عن سعادة وفكره… واستشهاده
جولييت المير سعادة في حوار مع محمّد الفيتوري
[هذا الحوار استثنائي، بطَرَفيه، ومضمونه، ولغته، ومنهجه. دون أدنى شكّ يمكن القول: إنّه لقاء تاريخي. محمّد الفيتوري شاعر افريقيا هو المحاور وجولييت المير سعادة / الأمينة الأولى هي المُحَاوَرة. اللقاء تمَّ في بيروت في آذار من العام 1976، أي في ذروة معاناة الأمينة الأولى من مرضها العضال، وقبل وفاتها بثلاثة أشهر. كانت أليسار إلى جانبها وفق ما يشير الفيتوري.
الفيتوري، يبدو مُشبعاً من فكر سعادة، عارفاً مقاصده وما يرمي إليه… ترشح من كلماته وعباراته أطياف من الحب العميق والتعظيم الجليل لـ (دم الخلاص) الواصل إلى صليب المسيح.
الأمينة الأولى تكابد وتحاول أن تتغلب على آلامها كي تُجيب على الأسئلة … وكأنها تخاف أن يتسبب ضعفها الجسدي في خدش صورة أو فكرة أو عبارة تعود لسعادة… عندما يتعلق الأمر بسعادة تنتفض حياةً نابضةً آذاريّة فوّاحة…
منهج الحوار مركّب، بمقدمته، وأسئلته، وتعقيباته، وتعليقاته.
حوار استثنائي عن أنطون سعادة، وحياته، وفكره، وتأثيره، وعلاقته بزوجته… واستشهاده]
مقدمة
قدّم الشاعر محمّد الفيتوري الأمينة الأولى على هذا النحو:
أن تعتبر نفسك جزءاً من كل، أن تتوحّد مع الألم الكلّي، أن تضع برنامجاً للعمل يلغي كل أسباب الآلام، أن تقرر الاصطدام بكل هذه الأسباب، أن يؤازرك في الصدام من استطاعوا نصب الأسلاك بين معاناة “الأنا” ومعاناة “الكل”، أن تموت واقفاً، أن يبقى بعدك من يشهد عليك ويتابع… تلك هي باختصار دلائل قيام “الزعيم”.
هنا جولييت المير سعادة، زوجة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، تتذكر وتحكي في ميلاد زوجها، وهي هنا الشهادة الكليّة على كل شيء… وهي الشهادة قبل كل شيء حيث الحب الذي لا يتوقف هو الدافع وهو الباعث على كل شهادة أو على كل كلام.
قبل قرابة ألفي عام، استيقظ طغاة العصر، في أورشليم القديمة، على صوته الحزين المتألق بالحب والنبوة، فأنكروه، وحقدوا عليه. واجتمعت كل مفاسد العصر ضده، ولكي يتخلصوا منه إلى الأبد، عقدوا له محاكمة ظالمة، وعلّقوه عارياً على الصليب.
وحين شاهدت الأم، جسد ابنها المصلوب، يتأرجح في الهواء، لم يكن بإمكانها إلاّ أن تبكي كثيراً، وأن تحزن كثيراً.
أمّا هو، فقد كان يعرف – حتى بعد موته – أنّ دعوته، سوف تنتصر، وتضيء ظلمة العصر، وأنّ دمه وحده، كان ثمن خلاص العالم.
وقبل قرابة ألف عام، أوقف الطغاة والمفسدون، رجلاً آخر، نفس الموقف. اتهموه بالشرك والزندقة، وطعنوا في شرفه، وسجنوه، وجلدوه بالسوط (ألف جلدة). طعنوه بالسيف وقطعوا يديه ورجليه. ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه (على سور السجن الجديد)، وأحرقوا جثته. ولمّا صار رماداً ألقوه في مياه دجلة.
(لقد أفشى الأسرار الإلهية، ولهذا فإنني لا أبكيه)، هكذا قالت أخت الحلّاج الصوفيّ المصلوب. تلك التي كانت لعظم جمالها، واكتمال شخصيتها، تحتقر الرجال، وتلاقيهم بوجهها، دون أيّ حجاب. أمّا الحلّاج نفسه، فقد كان واثقاً من أنّ كل ما حدث له، سوف يحدث له.
كان الشيخ الذي واجه التعذيب والصلب، وهو في الخامسة والستين من عمره، قد أبصر قبل ذلك بأعوام كيف ستكون نهايته: (على دين المسيح يكون صليبي).
ترى، هل كان الحلّاج مجرد صوفي كبير، تجرّأ على الذات الإلهية، فأفشى أمام العامّة، ما خصته به من أسرار؟ هذا ما قالته أخته وقاله آخرون. أم ترى أنّه كان شيئاً أكبر من كل ذلك؟ كان داعية ومفكّراً اجتماعياً، تبنّى فكر الثورة ضد الدولة العباسية، وعمل مع ثوار عصره (القرامطة) من أجل إسقاطها، بعد أن تآكلتها عوامل الفساد والانهيار والتحليل، وبعد أن تحولت إلى سلطة بطش وإذلال واستنزاف لطاقات ومصالح الجماهير!
