رغم غيابه عن الساحة الإعلامية، يبقى اسم حبيب الشرتوني حاضراً على ألسنة اللبنانيين، عند كلّ مناسبة واستحقاق حيث تحضر النقاشات التقليدية حول موقع لبنان من الصراع ومستقبله والنظرة إلى العدو والصديق. في المقابلة التالية، يعلّق الشرتوني على التطورات السياسية في لبنان قبيل استحقاق الانتخابات النيابية ومطامع العدو الإسرائيلي بلبنان ودور المقاومة المسلّحة في حماية لبنان وموارده، من دون أن يفوّت الإضاءة على الحزب السوري القومي الاجتماعي
ملفّك هو الوحيد الذي بقي عالقاً في القضاء منذ أيام الحرب الأهلية.
ملفي عالق لأسباب لوجستية أكثر مما هي قانونية أو ثأرية. الجهة الأكثر تأثيراً في القرارات السياسية والقضائية والإجرائية في لبنان معروفة، ويخشى قسطٌ حليفٌ أو صديقٌ لها من المنظومة الحاكمة تأثيري على شريحة لا بأس بها من المجتمع، ما قد يحدث تغييراً لا يخدمُ فسادَه وخططه القائمة على امتيازات طائفية، والمرتبطة بتمويلٍ خارجي، وخصوصاً أن إطلالاتي في الإعلام وعلى وسائل التواصل ــــ ولو كانت نادرة ــــ أثّرت عبر السنوات في جزءٍ وازن من الرأي العام لم يعد بسواده الأعظم يعتبرني ــــ كما في البداية ــــ مرتكباً لجرمٍ سياسي وفارّاً من وجه العدالة، بل بطلاً وطنياً منفذاً لحكم الشعب وفق الدستور، والأمثلة على ذلك باتت منتشرة من خلال الشعارات المحبّذة للمقاومة والمُدينة للعمالة.
ولا حاجة، بالتالي، إلى التذكير بوضع الحزب القومي طوال ثلاثين عاماً كمؤسسة سياسية لا كأفراد. إذ لم يعد خافياً كيف أُدير هذا الحزب وكيف أدّت سياساتُه وتحالفاته إلى التخلّي فعلياً لا شكلياً عني. كان من الممكن طيّ هذا الملف في فترة زمنية مؤاتية خلال وجود الجيش السوري وإعادة بناء الدولة على أسسٍ وطنية. وقد تولّينا مع بعض المحامين والقانونيين وضع دراستَين معمّقتَين لتفنيد المسألة في ضوء القوانين اللبنانية، لكن المخرج لم يكن يوماً في القانون بل في السياسة. لا أعني بكلامي هذا القيادة الحالية للحزب التي تشكَّلت منذ سنة ونيِّف، إذ نتوقَّعُ منها أداءً مختلفاً أقرب إلى منطلق الفكر القومي وغاية مؤسّسه. وقد بدا فعلاً هذا النوع من الأداء على المواقف التي سجَّلتها، رغم الصعوبات التنظيمية الموروثة والضغوط السياسية المفروضة عليها من القوى المتحكّمة بزمام الأمور.
كيف تقرأ المرحلة الراهنة وما رأيك بالواقع السياسي والاقتصادي والأمني؟
من الواضح أن الشعب اختار سلطته ونوابه وحكامه بعدما وضع الانتدابُ له شكلَ النظام، وهو لم يحزِمْ أمورَه بعد لتغيير هذا النظام المتخلّف، ولا يزال يلجأ إلى الاستفادة مما تقدِّمه له الأحزاب الطائفية التي فرضتها تركيبةُ النظام ولو من موارد البلد، ولا يزالُ يؤيّد علانيةً زعماءها الذين أشعلوا الحروب المحلية وساهموا في الصفقات والتهريب عبر تغطية الفاسدين والسارقين والمهربين، وأداروا بعد انتهائها دفّة الفساد والرشى والمحاصصات وسوء الإدارة، ما أفلسَ الدولة. ومن الواضح أيضاً أن عدداً من المعارضين لهم والمنضوين في منظمات غير حكومية، تربطهم علاقات، مكشوفة أو مستورة، بالسياسيين أو بالسفارات الأجنبية والعربية مما لا يبشِّرُ بالسعي لتحقيق المصلحة العامة بتجرّد. وقد يكمنُ السبب في حاجتهم إلى المال ككل الأحزاب والمنظمات.
