تعاني المجتمعات الضعيفة والمتخلفة في معظمها حالة بلبلة وضياع في هويتها القومية، وتظهر الهويات القاتلة والمستندة إلى عصبيات بدائية وأوهام وغرائز الخوف ومناخ الجهل، تظهر في ميدان الصراع الايديولوجي والسياسي أدوات فتاكة تستغلها القوى الخارجية لتحقيق مصالحها وأطماعها وتعمل على ضرب مصالح المجتمع الحقيقية وعلى تدمير مقومات حياته وأسس وجوده.
يشير مصطلح الهوية الى مجموعة عناصر أساسية تتصف بدرجة عالية من الثبات وتحدد المعني بهذه الهوية سواء أكان شخصاً أم جماعة أم مجتمعاً. وتشكل الهوية القومية المستوى الأعلى للهوية، وهي المحددة لشخصية المجتمع وقضيته وحقوقه ومصالحه الكبرى تجاه المجتمعات الأخرى والحاضنة والمحددة لحقوق ومصالح الأفراد والجماعات وهوياتهم في داخل المجتمع.
لبنان مسيحي، لبنان مسلم، لبنان فينيقي، لبنان ذو وجه عربي، لبنان عربي، لبنان مسيحي ــ إسلامي، لبنان تعدّدي، لبنان العجيبة والصيغة المدهشة، لبنان الملجأ، لبنان حروب الاقتتال الداخلي، لبنان ساحة حروب الآخرين، ساحة صراع القوى الاقليمية والدولية حيث يؤجر كل قائد مجموعة وتجمّع إمكاناته وجماعته لإحدى هذه القوى ويصبح قرارنا ومصيرنا رهينة بيد القوى الخارجية.
لا يختلف لبنان عن محيطه الجغرافي في العناصر المكونة لجماعاته، من حيث الأصول الإثنية ولا من حيث اللغة أو الثقافة. وعمرانه يتصل مباشرة بالعمران المحيط. الطوائف والمذاهب التي تنتمي إليها جماعاته تشكل امتداداً وتواصلاً مع جماعات المحيط.
إن ما يميز لبنان عن محيطه هو بكل وضوح وصراحة تركّز نسبة عالية من المسيحيين فيه، وخاصة الموارنة. وهذا التميز ما كان ليشكل أهمية تذكر، لو أن الحقوق والحريات المدنية والسياسية كانت متوافرة للجميع. مع العلم أن هذه المشكلة كانت عامة ويعانيها معظم الناس ولكن حضورها عند المسيحيين كان أكبر بسبب الاختلاف الديني والتمييز والشعور بالحرمان والوعي المتنامي بالحقوق المدنية والسياسية.
الدول الغربية الناهضة بفعل الثورات الفكرية والسياسية والصناعية، حققت كل منها تباعاً الوحدة الوطنية والقومية كما حققت دولتها الديموقراطية الحديثة على أساس المواطنة وحكم القانون والمؤسسات. كانت تلك الدول قومية وديموقراطية على مستوى الداخل، وإمبراطورية واستعمارية على مستوى الخارج، تحكمها ازدواجية القيم والمعايير، وفيما كانت تعمل على تعزيز وحدتها الداخلية، كانت تعمل على تمزيق المجتمعات التي هي محط أطماعها واستهدافها، وعلى إذكاء التناقضات الداخلية والعصبيات المحلية. لا يمكن عزل الخارج الاستعماري عن تكوين هوية العديد من الكيانات السياسية في المنطقة. وكما وجد هذا الخارج ضالته في العصبيات الإثنية والطائفية والمذهبية، فقد وجدت فيه بعض القوى المحلية سنداً لتحقيق أحلامها وطموحاتها الفئوية والخاصة.
ما هي هوية لبنان؟ وهل يمكن تغييرها بسرعة وسهولة كما نغيّر ثيابنا؟
الموارنة هم العنصر البشري الغالب في متصرفية جبل لبنان 1861، يقول المؤرخ المطران يوسف الدبس في موسوعته التاريخية (تاريخ سوريا الديني والدنيوي): ما الموارنة إلا سريان سوريون.
لقد فاخر رواد النهضة العربية (معظمهم من المسيحيين الموارنة)، بسوريتهم وعروبتهم وكانوا طليعة المفكرين التنويريين الداعين الى الحداثة والانفتاح.