وسواء كان مقتل الحلّاج – على هذه الصورة البشعة – بسبب شطحاته الجريئة. بوصفه عاشقاً صوفيّاً، أو بسبب أفكاره “الهدّامة” بوصفه ثائراً اجتماعياً، فإنّ قيمته التاريخية، إنّما تكون في هذا الضوء العظيم، الذي توهّج بانبثاق دمه، فكشف الحقيقة، التي أبصرها، وآمن بها وجعلها إرثاً مشاعاً، للمساكين من بعده.
أن يستقبل إنسان، قدره القاسي (الحكم بالموت) حيث لا يكون أمامه، إلاّ أن يستقبل قدره، ثم لا يستجدي شفقة جلاديه، ولا تسقط عقيدته، تحت قدميه، أن لا يقبل إلا بمستوى الاستشهاد تلك إحدى أسمى مراتب البطولة.
وفي عذابات هذه المرحلة، من نضالات أمتنا، تستوقفنا بضع شخصيات من هذا الطراز، عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد، وفرج الله الحلو، وأنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وصاحب الدعوة المبكّرة، إلى الوحدة القومية، والحرية الاجتماعية، وتحطيم هياكل التعصبات الدينية، ونعرات الانعزالية والانفصال.
نَص الحوار
الانتقام لسعادة هكذا يكون
كانت السيدة جولييت المير، الأمينة الأولى، وأرملة الزعيم أنطون سعادة مستغرقة في ذكرياتها، حين أيقظتها على كلمة “المأساة” تبدلت ملامح وجهها الإنساني العميق، وتخالطت في وجهها عشرات المشاعر. هل تذكرت شيئاً فبكت، وتذكرت شيئاً آخر، فابتسمت؟!
ربما كنت أحسّ بعنف هذه الأحاسيس، وثقل وقع الذكريات على نفسك، اعتذر يا سيدتي الأمينة، لأنّي أثّرت فيك، ما قد يكون ألمك من خواطر وذكريات! سأستبدل السؤال.
وتابعت الأمينة الأولى:
ولقد سألتني عن موقفي النفسي، بعد غياب الزعيم، لقد تآمروا جميعهم عليه، وقتلوه على هذا النحو الذي سجلته صفحات التاريخ، وأنا كإنسانة، وكامرأة، وكزوجة، لم يكن بمقدوري، أن أحتمل ما هو فوق طاقة البشر.. بكيت؟ نعم بكيت.. رفضت أن أصدّق أنهم قتلوا الأمة. شعرت بصدق أننا فقدنا الرجل المنقذ للأمة.
اعتراني شعور هائل بالخوف والضياع، أدرت وجهي يميناً ويساراً، وكنت سجينة فلم أعرف ماذا أفعل؟ لقد كان الغباء الذي يسود المرحلة، أذكى قليلاً من طبيعته، هل كان حكّام الأنظمة التي دبّرت المؤامرة حينذاك، أذكياء على غير طبيعتهم؟ وإلاّ لماذا سجنوني يوم أن وضعوا قدميه المقيدتين، على درج الموت!!
إنّ “دير صيدنايا” الذي سجنوني فيه، رآني حينذاك، كما لم يرَ امرأة من قبل. وفكّرت أن أرمي بنفسي، من أعلى الدير إلى الهاوية، كان بإمكاني أن أفعل ذلك، ولكنّي ساعة التنفيذ، توقفت، لقد تذكرت تعاليم سعادة، وتذكرت أولادي، وأسندت قلبي بيدي.. وانكمشت في إحدى زوايا سجني.. ومرت الأيام قاسية وسوداء.. ثم نما في روحي شعور بالظلم والإجحاف وكذب العدالة.. ثم أحسست أنّ هناك امرأة أخرى، تولد وتنمو بداخلي.. امرأة شرسة، حاقدة ومنتقمة.. إنّه لا بدّ لي من أن انتقم من القتلة.. بودّي أن أقابلهم واحداً واحداً.. وأن لا أكتفي بالبصق في وجوههم.. لم أعد أهاب أحداً من بعد..
ثم جاءت المرحلة التالية، مرحلة التفكير في تلاميذ سعادة الكثيرين، أولئك الذين شاركوني الشعور بفقدانه، ومن ثم بدأت روحي تعرف الهدوء، وقررت أن أكون أمّاً لهم جميعاً، وأن نسعى جميعاً، لانتصار القضية، وكان هذا أكبر انتقام.
الطريق إلى قلب سعادة
أجابت في حدة:
قلت لها:
قالت:
أما الحديث، عن تلك السيدة العظيمة، التي وهبته لأمته، فالذي أؤكده، هو ما كان يؤكد عليه دائماً، في مذكراته، وفي حياته، حول أهميتها البالغة في تكوين شخصيته، وأذكر أنه كان دائماً، يكرر قوله: (لو لم أفقد والدتي، منذ الصغر، لكنت أسعد الرجال). لكم كان يحبها، كانت والدته هي حبه الكبير، الذي أفتقده، وظلّ عائشاً في روحه، فقد كان عمره، عشرة سنوات.