هؤلاء قد لا يوقعون الضرر بالقدْر الذي أوقعه الساسة وفي مقدمهم أمراء الحرب، لكن عدم اتحادهم في أشكال تنظيمية وائتلافية وعدم اتفاقهم على آلية التغيير وعلى لوائح انتخابية مكتملة وفاعلة في كل الدوائر، مردُّه تغليب المصالح الفردية لبعض وجوههم البارزة، ما يشيرُ أيضاً إلى بعدهم نسبياً عن العمل بمفهوم الوطن والمواطنة. ولا أرى في ظل أجواءٍ كهذه إمكانيةً للتغيير أو للإصلاح، رغم وجود أمل بالمستقبل طالما أن هناك بداية وعي شعبي ولو بطيء.
أما الوضع الأمني المرتبط بمصالح الجهات السياسية وقادتها وبمصالح التمويل الخارجي، فالثابت هو أنّ مؤتمر الطائف عُقِد لغايةٍ واحدة هي وقف الحرب الأهلية، فيما لم يكن الوضع العام ملائماً لتطبيق سائر بنوده التي بقيت نظرية، ما دفع مع حلول الألفية الجديدة إلى أزمةٍ كادت أن تشعل حرباً أهليةً ثانية، وساهم في إطلاق عدوان تموز لضرب قدرات المقاومة العسكرية وإضعافها في الداخل، وأدّى بعد فشل العدوان إلى اتفاق الدوحة. وقد تخلل هذا المسار اختراق أمني للتنظيمات التكفيرية بموازاة تحركاتها الإرهابية حول العالم، ما أدى إلى اغتيال بعض الشخصيات البارزة وأهمها رفيق الحريري، وبالتالي إلى انسحاب الجيش السوري في ظل المناخ السياسي الداخلي والخارجي.
ما موقعك الحالي بالنسبة إلى الحزب القومي؟
فكر أنطون سعادة بمجمله واضح وصالح لكل زمان وسبّاق بالنسبة إلى عصره في منطقتنا. فهو أول من أطلق تعريف الأمة والحدود الطبيعية وأعطى للإنسان الفرد الصفة المجتمعية واستشرف المخاطر على بلادنا من الحركة الصهيونية والوهابية والأطماع التركية وسواها. لكن المعلومات أو ما يُسمى بالداتا لم تكن في زمانه ممكننة ومتوافرة كما في يومنا هذا، ما يقتضي تحديث بعض هذه الأفكار لتواكب العصر، وهذا ليس انتقاصاً من قيمتها بل صوناً لها ولفعاليتها. يعلم أتباعه أنه أسس مدرسة فكرية واجتماعية وعقائدية والمدرسة لا تتوقف عن التطوّر والتقدم والاجتهاد. أما بالنسبة إلى الحزب الذي مرّ بظروفٍ متنوعة، فلا أجده اليوم ــــ في ظلّ انتماء معظم الشعب في لبنان إلى أحزابٍ طائفية وفي سائر كيانات الأمة إلى أحزابٍ شمولية وفي ظلِّ تهميشه من قوى فاعلة في الإقليم ــــ في موقع قوة تمكّنه من القيام بدورٍ مفصلي في البنية اللبنانية وعلى امتداد الأمة. لكنه يساهم وفق إمكاناتِه التي لا يُستهان بها خصوصاً ميدانياً في ما يدور من صراعٍ في المنطقة بين محورَين واضحَي المعالم. وهذا ما جعلني طوال السنوات الماضية على الحياد من التنافس داخل الحزب، من دون أن أتقاعس عن القيام بما يمكن القيام به، إنما لم يُتح لي المجال الكافي للقيام بدورٍ مكتمل ومكشوف بسبب عدم حل القضية العالقة التي حُوّلت كما أراد الخصوم إلى قضية شخصية في محاولةٍ لحرفِها عن مسارها الطبيعي حتى لا تبقى صفة العمالة والخيانة واقعة على الذي استُهدف في الاغتيال.