هذه الهوية التي فاخر بها الموارنة منذ نشأتهم حتى بداية القرن العشرين، في كتابات الأدباء والشعراء والعلماء والمؤرخين وكانت تعبيراً عفوياً عن شعور الناس وانتمائهم، جرى شطبها ومحاربتها وأصبحت الهوية محض لبنانية، وأصبحت كلمة لبنان مرادفة لكلمة مسيحي عامة وماروني بشكل خاص. (قال أحد رجال الدين المسيحي: عندما يسأل الشخص هل أنت مسيحي؟ يجيب عادة: نعم بنعمة الله تعالى أنا مسيحي. يجب أن يضيف الى هذه العبارة: وأحب وطني لبنان).
1920 ــ لبنان الكبير أضاف الى متصرفية جبل لبنان ملحقات زادت مساحته أكثر من الضعف وأحدثت خللاً في الديموغرافيا الطائفية المعتمدة في أساس النظام السياسي.
القومية اللبنانية والأصل الفينيقي للبنان، اكتشافان ينحصران في قسم من الدائرة المسيحية.
لم يقتنع المسلمون بهذه الاكتشافات وتردّدوا كثيراً في قبول الهوية اللبنانية، وعبّروا في المؤتمرات والتظاهرات والكتابات عن تمسّكهم بالوحدة السورية والعربية. وتبقى أحلام الوحدة والتحرر والعدالة ومقاومة الظلم والاستعمار والصهيونية هي أحلام الغالبية من الناس.
1943 ــ الميثاق. لا للغرب (المسيحيون)، لا للوحدة السورية أو العربية (المسلمون). هوية لبنان تبنى على نفيين.
الهوية تبنى على الإيجاب لا على النفي.
لبنان ذو وجه عربي، عبارة ملتبسة لم ترض رافضي العروبة ولا مؤيديها.
النظام الطائفي يدخل الطائفية في كل شرايين المجتمع والدولة، الأحزاب والحركات الكبرى تتمترس في الطوائف والأحزاب، والقوى العلمانية تقف في الصفوف الخلفية عاجزة. صيغة النظام الطائفي تنهار في دورات عنف متتالية، تكون النتيجة دماراً كبيراً في مؤسسات المجتمع والدولة ويقارب عدد القتلى والجرحى عشرة في المائة من عدد السكان (نسبة مرعبة) ويهاجر القسم الأكبر من الشباب. ويُبعث النظام الطائفي بشكل أقوى وأبشع. ويعود أمراء الحرب والطوائف من دون غسل أيديهم.
اللبنانيون يتكلمون لغة ولهجة واحدة. قيمهم وتعاليمهم الدينية هي واحدة في المسيحية والإسلام. لا يمكن التمييز بينهم ثقافياً على أساس الدين. ولا يمكن التمييز بينهم في الشكل على هذا الأساس. أصولهم الاجتماعية واحدة. والانقسامات المذهبية لا تتبع الانقسامات الإثنية.
العصبية الطائفية والمذهبية تنتج هوية قاتلة تدمر الطائفة والمذهب والوطن.
نحن في حاجة إلى عصبية وطنية وقومية تلغي الحواجز بين أبناء المجتمع الواحد تتعصب لحقوق الوطن ومصالحه وتنفتح على العالم تفاعلاً إيجابياً وإسهاماً فاعلاً في الثقافة الانسانية.
لبنان لا يمكن أن يكون متناقضاًَ مع محيطه ولا ملحقاً بمشاريع الخارج. ثقافة الانعزال والاستتباع تدمره. لبنان جزء من محيط طبيعي لا يمكن تجاهله والتنكر له. والمحافظة على الهوية والدفاع عنها يكونان في مواجهة ومقاومة المشاريع الأجنبية التي تستهدف بطبيعتها الوجود المرتبط بهذه الهوية.
انتمائي العائلي جزء من هويتي، وكذلك انتمائي المذهبي والديني والسياسي والثقافي والمناطقي، ولكن انتمائي لدولة ووطن، لأمة، انتمائي القومي الذي أتساوى فيه مع سائر المواطنين، هو المستوى الأعلى المحدد لهويتي وحقوقي. ان الإجابة عن سؤال من نحن؟ يشكل التحديد الأبرز للهوية في واقعها الفعلي الذي يعيشه الناس ويشعرون به.
إذا سألنا اللبنانيين هذا السؤال لحصلنا على إجابات متعددة لا يشفع فيها رفع العلم الواحد: سنة، شيعة، موارنة، دروز، أرثوذكس، أرمن. . . فمتى نكون لبنانيين؟ ويكون لبنان درعاً في الدفاع عن قضايا الأمة والعروبة على مستوى المجتمع والدولة والسلطة، وذلك لمصلحته أولاً؟