شهِدَتْ بلادنا خلال الأسبوع الجاري جفاف ياسمينة شامية تخطَّى ضَوعُها القرنَ الكامل. ولم يكن سهلاً، حتى على مدمِنِي وسائل التواصل، أن يرتجلوا رأياً أو ينقلوا انطباعاً أو يُعربوا عن موقف من الفقيد النوعي، خصوصاً متى كان بعضهم من غير المُجايلين أو المُتَيَقّنين. ورغم ذلك نطقَ بعضُهم بالحق، وبعضُهم الآخَر بالمقاربة الخاطئة. لكنْ ربما صَعُب حتى على العارفين القريبين أن يُدلُوا بِدَلوٍ محفوفٍ بالدقائق والمزالق.
كان نَفَر من المحازبين ومن المؤلفة قلوبهم ينظرون إلى القيادي الراحل عصام المحايري نظرة إنطباعية وأحياناً أفقية، محكومة بسقف الكيمياء الموفورة أو المفقودة، من دون أنْ يُتيحوا لأنفسهم فرصة التعرّف عن كثب على شخصية دمثة حتى التواضع الجَمّ، وصلبةٍ كجبال الصوّان، شخصية يتميز صاحبُها بسعة الأفق والتجربة الصراعية المختمرة بالنظر والإختبار، وبثقافة غذّاها الفكرُ السياسي- الفلسفي وعِلمُ الإجتماع والثقافة التاريخية التي تقرأ الأديان والأحداث والوقائع بعين الإنفتاح على المعرفة لا على الانتصار الوهمي. لذلك كان دقيق الملاحظة، يستمدها من بصيرةٍ مُتفكّرة ومِنْ قراءاتٍ ومحاورات. ولم تكن أعصابه الفولاذية وصبره إيذاناً دائماً بالهدوء بمقدار ما كانت أحياناً مؤشراً إلى العصف النَّصُوح.
بدأ نجمُ الشاب سليل العائلة الدمشقية العريقة بالسطوع في مطلع الخمسينات، حينما اختاره الناخبون نائباً في مجلس الشعب، بعد جريمة التآمر المشينة على الزعيم أنطون سعاده. وصحيح أن اسمه ارتبط منذ شبابه بمنفذية دمشق، إلا أن ذلك الإسم كان أكثر ارتباطاً بمؤسسات الحزب العليا، ولم يكن انتخابه لعدة مرات رئيساً للحزب سوى ترجمة عملية لذلك الارتباط الذي لم ينفصم سواء في الحزب المُوَحد أو في الإنشقاقات. وأبو باسل من كوكبة الرعيل المتقدم الذي حمل "الرتبة العُليا" في مسيرة ملحمية كانت رتبة "الأمانة" إزاءها مصبوغة بلون الكفاح القاني حيث تَطيب وُعُورة الطريق ومغامرات التضحية وملاحمُ الصمود ومراراتُ السجون، من دون أن ننسى شرط التفوق في فَهم العقيدة، وشرطَ الأخلاق الذي لا معنى لنهضة من دونه.
كان الراحل الكبير مأخوذاً بريادة "سعاده" وفي الوقت نفسه بخصب التربة التي نبتَ منها وانسكبَ فيها، كما كان مأخوذاً بعلامات مضيئة في بطولات أمتنا المعاصرة من البطل الشهيد يوسف العظمة إلى قائد الثورة السورية الكبرى سلطان الأطرش إلى المجاهد صالح العلي. ومِن قريبه المناضل عبد الرحمن الشهبندر إلى المكافح الوطني إبراهيم هنانو. لذلك كان أبو باسل في طليعة المؤمنين لشعبنا بالخط المبدئي المقاوِم للاحتلال المعادي، من الشمال السوري الذي ما زال المُحتل التركي يمعِن في قضم أرضه وثرواته إلى الجنوب السوري الذي ما زال المحتل الصهيوني يصادر أرضه وينهب ثرواته ويعتدي على سيادته. وقد قرأ الأمين محايري، مبكّراً، في الحركة التصحيحية عام 1970 نهجاً أصيلاً يعَبّر عن قدرة كامنة أتيح لها أن تتبلور، في الرؤية السياسية الثاقبة لدور سورية الإقليمي والدولي، وهو دور استكمله الرئيس بشار الأسد بالقرار الجريء الحاسم، إلى أن حطّت المؤامرة الكبرى الأخيرة رحالها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً لإجهاض الدور الحيوي الذي اضطلعتْ به دمشق على المستويين القومي والإقليمي. وقد جرى تتويج مرحلة العلاقة الثنائية العضوية بين الجمهورية العربية السورية والحزب السوري القومي الاجتماعي بقرار تعيين المحايري أول ممثل للحزب في القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية وذلك بعد جرح الخمسينات الأليم، الذي وصف الراحل مرتكبيه بِدُعاة إنعاش الجاهلية.