أطلقت موقعاً خاصاً لبيع بعض مؤلفاتِك افتراضياً بسبب منعِك من طباعتها وتوزيعها، لكنه لم يلقَ بعد رواجاً كموقعك السابق الذي نشرتَ فيه مقالات وصوراً للمرة الأولى تثبتُ تعاملَ بشير الجميّل مع إسرائيل.
أطلقتُ الموقع السابق عندما اعتُقل لفترةٍ وجيزة بعض الأصدقاء والرفقاء بسبب مؤتمر صحافي في بيروت عام 2005، وطلبتُ تطويره عام 2011 حتى لا يبقى جامداً بموادِّه وبتُّ أديره وأدرجُ مقالاتي فيه بالتوازي مع حسابي على وسائل التواصل ومع بعض الحوارات الصحافية، وقد سجَّل دخول 700 ألف زائر من أرجاء العالم، قبل أن أضطرّ لظروفٍ قاهرة إلى إغلاقه بعد عام 2012. أخيراً، وبعدما أيقنتُ أن لا مجال لإصدار أيّ كتاب الآن أو لاحقاً، أطلقت موقعاً خاصاً ببيع الكتب من دون أن أتمكن لأسباب ظرفية من إدارته أو الترويج له. بعدما أطلقتُ على الموقع الأول historylaw.com سمّيت الثاني history-law.com بحكم أن شركة قانونية يابانية أعجبها الاسم الأول فسرقتْهُ. وقد ضمَّت المؤلفات المدرجة في الموقع كتابَ شعرٍ كان الوحيد الذي طُبع في بيروت عام 2011، وكتاباً آخر جمعتُ فيه المقالات والمدوّنات التي نشرتُها في الموقع السابق، وكتاباً أرشفَ مجمل ما قيل حول مقتل بشير الجميّل، إضافةً إلى مؤلفات غير سياسية غير صادرة بعد.
في 24 نيسان بلغت الرابعة والستين وأنت تعيشُ حياةً في الظل. كيف تمضي أوقاتك؟
لست من النوع الذي يخشى شيئاً أو يختبئ كما يشيعُ البعض. لا ينهي حياتك البائسة إلا الذي منحك إياها، وليس الموت عقوبةً بحد ذاته كسَجنِ الجسدٍ وتعذيبه، بل بدايةً لحياةٍ أُخرى قد تكون أهمّ بكثير من التي نحياها هنا. أما عيشي حياةً شبه عادية كسائر الناس، لكن في الظل، فأمرٌ بديهي بالنسبةِ إلى شخصٍ لا محل له من الإعراب إلا معنوياً.
كيف ترى مستقبل لبنان والمنطقة؟
لا شكّ أن وجود الكيان الإسرائيلي في المنطقة يعيدُ دائماً خلطَ الأوراق بسبب التدخُّل العدائي في شؤوننا لتأمين مصالح هذا الكيان المركَّب والغريب وأمنه، ولا شكّ أيضاً أن الأطماع لدى بعض دول الجوار والمصالح الخاصة للدول الكُبرى تؤدي دوراً أساسياً في ما نمرّ به. فهم الذين يكتبون تاريخنا، ومن يجرؤ على كتابة أيّ فقرة من هذا التاريخ يدفعُ ثمنَ فعلتِه شخصياً ولا يتعرَّف عليه أحدٌ من بيئته. المستقبل يحمل دائماً الأمل، لكن التفاؤل من دون توفُّر المعطيات الإيجابية عبارة عن أملٍ فارغٍ من أي مضمون. لذلك، أستنتجُ من حيوية شعبنا في لبنان ومحيطه الطبيعي، رغم كل الأخطاء والتخلّف عن اللحاق بقطار البشرية السريع، مؤشراً إيجابياً يوحي بالسير إلى الأمام. ويدعم هذا التفاؤل وجود ثروات طبيعية إلى جانب الثروة البشرية ولو لم تستخرج بعد، ربما حتى لا تُسرق أو تُهدر. لقد شاهدنا عبور دولٍ عدة بأزماتٍ مشابهة تمكنت من تخطّيها. أما في مجال الدفاع عن النفس ومقاومة العدوان، فنشهَد لبسالة الفلسطينيين وما يقدمونه من تضحيات حتى أرسوا مدرسةً تلقّن شعوب العالم كيفية الصمود في وجه الاحتلال والحصار والاعتقال والتنكيل. ولا ريب أن للجيش السوري أيضاً، إلى جانب الجيش العراقي مع كل القوى المشاركة، فضلاً كبيراً في ضرب التنظيمات الإرهابية والتكفيرية وتحجيمها. أما الواجب القومي المتمثِّل بوضع حدّ لخطر التمدُّد التركي شمالاً فلا بدّ من الاستمرار في بذلِه من دون توقّف.
