحقيقي لزيارة سهل نينوى. فيردُّ على هذه الدعوات الكاتب العراقي كاظم الموسوي في "الأخبار" فاضحاً المشتركين في المؤتمر والمشرفين عليه، بكلِّ ارتباطاتهم مع الكيان المحتلّ لفلسطين ومع الدوائر الأميركية الداعمة لهذا الكيان الاحتلالي. فيقول: "لعلَّ أفضل ما حَصَلَ، رغم الفضيحة، هو ردُّ الفعل الشعبي الواسع، والإدانة الكاملة لكل متبينات المؤتمر والأسماء التي أعلنت فيه، ما دفع الأحزاب والقوى السياسية في العراق وخارجه إلى إصدار بيانات إدانة وتوضيح موقف من القضية الفلسطينية ونضال شعب فلسطين المحتلة"... "أب - رامُ" كان بدوياً آرامياً. تاه بمواشيه كما يفعلُ الرعاة، إلى أن جاء" أور - شلم" ليتبارك من "ملكصدق" كاهنِ "إيل" الكنعاني، الذي باركه وأكسبه صفات ابنه "بعل" الخيِّرة في السكن والتمتُّعِ بفصولِ الخصب، التي تجسَّدت بعده في المسيح الجليلي بأن "أعطوا لله ما لله وما لقيصر لقيصر"، والتي تجسَّدت أيضاً في ابنه "إسمائيل"، فكانت مكة والكعبة والحجرُ الأسودُ وقريش والنبيُّ العربيُّ الذي أُوحِيَ إليه بالآية الكريمة: ﴿وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ﴾. فأنا الأبُ ذو الصفات الحسنى وأنت الذي "تَتَجَلّى كما تشاء مثل تَجَلّيك في مشيئتك كأحسن صورةٍ، والصورةُ فيها الروحُ الناطقةُ بالعلمِ والبيانِ والقدرةِ والبرهان.[13]
إلّا أنَّ بابا روما، جاءَ يائساً من يهوهية الغرب؛ فالغربُ بيهوهيته، أسهم في إشاعة "ثقافة" الخنادِقِ الدينية، والمتاريسِ الطائفية والعشائريَّة إلى حدٍّ كبير، وأسهم بإمعانٍ في تَغَلغُلِ هذه "الثقافة عمقاً في أنفسِ بعض الناس، وبتوجيه من أبواقه في المنطقة. فيردُّ بابا روما على الثلاثية السلفية الإبراهيمية بمسيرةٍ إلى الأرض التي حملت شمس المشرق: جئتُ لأزور ولأضُمَّ المشرق وإنسانه، في الأزهرِ والنجفِ ونينوى، وعلى أريكة جلستُ القرفصاء معهم، الإنسان الذي زرع الخصب وخلق من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ. أحملُ سُعفَ النخل والزيتون، لأعانق روحانية المشرق. فالجليليّ دخلَ "أور - شلم" لا على فرسٍ، وإنما على ظهرِ أتان ولم يستَل سيفاً.
تساءل إلياس الرابع، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، كيفَ مَلَكَ إبراهيمُ الأرض؟ فإنَّ ذويه "حين أرادوا دفنهُ اضطُرّوا إلى شراء أرض من أجدادنا الكنعانيين، لأنهم لم يكونوا يملكون حتّى مساحة قبرِ له."[14]
البابا فرنسيس ضليعٌ في اللاهوت، وضليعٌ في التاريخ، خصوصاً تاريخ المنطقة، وضليعٌ في تاريخ الكنيسة وصراعاتها الداخلية على مدى ما يُقاربُ الألفَيْ سنة. ما زالت أغلب دُورِ العبادة المشرقية محافظة على روحانيتها، وما زالت أمينةً على ارتباطها الوطني بالأرض. والتوراتية حَذَّر منها بولس الرسول والمسيحيون الأوائل (أهل إنطاكية عاصمة العواصم في الهلال الخصيب)، بأنّ "العهد الجديد" تقوم عليه الكنيسة، ولا حاجة إلى الاستعانة "بالعهد القديم". وكان هذا مدارَ صراع بينه وبين اليهود المتنَصِّرين، انتهى بأَرجحية رأي بولس والمسيحيين الأوائل في مؤتمر القدس عام 49 ميلاديَّة.
نشر الكاتب العراقي علاء اللامي مقالاً في "الأخبار"، في 17 آذار 2021، قال فيه: "انتهت زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الأول للعراق بنجاح بروتوكولي واضح، ولكنّها خَلَّفَت وراءها، مثلما سَبَقَتها، تساؤلات كثيرة ذات مساسٍ بالجوانب السياسية والدينية التاريخية لها وللمنطقة". الجوانب السياسية والدينية، التي ذكرها الكاتب علاء اللامي، كانت أكثر تعبيراً عنها الكاتبة هيام القصيفي، في مقالها في جريدة "الأخبار"، في 2 حزيران 2021، معلِّقة على الزيارة وعلى اللقاء في الفاتيكان، إذ ذكرت أنّ أحد رجال الكنيسة الأرمنية كان وراء الدعوة إلى اجتماع الفاتيكان، لا الكنيسة المارونية، كما ادَّعى مستشارو بكركي، إذ إنَّ رجلَ الكنيسة الأرمنيَّة "نقل إلى البابا أجواء الوضع اللبناني الداخلي بحقيقته، وخطورته، وما ينعكس على مستقبل أبنائه، والمسيحيين في المشرق في ظلِّ الأوضاعِ السياسية والاقتصادية...".
