قال (ج): أذكر أن كتاب "المحاضرات العشر", المحاضرة الأولى على وجه التحديد، تشمل كلاماً لسعاده، عن الحق والخير والجمال. ما هي مناسبة هذا الكلام، وهل هذا الكلام منسجم مع الموضوع الرئيسي للمحاضرات، الذي قلت أنه التعريف بالحزب السوري القومي الإجتماعي وعقيدته؟
قلت: بالنسبة لمناسبة الكلام عن الحق والخير والجمال، أقول أنها تتعلق بالمطرود فايز صايغ، الذي كان عميداً للثقافة والفنون الجميلة. إبّان مدة غياب الزعيم القسري في المغترب الأميركي اللاتيني، في الأربعينات.
فايز صايغ، أصدر نشرة بإسم "نشرة عمدة الثقافة"، وذكر فيما سمّاه "البيان الأساسي لعمدة الثقافة والفنون الجميلة"، المنشور في عددها الأول، أن عميد الثقافة (أي هو نفسه)، "هو المسؤول النهائي عنها"، وأن لعمدة الثقافة، رسالة ثقافية غير مندمجة، في رسالة الحركة القومية الإجتماعية الثقافية، وأنه لن يسمح، "لاعتبارات خارجة عن نطاق الحق والخير والجمال"، بالتدخل في شؤون القيم وغير ذلك من كلام عن وجود حق مطلق، وخير مطلق وجمال مطلق، وأن عميد الثقافة مسؤول تجاه هذه المطلقات، وليس تجاه رؤسائه في القيادة الحزبية[1].
بالنسبة لعلاقة كلام فايز صايغ، ونقد سعاده له بالموضوع الرئيسي للمحاضرات العشر، أفيد بأن العلاقة، علاقة انسجامية، ذلك لأن كلام فايز صايغ، يتضمن تشكيكاً بالرسالة الثقافية للحزب، أي الفلسفة القومية الإجتماعية، وأن هناك ثقافة مطلقة، يجب أن تحاكم القومية الإجتماعية، بالنسبة إليها، هي ثقافة الحق المطلق، والخير المطلق والجمال المطلق.
بل أكثر من ذلك، كلام فايز صايغ إذا نظر إليه، نظراً تحليلياً دقيقاً مؤداه الأخير، أن الحق والخير والجمال، هي قيم موجودة خارج قضيتنا القومية الإجتماعية.
قال (ج): هل كان لفايز صايغ تأثيره في أفراد الحزب؟
قلت: الحقيقة أن غسان تويني، يوسف الخال، يوسف نويهض، حلمي وفوزي معلوف، كانوا يشكّلون مثل عصبة، يمكن تسميتها من قبلنا، عصبة "الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق"، وهؤلاء كانوا جميعهم منفعلين بأفكار شارل مالك، التي نقلها عن فلاسفة غربيين وميتافيزيقيين، ذوي نزعات فلسفية، تدور حول الفرد، وخاصة علاقة الفرد الوحيدة باللّه. أذكر من أولئك الفلاسفة "كيركيغارد" و "نيقولا بردياييف". [2]
قال (ج): ماذا كان نقد سعاده لأولئك المتافيزيقيين المتعلقين بالقوى غير الحسّية وغير المنظورة؟
قلت: سعاده ردّ بما يلي:
أولاً: قال، لو أن عناصر الحزب السوري القومي الإجتماعي، الني جاءت من مختلف فئات الأمة، الفلّاحية والعمّالية والطلبة والمثقفة والدينية وغيرها، لم تدرك أن عقيدة الحزب، هي عقيدة حق وخير وجمال، حق الأمة وخير الأمة وجمال حياة الأمة، لما كانت تلك العناصر اجتمعت حول عقيدة الحزب، في صفوف بديعة النظام في الحزب.
ثانيا: إن شرط الحق، لكي يكون حقاً، هو أن نراه كذلك، وشرط الخير لكي يكون خيراً هو أن نراه كذلك، وشرط الجمال أن يكون جمالاً، هو أن نعرف نحن أنه كذلك.
الحق المفروض علينا ليس حقاً، بل باطلاً في ظاهر حق، والخير المفروض علينا ليس خيراً بل شرًاً في ظاهر خير، والجمال المفروض علينا ليس جمالاً، بل قبحاً في ظاهر جمال. ذلك لأن أول الحقوق هو حق الحرية، وأساس الخير هو خير الإختيار، وأصل الجمال هو جمال إنتقاء الجمال، فإذا فقدنا حريتنا، فقدنا كل شيء.