تحدّثتَ عن فكر أنطون سعادة في ما مرّت البشرية بتجارب فكرية عديدة.
صحيحٌ أن دولاً عدة خاضت تجارب سياسية مبنية على عقائد وأفكار دينية ودنيوية، ولكن لا يمكن وضع دستور ونظام على أساسٍ ديني فقط، بما أن الدِّين يخاطبُ الماوراء ولا يولي الاهتمام الأساس للدنيا، وهذا لا يتيحُ المجال لإيجاد صيغةٍ بنيوية تقومُ على أساسها الدولة، ما يحتّم اللجوء إلى التشريع الإنساني لوضع الدساتير والقوانين والنظُم الملائمة للمجتمعات. لكنّ بعض الدول ذات الصبغة الدينية، نجحت نسبياً، كإيران مثلاً التي وجدت ضالّتها بعد حكم الشاه في الخط الديني الملائم والموحّد لمجتمعها وقوميتها ومصالحها، فيما انقرضت الممالك والإمارات والسلطنات القائمة على أسس دينية عبر التاريخ، ولم تتمكّن الحركات الوهابية والسلفية والتكفيرية من إعادة إحيائها. وهذا المشروع الذي يخدمُ في عصرنا وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية، كان يمكن أن ينجح ويُعمّم في المنطقة على دويلات سابحة في فلك الأقوى من بينها، أي إسرائيل، لو نجح في إقامة دولة في لبنان كالتي طمحت إليها فئة من اللبنانيين واعتبرتها حلماً مجسَّداً بشخصٍ لم يتوانَ عن ارتكاب الفظائع المبررة للغاية. وإلّا عن أي حلمٍ يتحدثون حتى يومنا هذا، فيما خرج هذا الشخص من جلدِ المنظومة التقليدية الحاكمة والفاسدة ولم يُحرم من أيّ امتيازات سخّرت البلد من أجله.
أما بالنسبة إلى الأيديولوجيا الماركسية ــــ اللينينية، أو الشيوعية، فلقد فشلت في تجربة الاتحاد السوفياتي لثلاثة أسباب رئيسة، وهي محاربة الكنيسة وقمع رجال الدين كما جرى منذ عهود الوثنية، وحرمان المواطن من الملكية الخاصة مما لا يشعره بالانتماء إلى وطنه، وعدم منافسة الغرب على الصناعات المتنوعة، بل التركيز على العسكرية منها، فيما نجحت الشيوعية نسبياً في تجربة الصين وكوبا وكوريا الشمالية وفيتنام لأسباب قومية وحّدت شعوبها حول قضايا محقّة وجرّاء اتباع سياسات إدارية وتنموية ودفاعية ملائمة لبيئاتها.
ونجدُ في المقابل تطوُّر النظام الغربي الرأسمالي في الأصل بشكلٍ عام، ليغدو أكثر اجتماعيةً واشتراكيةً من خلال الضمانات كالشيخوخة والتقاعد ومن خلال توفير الطبابة والعلم المجانيَّين أو الرواتب اللائقة. وفيما تقاتل المنتمون إلى أحزاب عالمنا العربي بسبب الاختلاف العقائدي، أدركوا أخيراً أن المعيار الأساس يكمنُ في مدى نجاحهم في تطبيق مفاهيمهم العقائدية على أرض الواقع، وأن الفرز ليس بين الأفكار والعقائد بل بين الوطنيين الراغبين في تحسين أوضاع بلادهم وبين العابثين بمصيرها وبمستقبل أجيالها.