وأبرزت الكاتبة ما كان لافتاً: "محاولة بعض مَن في الكنيسة المارونية قطف ثمار هذه الدعوة، والالتفاف عليها، معبّراً عن استيائه الشديد منها ومن الذين كانوا وراءها". وجزمتْ بـ"أنَّ الفاتيكان يسحب البساط من تحت قدمَيْ بكركي تجاه الكنائس الأخرى"، ولهذا "ومنذ اللحظة الأولى، بدا اهتمام الفاتيكان بحضور ممثلي الكنائس الذين يُلَبّون الدعوة ككنائس شرقيَّة، وهذه إشارة مهمة في لقاء روحي على هذا المستوى...". وختمت القصيفي كلامها بتلميحها إلى أن الفاتيكان لم يكن راضياً على مسار قيادة الكنيسة المارونيَّة، منذ عام 2012، بسبب انغماس هذه القيادة في المعركة السياسية (بكل أبعادها في المنطقة)، وسكوتها عن الدور الجشع للمصارف، والمشرفين على السياسة النقديَّة. واستياء الفاتيكان كان من المرجعية المارونية وقيادتها، ولم يكن من الطائفة المارونية وأفرادها الذين ما زالوا متمسّكين بالقيم الروحية المشرقية.
زيارة البابا لهذه الأرض المقدّسة ودعوته للناس للبقاء في الأرض، والتمسُّك بالعيش المشترك والتآخي بين الأديان، لها مغازيها الواضحة، وهي استعادة المسيرة الحضارية التي آمنت بعناق الأرض والسماء، والتي ظهرت في "أور" و"بابل" و"نينوى" و"مكَّة" و"بغداد"، و"دمشق" و"بيروت"، وجميع مدن الهلال السوريِّ الخصيب.
روحانية المشرق تجابه اليوم مادية المغرب، وللمشرق شروق، وللغرب غروب.
فيا جبل الحرمون، أيها المُعَمَّمُ بالثلج والسحاب الأبيض، يا سليل العمالقة، الأرضُ مُشرَّعةٌ للجراد الجائع، لكأن لا نبيَّ في نهرها استحَمَّ، ولا الخَطَّابُ على صخرها صَلّى، ولا على ديارها مرَّ إسراءٌ. جبيننا ساطعٌ وعالٍ كثلجك في البياض على القمم. لسماء اليرموكِ شوقٌ إلى سحابك العريب الراعدِ.
* كاتب وطبيب لبناني
مراجع:
1) كتاب "مصطلح التاريخ"، أسد رستم، ص: 3.
2) كتاب "الحلاج"، سامي مَكارم، منشورات مكتبة رياض الريِّس، ص: 35.
3) المصدر نفسه، الحلاج، ص: 53.
4) كتاب "تاريخ الفلسفة اليونانية"، يوسف كرم، ص: 1.
5) Greco-Roman civilization has dominated ancient history for too long.
6) مقدمته لكتاب "أوغاريت" لنسيب وهيبه الخازن.
7) مجلة "الحكيم"، عدد ربيع 1969، ويُراجع موقعا www.drgeorgeyounan.com.
8) Ze’ev Hezog, deconstructing The Walls of Jerico.
9) مقدمة كتاب "بعل هدَّاد"، حسني حداد، سليم مجاعص.
10) كتاب سامي مَكَارم، الحلاج، ص:21.
11) كتاب " بعل هدَّاد"، ص: 145.
12) فيليب حتّي، "تاريخ سورية"، الجزء الثاني. ص. 223.
13) كتاب "الحلاج"، ص: 53.
14) كلام البطريرك الياس الرابع للرئيس جيمي كارتر. كتاب بشير عبيد، "مقالات ومواقف"، ص: 80.
[1] كتاب "مصطلح التاريخ"، أسد رستم، ص: 3.
[2] كتاب "الحلاج"، سامي مَكارم، منشورات مكتبة رياض الريِّس، ص: 35.
[3] المصدر نفسه، الحلاج، ص: 53.
[4] كتاب "تاريخ الفلسفة اليونانية"، يوسف كرم، ص: 1.
[5] Greco-Roman civilization has dominated ancient history for too long.
[6] مقدمته لكتاب "أوغاريت" لنسيب وهيبه الخازن.
[7] مجلة "الحكيم"، عدد ربيع 1969، ويُراجع موقعا www.drgeorgeyounan.com.
[8] Ze’ev Hezog, deconstructing The Walls of Jerico.
[9] مقدمة كتاب "بعل هدَّاد"، حسني حداد، سليم مجاعص.
[10] كتاب "الحلاج"، سامي مَكارم، منشورات مكتبة رياض الريِّس، ص: 35.
[11] كتاب " بعل هدَّاد"، ص: 145.
[12] فيليب حتّي، "تاريخ سورية"، الجزء الثاني. ص. 223.
[13] كتاب "الحلاج"، ص: 53.
[14] كلام البطريرك الياس الرابع للرئيس جيمي كارتر. كتاب بشير عبيد، "مقالات ومواقف"، ص: 80.