قال (ج): جوهر كلام سعاده، هو الإستقلالية أليس كذلك؟
قلت: صحيح، وهذا يذكّرني بالمبدأ الأساسي السابع، من مبادئ العقيدة القومية الإجتماعية، الذي ينص على "أن تستمد النهضة القومية الإجتماعية روحها، من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي". هذا المبدأ جوهره الإستقلال الروحي للأمة السورية.
كلام سعاده الذي ذكرناه، حول شرط قيم الحق والخير والجمال، لتكون حقاً وخيراً وجمالاً، هو أن نراها نحن كذلك، أو على الأقل، أن نشارك في رؤيتها كذلك، مرتبط بذلك المبدأ الذي يريد أن تظل الأمة السورية حرة ومستقلة.
قال (ج): أرجو أن تتابع حديثك، الذي بدأته عن ردود سعاده، حول مسألة الحق والخير والجمال.
قلت: النقطة الثالثة التي ذكرها سعاده، هي في قوله أن أعضاء الحزب لم يجابهوا الأخطار، وينجحوا في التغلّب على الصعوبات، وتحمّل أقسى أنواع الإضطهاد والظلم، ولم يدخل ألوف منهم إلى السجون، وتذوب أجسادهم دون أنين ولا تراجع، ويظلّون متمسكين بعقيدتهم، لو أن عقيدتهم لا تشتمل على الحق والخير والجمال.
أليس حقاً أن تكون سوريه مُلك عام لجميع السوريين الذين هم أمة تامة، كما يقول المبدأ الأساسي الأول للعقيدة. وفي مقابل ذلك، أليس باطلاُ أن تكون أجزاء من سوريه في فلسطين والجولان وكيليكيا والإسكندرون وغيرها، في أيدي الصهيونيين والأنراك؟
أليس خيراً أن يُلغى الإقطاع ويُنظّم الإقتصاد، على أساس الإنتاج ويُنصَف العمل، وتُصان مصلحة الأمة والدولة، كما يفيد المبدأ الإقتصادي الإصلاحي الرابع؟
أليس جمالاً لحياة السوريين بأن تنتشر فيهم روح التسامح القومي، ويكونوا مجتمعاً واحداً ذا شعور قومي عام، ودولة واحدة علمانية، لا تفرقة مذهبية ولا عنصرية، ولا إقليمية أو طبقية ؟ في مقابل ذلك، أليس قبحاً كل تلك الحياة الطوائفية والعنصرية والإقليمية، والطبقية البورجوازية والإقطاعية، التي تفكك الأمة وتهدر إمكانياتها، ولا تنتج إلا الصراعات الداخلية والموت؟
رابعاً: ومما عنى سعاده في نقده ل "عصبة الحق المطلق والخير المطلق والجمال المطلق"، أن هذه القيم لا تكون مطلقة إلا عند الواهمين. فهي تظل مقيّدة على الأقل بعقول أصحابها! معنى ذلك أن القيم نسبية إجتماعية. الإنسان الفرد لا يستطيع أن يدّعي أنه على صلة بالمطلق، لأنه رافلٌ بثقافة مجتمعه ومحيطه. فهو إذا نظر إلى المطلق تكون نظرته نسبة لثقافته. ولما كانت ثقافات الأفراد والجماعات متعددة ومختلفة، لذلك كان الحق حقوقاً والخير خيرات والجمال جمالات. هذا من جهة.
من جهة ثانية، نقول أنه حتى لو كان الفرد بريئاً من كل ثقافة، أي لو كان عقل الفرد مجرد صفحة بيضاء، فإنه عندئذ سيجد نفسه في أحد مأزقين هما:
إما أنه لن يستطيع فهم الحق المطلق، والخير المطلق والجمال المطلق، لأنه لا يملك أدوات المعرفة، ولا نظريات المعرفة، ولا ثقافة المعرفة، لأن عقله هو مجرد صفحة بيضاء.
أو إنه إذا كان بمقدوره أن يدرك تلك القيم المطلقة، فإنه سيحولها إلى قيم مقيّدة بقدرته العقلية الفيزيولوجية المحدودة، فتصبح القيم المطلقة قيماً محدودة ومقيّدة.
والحق يقال، أن تعبير "القيم المطلقة"، تعبير غير صحيح. إذ كيف تكون القيم مطلقة؟ هي مطلقة من ماذا؟ وإذا كانت مطلقة من شيء، أو عدة أشياء، فإنها تصبح مطلقة نسبة لذلك الشيء وتلك الأشياء، أي هي نسبية، وإذا كانت مطلقة من لا شيء، فهي العدم بعينه.
هذه باختصار قصة القيم المطلقة، التي وردت في المحاضرة الأولى.
â â â â â â