في مقال لك عشيّة محاكمتك حسمتَ بحتمية صدور حكم الإعدام. كيف عرفت سلفاً بماهيّة الحكم، وما رأيك بالعهد الذي حاكمك وبالأحزاب اللبنانية؟
بعد بلوغ دولة لبنان عمر المئة، يمكن أن نستنتج مدى نجاح التجربة أو فشلها، بحسب الخلفية الفكرية والوطنية التي نعتمدُها في التحليل. وبما أن للبنانيين رأياً في مختلف المسائل، لا أعتقد أن هامش إعادة النظر بآرائهم وانتماءاتهم واسع بحكم الواقع الطائفي والسياسي والعام. فهم يعيشون قدراً لا يختارونه بالكامل، فيما تتقدَّم عادةً القوى الطليعية على عامة الناس في استشراف الآتي وفي تدارك المخاطر والدعوة للمعالجة والتغيير. فإن أعطيتُ رأياً غير إيجابي بأداء أحد الزعماء الطائفيين أو الأحزاب لا يعني ذلك تأييدي لزعيمٍ أو حزبٍ في الجهة المقابلة. الثابت هو تأييدي مع كل الوطنيين في بلادنا للمقاومة مهما تلوَّنت لافتاتُها حتى تقوم الدولة القادرة والعادلة والجامعة، وليست المقاومة حرفةً أو هواية أزلية وخصوصاً بالنسبة إلى المجتمعات والأوطان المظلومة والمحتاجة للدفاع عن نفسِها. لا ريبَ أن قسطاً وافياً من الآراء لا يزالُ يأخذ في الاعتبار سلوك الأحزاب خلال الحرب الأهلية. لكن إذا أردنا تقييم نجاح أيّ حزب أو فشله، نفعلُ ذلك بناءً على برنامجه وقوة حجته وصدقيّته والتزامه بقضايا الناس. ومن الأمثلة البارزة الممكن إعطاؤها: نجاح التيار الوطني الحر فترة تراجع، لا بل إفلاس، قرنة شهوان وعودة ميشال عون، ونجاح حزب الله فترة صموده وإعماره لما تهدَّم خلال حربه مع العدو التي أخذت اتجاهاً بطولياً ومحترفاً. وإذا لمّحنا إلى ممارسات الأحزاب تاريخياً، لن يكون من الصعب تقييم تلك الممارسات وما جلبته على الشعب من خيرات أو ويلات، أحياناً لأسباب مزاجية وشخصية وليس فقط لأسباب طائفية وميليشيوية. وحتى لا أقول ما لا لزوم له، أختصر جوابي بإشارة مازحة إلى شعار التيار العوني بمسدسٍ قاطعٍ للطريق بإصبعين وإلى شعار القوات بيدين ترمزان إلى العضو النسائي، من دون أن يكلِّف مسؤولو هذين الحزبين أنفسهم معرفة مصدر هذين الشعارين.
تتهمك تصريحات لمسؤولين كتائبيين وقواتيين بأنك عميلٌ مزدوج لسوريا وإسرائيل؟
أجبتُ في إحدى المقابلات بأني لم أكن، قبل حصول العملية، أعرف شخصياً أحداً من السوريين أو الفلسطينيين الذين اتهمتُ أيضاً بالانتماء إلى منظمتهم، ولو كنت على علاقة تنظيمية واستخباراتية بالسوريين كالعديد من السياسيين في لبنان، لربما ساعدوني باستصدار عفو فترة وجودهم في لبنان أو امتنعوا عن إزعاجي واستدراجي لمشاكل وحوادث جانبية في فترات معيّنة. أما بالنسبة لإسرائيل، فعندما لم يستطيعوا إقناعها باغتيالي بعدما فوجئوا بخروجي من المعتقل روّجوا بدعة عمالتي للعدو. ناهيك عن عدم عثورهم على ذريعة مخجلة ومعيبة حيال قيامي بما قمت به، ما لا يساعدهم على تبرير عمالتهم وخيانتهم للوطن والمجتمع للأسباب الطائفية المبررة بنظرهم.