ولسنا هنا في صدد الدفاع عن أخطاء محددة يمكن أن يقع فيها أي سياسي أو مسؤول حزبي، كما أننا لسنا في مساحة مقارنة بين الحركة الوطنية في لبنان وبين الجبهة القومية التي كان المحايري، إلى جانب قوى حليفة، من مؤسسيها بوصفه رئيساً للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تماهى فريق منه مع منظمة التحرير الفلسطينية في حين التزم الفريق الآخَر خيار التحالف الاستراتيجي مع دمشق...صحيح أن الرجل تميز بالواقعية السياسية إلا أنه لم يكن ليساوم على خطّ ولا على موقع.
لم يُصدِر الراحل الكبير مؤلفات على الرغم من انخراطه في مسيرة شائكة وطويلة، بل من اطلاعه الأكيد أو من مشاركته في عدة انعطافات مفصلية، لكنه أصدر الكثير من البيانات والمقالات والأبحاث نذكُر منها دراسة عن مفهوم العروبة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأخرى عن العلمانية والدِّين. لكنني، من موقع المُطِلّ المتواضع، سأتطرق إلى مشاهدات عينية أربع. تتطرق الأولى إلى توجيه معاونيه بنصيحة عدم اتخاذ أي قرار إداري إلا بعد تَبَصُّر جِدّيّ بالنتائج التي يمكن أن تُسفر عنه وإلا فما جدوى القرار؟ وتتطرق المشاهدة الثانية إلى تَحَدُّثنا مرةً عن كتاب لمصطفى جحا بعنوان "محنة العقل في الإسلام" فأفادني أبو باسل أنه سمع بالكتاب ولم يقرأه لكنْ يعنيه كثيراً الاطّلاع عليه. وكان ذلك الكتاب الذي صَدَرَ في سعير الحرب اللبنانية، يُوزّع بخَفَرٍ وخجل من قِبَل أشخاص متنكرين أوصلَ لي أحدهم نسخة منه فقدّمتُها للرئيس المحايري الذي كنتُ أتوقّع ردّة فعله قبل أن يقول بعد أيام: "لم أستطع إكمال القراءة"، ذلك أنه لم يكن يتقبّل التهجم على أيّة ديانة من الأديان حتى لو تّوّشحَ التهجم بمراجع تاريخية. أما المشاهدة الثالثة فتتناول اتصاله مرة برئيس جهاز الأمن والإستطلاع في لبنان العميد غازي كنعان (قبل أن يرتقي إلى رتبة لواء) وذلك لشأنٍ عام، فردّ كنعان بنفسه على الرقم الأرضي لأن الهاتف الخلويّ لم يكن قد تَعَمّمَ بعد، مُنكِراً وجود الشخص المطلوب، برغم أن المتصِل يعرف صوته جيداً، فأقفل المحايري الخط باستياء وانقطع التواصل بين الرجُلين إلى أن غادر كنعان لبنان بل إلى أن فارق الحياة. أما المشاهدة الثالثة التي تكررتْ، وقد رافقتُه غير مرة إلى زيارة رؤساء حكومات سورية أو أمناء عامين مساعدين لحزب البعث العربي الإشتراكي، فتتجلى في رمزية تقديره إذْ إنه بعد انتهاء الزيارة التي يتضح خلالها حجمُ الإحترام المتبادل، كان بعض أولئك المسؤولين الكبار يرافقوننا حتى باب السيارة خارج المبنى ليصافحوا المحايري وهُمْ يقولون له: "ستبقى أستاذنا".
لم يفتر لديه الحنين يوماً إلى عاصمة الأمويين حتى حين شهد العقدُ العاشر من عمره إقامة عائلية في دولة الإمارات التي أحَبّ فيها شعبها وأمانها والإستقرار. وما مِن شك في أنه عاش عمراً مديداً استغرق معظمه في النهضة التي لم تغيّرْ مجرى التاريخ وإنْ كتبتْ تعثراتُها الكثيرَ من صفحاته، وباستثناء حاسة السمع المتثاقلة لديه كان عمره بَهياً حتى في مظاهر الشيخوخة الإنسانية التي بقي فيها العقل متوقّداً، والكرامة موفورة.
وداعاً أبا باسل،
ستفتقدك عائلتك الراقية زوجةً وكريمةً ونَجليْن، وستفتقدك العائلة الكبرى والحزبُ المأزوم..... ستنكسر ذاكرة في الشام ما إنْ تنكسر إحدى سندياناتها التاريخية لأنّ الزمن سياقُ تأجُّجات. سيدمع الياسمين الدمشقي الذي يخفت ضَوْعه كلما جفّ ينبوعٌ من ينابيع الفوح في بَرَدَى، وكلما سقطتْ من قاسيونه صخرةُ عِزّ ومِن حرمونه نفحةُ عنفوان. لكنّ كُلاً من مُحِبّيكَ سيردد مع أمين نخلة: "ربما أطبقْتُ أجفاني لكيْ أغمر الوهم وأستبقِي اللقاءْ".