قلت:
قالت:
كلنا مسلمون…
قلت:
قالت:
لقد عكف سعادة في مقالاته، وفي كتابه المشار إليه، على تحليل ظاهرة الدين، وخطورة التعصب الديني، الذي يسيء إلى وحدة الأمة، وينحرف بحقيقة الصراع. ولقد صرخ سعادة بمقولته المشهورة “كلنا مسلمون” في وجوه أولئكم الشعراء الاستغلاليين. شعراء الانحياز الأعمى، الذي بلغ من نفاقهم، تمجيد انتماء ديني، ضد انتماء ديني آخر، كما استطاع أن يبرز التقارب الجوهري، بين المسيحية والإسلام. وبالطبع فلقد كان لأولئك أنصار متحزبون، هاجموا الكتاب، وانتقدوه بعنف عند ظهوره.
بين الشعر والشعراء
قلت:
في اللاذقية ضجة
ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق
وذا بمئذنة يصيح
غلب الخلاف عليهم
يا ليت شعري ما الصحيح؟
قالت الأمينة الأولى:
كالبركان عندما يثور
قلت لها:
قالت:
وفي خجل وروعة ابتسمت الأمينة الأولى وتابعت:
موقف خاص بي، أذكره بعد أن أثبتت الأيام، كم كان سعادة، ينظر إلى البعيد.. لقد كان يعلمني قواعد اللغة العربية، ولصعوبتها كنت، في بعض الأحيان، أنسى القاعدة فأخطئ. وتثور ثائرة سعادة ويصرخ في وجهي:
يجب أن لا تكرري هذا الخطأ. إنّ هذه اللغة، سوف تكون لغتك الوحيدة في المستقبل، وأعتذر عن الخطأ وأعده بتلافيه.
بالمناسبة، لقد كنا حينذاك في الأرجنتين، واضطررنا للبقاء فيها، بسبب نشوب الحرب، وكان سعادة يرفض الحديث بغير اللغة العربية، ويصرّ على أن نتكلم – أنا وبناتي الصغار- كي نخاطبه بها. حتى ابنتي أليسار (كنت أجلس إلى جانبها ساعة إجراء الحديث) وكان عمرها سنتين، طالما أدهشتني، لشدة تأثرها بأبيها، خاصة وهي تردد أغنية طفولتها المفضّلة وبلغتها العربية الفصحى:
زورق في البحر يسري
حاملاً كنزاً ثميناً
قبس فيه يضيء
منظر يسبي العيونا
الإرادة الحازمة في مواجهة السم
وأزهرت الابتسامة، على شفتي السيدة، المستوحدة بجمال الوقار والتواضع وقلت:
قالت:
وأيضاً الطبيعة، كان سعادة يحب أن يطيل الوقوف أمامها، ويكاد يلتصق بها التصاقاً، كان يعيشها، ويعيش فيها، ويعيش معها، حتى لقد كان يخيّل لي أنّه جزء من الطبيعة في القوة، وفي الخير، وفي العطاء.
قلت:
قالت:
وذات مرة، واجهوه بأحقادهم، طلبوا إليه أن يشرب السم، وأن يكتب على نفسه، أنه انتحر.. وأدرك الزعيم نواياهم، وإصرارهم على التخلص منه، فصدهم بإصراره، وقوة إرادته، وكان جوابه، أنهم لو أسقطوا شعرة واحدة من رأسه، سوف يدفعون الثمن غالياً، وقد دفعوه.
قلت:
قالت:
إنّ سعادة، في كلمته يطالب الجماهير بضرورة التسلّح بالوعي والفهم العميق الذي يتجاوز حدود الأنانية والعصبيات، إنّه يرمي إلى القضاء على الروح العنصرية، وكل ما يتولد عنها، من أفكار فردية وشوفينية. إنّ الدين عنده قضية شخصية، لا ينبغي لنا، أن نسمح لها، بالتأثير على وحدة ومصير المجتمع، إنّ الفرد يستطيع أن يتمسك بإيمانه دون أن يطغي هذا الإيمان، على إيمانه الأول بقوميته.
***
كان سعادة حاضراً بروحه، وكان تمثاله البرونزي، الواقف إلى يمينها، ما يزال مصوّباً نظراته إلى الأمام. وكنت أعرف ظروفها الصعبة…
وكان موعد ذهابها إلى فراشها قد حان.. لذلك طلبت إليها أن تأذن لي بالاكتفاء.. إنني أعرف أنّ سعادتها باسترجاع ذكرياتها، قد تكلّفها من العناء والجهد فوق ما تطيق، ودعتها. ثم خرجت، بينما احتلت ذهني منها ملامح وقسمات وجهها العميق التجارب والجراحات، وصوتها المفعم بالثقة والاطمئنان.
————————————————————-
تنويه: نشرت مجلة الديار- كانت مجلة يرأس تحريرها ياسر هواري – هذا الحوار في آذار 1976، ثم نشرته مجلة صباح الخير – البناء، العدد 637 – 25 حزيران .1988