ما رأيك بالجدل القائم حول ترسيم الحدود البحرية وربما البرية؟
لم يكن لبنان مهتماً في السنوات الماضية بترسيم حدوده البحرية ولم يكن الموضوع مطروحاً بإلحاح قبل اكتشاف ثروات طبيعية في حقول الغاز الواقعة على الحدود الجنوبية مع فلسطين. وبعد أن بدأ الإسرائيليون بالتحضير لاستخراج الغاز الذي قُدّر بكميات كبيرة، طرحوا موضوع الترسيم من خلال الأميركيين على بساط البحث، ومن البديهي أن تنحاز الإدارة الأميركية حتى لا يحصل لبنان على حقوقه كاملةً ما يخفّض الإنتاج الإسرائيلي لصالح الشركات التي ستتولى استخراج الغاز بالاتفاق مع الدولة اللبنانية، ونظراً لمعرفتها بأولويات حلفائها في لبنان.
وبما أن المسألة تتعلّق بالأمن القومي والاقتصادي وبما أن لبنان بات محاصراً وخاضعاً لشروطٍ مذلة حيال أزمة الشرق الأوسط، ومفتقداً لعوامل الازدهار والاستقرار، ويتعرّض لعملية إفقار تضع مجتمعه على حافة الانفجار، لا أجد شخصياً أي مخرج للأزمة غير منع الطرف الإسرائيلي من استخراج هذا الغاز قبل الاعتراف بحقوق لبنان البحرية المتمثّلة بالخط 29 وفق المسار القانوني والاتفاقيات الموقعة والوثائق المقدَّمة، ويتلخَّص هذا المنع في ضرب المقاومة لأي منشآت في حال تشييد إسرائيل لها، ولن تكون الخسائر التي سنتكبّدُها إن لم نحصل على حصتنا من هذه الثروة أقل من تلك التي سندفعها في تلك المواجهة العسكرية بل أكثر. وقد أعلن أخيراً رئيس كتلة نواب حزب الله عن موقفهم المشرّف من هذه المسألة، بعد أن تنازل أركان السلطة عن الخط، لأسباب مبهمة أو ربما من باب المناورة.
هل يسعى حزبا القوات والكتائب للنيل منك وكيف تواجه ذلك؟
ليس سراً رصد حزب القوات ميزانية غير متواضعة لتحقيق هذا الغرض، كما لم يكن سراً أداء عائلة الجميل ومتابعتهم لهذه القضية منذ البداية، وفي المقابل لا نجد جهة رسمية تتولى حمايتي أو الدفاع عني وعن ذويّ كما يظن البعض، فكان بالتالي لزاماً عليّ الدفاع عن نفسي حتى لا يحصل معي ما حصل ويحصل مع كل الاستشهاديين أو المضحّين في سبيل هذه الأمة، وقد وفّقتُ حتى الآن في ذلك.
كيف تقيّم الأداء عشية الانتخابات النيابية؟
من المؤسف ألا نرى مرشحين إصلاحيين حقيقيين ومستقلين بأعداد كافية لتغيير النظام الطائفي والفاسد. ومن المؤسف أيضاً أن نرى هذا الكم من التهافت والتشنج والكذب والافتراء، واستثماراً لكل عملٍ اجتماعي في السياسة، بينما اكتفى اللبنانيون من الساسة ووعودهم ويحتاجون اليوم إلى تفعيل العمل الاجتماعي أكثر من أي عمل آخر. أعتقد أن اللبنانيين يعرفون تاريخ وحاضر مرشحيهم ولا يجهلون انتماءاتهم وولاءاتهم. وبعدما حُسمت معالم التحالفات والكتل والخيارات، لا أجدُ حاجةً لعملية تقييم شاملة، إنما أكتفي بالتعليق على ما يُسمى بفريق 14 آذار أو ما بقي منه من خلال حملة القوات الانتخابية. إن الذين يؤيدون القوات لأسباب طائفية يتجاهلون تاريخها منذ نشأتها كوحدات عسكرية تجاوزت بدمويتِها كل أحزاب تلك المرحلة. ويحاول حزب القوات منذ أعوام تبييض صفحته في العمل السياسي والإداري بعد أن نقل البندقية من الكتف الإسرائيلي في زمن الحرب إلى الكتف السعودي في زمن السلم. والجميع يعلم الجهة التي مولت اجتياحات لبنان ومولت الأطراف الموالية لسياسة أميركا المؤيدة لإسرائيل في المنطقة والمخاصمة للمصلحة الوطنية، ورغم ذلك يصطفُ فريقٌ إسلامي آخر في هذا الخندق متجاهلاً بدوره ما جرى ويجري حتى بحقِّه. وهنا بدأوا بتبرير موقفهم بانحياز الطرف الآخر إلى إيران إلى حد رفع شعار الاحتلال الإيراني. ومع أنني لا أؤيدُ نفوذَ طائفةٍ أو حزب على المجتمع، فإن امتلاك حزبٍ ذي انتماء ديني قدرات عسكرية استُعملت لحماية البلاد وليس ضدّ أهلها، لا يعني أبداً أننا نعيشُ تحت انتداب إيراني أو كأن اللبنانيين سيغضّون الطرف عن إيران لو سلكت مسار معاداة لبنان. ليس من عاقل يقبلُ بكلامٍ كهذا.
وقد تمنيتُ من جهة ثانية، منذ أشهر، على أحد مسؤولي الحزب القومي أن يعلنوا عن موقفٍ حيال صدور حكم الإعدام كي لا يخسروا نسبةً مرتفعة من أصوات ناخبيهم في حال تحالفهم مع التيار الوطني الحر، وأن لا يتنازلوا عن دور الحزب وحقوقه، كما حصل مع القيادة السابقة لقاء الحفاظ على مواقع شخصية، أو أن يعزفوا عن المشاركة في الانتخابات إذا فُرض عليهم ما يشبه الرشوة الانتخابية، كي يعلنوا جهاراً انتصار فكر سعادة في تشخيصه لطبيعة النظام في لبنان وكي يتحولوا للعمل الاجتماعي. وفيما استمهلني هذا المسؤول وقتاً حتى يتمّ الاتفاق بحجة أن لا شيء محسوماً بعد، قدّرت أن الموقف لن يتعدّى الشكليات ولو تمّ الاتفاق، بحكم أنه لم يعد بإمكانهم فعل شيء في الملف الذي جرى تجاهله في الفترة السابقة التي كان من الممكن فعل شيء خلالها، وبعد أن بات الحزب في موقفٍ أضعف، خصوصاً أن كل ملفات الحرب أغلقت باستثناء هذا الملف. وقد شاهدنا بأُم العين ما توقَّعتهُ من تدهور حال العهد بعد إصدار الحكم لكسب أصوات مسيحية لم يكسبها بل انقلبت عليه، في وقت تطمح القيادة الحزبية الحالية لاستعادة كتلة نيابية فقدتها، علّها تحقق نجاحاً ولو محدوداً وتساهم في إحداث تغييرٍ ما، أو علّها تجري إحصاءً لأصواتها في مختلف الدوائر لتُحتسَب مع الحلفاء الافتراضيين في أية انتخابات مقبلة، نظراً إلى أن بعضَهم يهمّشُ دورَها، في الوقت الذي لم يؤسس الحزب عبر السنوات بنية تحتية للعمل الاجتماعي.
منذ 4 آب 2020 كثُرَ الحديث عن انفجار مرفأ بيروت وتداعياته.
لستُ خبير متفجرات ولا قاضياً، ولا ملفات أو معطيات بين يديّ، ولكن لديّ نظرة عموماً بمختلف الأمور. وعندما لاحظتُ عدم معرفة معظم القضاة والسياسيين بنيترات الأمونيوم وكيفية عملها، بحثتُ وراسلتُ واستفسرت عن هذه المواد. المسؤول الأول عن إدخال هذه المتفجرات هي الأمم المتحدة المسؤولة عملياً عن دخول أي مواد حربية منذ عام 2006 وفق القرار 1701. وليس سراً أن هذا القرار هدفَ لمنع حزب الله من إدخال الأسلحة ومواد مستخدمة في صناعة الصواريخ. أما إضاعة التحقيق بإلقاء اللوم على وزراء مدنيين وموظفي المرفأ، فغايته عدم إلزام الأمم المتحدة بالتعويض على المتضررين وبناء المرفأ من جديد، وليس خفياً من هي الجهة النافذة في لبنان التي تقرر وتُملي على معظم السياسيين والمسؤولين والعسكريين ما تريدُه، ولا قدرة لهم على معارضتها خشية العقوبات. إذا كان الهدف مقتصراً على عبور النيترات نحو موزمبيق، كما أُشير في الوثائق والبوالص، لماذا سمحت الأمم المتحدة بإدخالها إلى المرفأ، ولم تتابعها طيلة سبع سنوات؟ أشير هنا إلى عدم فائدة اتهام المستورد لأنه غير مسؤول عن القرار القضائي الذي سمحَ بإنزال واحتجاز 2750 طناً من النيترات طيلة 7 سنوات. والغريب في مسار التحقيق أنه لم يُكشف حتى الآن عن حيثيات ملفتة للنظر وكامنة في الفارق الزمني بين انتهاء عملية التلحيم واشتعال المفرقعات والمواد الحارقة، ولا كُشف عن لغز تخزين مواد تشكّل خطورة إلى جانب النيترات في العنبر 12 ذاته. وأسمح لنفسي بطرح سؤال مقتصر على الثغرة غير المفهومة الكامنة في الفارق الزمني بين عملية التلحيم التي حصلت قرابة الثالثة بعد الظهر واشتعال المفرقعات بعد انتهاء التلحيم بأكثر من ساعتين، ولوقتٍ طويل نسبياً قُدّر بـ30 إلى 45 دقيقة ريثما وصلت فرق الإطفاء والدفاع المدني، قبل اشتعال المواد الحارقة في العنبر وحدوث الانفجار، مما يثيرُ الريبة ويشير إلى عملٍ تخريبي وليس إلى إهمال كما يريد التحقيق إثباته للحصول على تعويض شركات التأمين التي لا تعوّض في حالات العمل الحربي أو التخريبي.
كيف ترى الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟
قرر الغرب منذ زمن محاصرة روسيا والمعسكر الشرقي السابق، وكتبتُ قليلاً عن ذلك سابقاً على مواقع التواصل. اليوم أرادوا محاصرة بوتين لأسباب استراتيجية ولانتزاع أوراق تعزز حربهم ذات الطابع الاقتصادي حتى الآن ضدّ الصين التي لا تُخفي حقَّها باستعادة جزيرة تايوان. من هنا دعمت الصين بشكلٍ غير مُعلن خطوة بوتين. وتذكّرني خطوته بسيناريو الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحجة تجريد المقاومة الفلسطينية من سلاحها، فيما سعوا مع حلفائهم اللبنانيين لانتخاب رئيس للجمهورية مطلق الصلاحيات وترك وديعة متمثلة في نظامٍ موالٍ لهم، لأن لا غطاء شرعياً لإسرائيل في لبنان، بهدف العبور في الخطوة التالية إلى دمشق وتحقيق سلامهم الخالي من أية حقوق. وعندما فشل مشروعهم بسبب مقتل بشير، ولد مؤتمر أوسلو الذي وصفه الرئيس الأسد بأنه ولِد ميتاً.
لقد استبق بوتين الهجمة عليه وأيّد إعلان الجمهوريتين الروسيتين في أوكرانيا ثم دخل إلى كييف من أقرب نقطة جغرافية لها ليس لمجرد احتلالها، بل لترك نظام فيها لا يعادي مصالح بلاده ولا يهدد أمنها القومي، مراهناً بذلك على انطلاق عملية تغيير النظام العالمي المفروض بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نحو نظامٍ جديد، ما يقتضي وقتاً ومواجهةً متعددة الوجوه وطويلة الأمد. وفيما لم يفعل ذلك السوريون واللبنانيون، ما أدّى للاجتياح واغتيال بشير، أكملوا بنفس الطريقة، أي لم يستفيدوا من مرحلة ما بعد الاجتياح لتفرضَ الأحزاب أو الحركة الوطنية مع الجيشين السوري واللبناني السيطرة العسكرية الكاملة على الأراضي اللبنانية، مما أطالَ سنوات الحرب.
لن أدخل الآن في تحليل الأسباب والخلفيات، إنما أرى أن خطوة بوتين التي كشفت عن مدى عنصرية الغرب وحرفيتَه في إدراج ثقافات ومصالح شعوب العالم ضمن قوالب جاهزة يفهمُها، والتي ستنعكس تصعيدياً على موقف دول عدة ممانعة أو رافضة للنظام العالمي المفروض من الولايات المتحدة وأتباعِها، ستعزز في النهاية وصول المفاوضات النووية مع إيران إلى خواتيمها.