لم يكن أنطون سعاده ملحداً، وفلسَفَتُهُ المدرحية التي جاءَ بها لم تكن إلا تعبيراً وإيماناً بالتجربة الروحية للإنسان في المنطقة منذ بدايتها وامتدادها على آلاف السنين وانتهاءً بالوحدانية من خلال الأديان السماوية.
فما هي هذه التجربة الروحية لإنسان المشرق السوراقي وما علاقتها بالمدرحية وبالركب الحضاري؟
التجربة الروحية في المشرق السوراقي تجربةٌ واحدة تكرَّرَتْ في الملاحم التي وَصَلتنا، وأصبحت في ما بعد كونيَّة. ففي مقدمة كتابهما «بعل هدّاد»، يقولُ الدكتوران حسني حَدّاد وسليم مجاعص إنَّ «الآلهة السورية القديمة لم تكن آلهة محلِّيّة فحسب، بل آلهة كونيَّة، وإنَّ البعل هدّاد، بطلَ هذه الأساطير... معروفٌ في جميعِ أنحاء الهلال الخصيب والحضارات المجاورة، وإنَّ عبادته قد دامت في العصور الإغريقية والرومانية، وإنَّهُ، بصفته الإله الذي يموت ويعودُ إلى الحياة، قد ترك أثراً لا يُمحى على المسيحية». ويروي لنا المؤرخُ فراس السواح هذه القصة عن أحد زُمَلائه المؤرخين:
"توقّفنا بين خرائب القصر القديم، قرب عمودٍ مربَّعٍ من الجصِّ المصقول، في قمَّتِهِ العلامةُ المقدّسةُ منقوشة: الفأس ذات الحدَّيْن. ضَمَّ الأبُ كَفَّيهِ وحنى ركبتيه لحظةً، ثمَّ حَرَّكَ شَفَتَيهِ وكأنَّهُ يُصَلَّي. استغْرَبْتُهُ وسألتُهُ: ماذا؟ أَتُصَلّي؟ فقال: نعم، يا صديقي الشاب. كُلُّ شعبٍ وكلُّ عصرٍ يمنحَهُ اللهُ قِناعهُ الخاص به. ولكن وراء الأقنعة كلها في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ عرقٍ يبقى اللهُ هو ذاته، اللهُ الدائمُ الذي لا يتغيّر. إنَّ لنا الصليب شارة مقدَّسة لنا. وأجدادُكَ الأقدمون، في كريت، كانت لهم الفأس ذاتُ الحدَّين. لكنني أُنحِّي جانباً هذه الرموزَ الفانية، وأتَحسّسُ اللهَ وراءَ الصليبِ ووراء الفأسِ...» (ص 9).
وفي مكان آخر يقولُ السوّاح: «لقد كان همّي، دوماً، التعبير عن وحدة التجربة الروحية للإنسان عبرَ التاريخ»، والدينُ «كَدْحٌ من الإنسان لِتَلَمُّسِ مقاصدِ القدرة الإلهية»، و«إنَّ لقاء الإلهيِّ بالإنسانيِّ قائِمٌ عبر تاريخ الإنسان الروحي» (مغامرة العقل الأولى، ص 8).
يَتَكَلَّمُ عن القدرة الإلهية ومقاصدها من خلال لقاءٍ إلهيٍّ إنسانِيّ، وهذا تلميحٌ، لا بل هو جَزْمٌ، بأنّ تلاحُمَ الروح والمادة قديمٌ، وهو سُنَّة الكون.
يقولُ الأمين إدمون ملحم في دراسته عن المدرحية: «المدرحية هي فلسفةٌ اجتماعية جديدة تتناولُ الإنسانَ بحقيقَتِهِ الاجتماعية، والقيمِ الإنسانيَّة وقضايا الوجودِ الإنسانيِّ وتطورِه». وفي ثنايا دراسته، رَبَطَ المدرحية بالتطورِ الحضاري، مستشهداً بما قاله سعاده في دعوته إلى رفض الإقرار باتّخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة والأعمال الإنسانيَّة. وشدَّدَ على أهميَّةِ التراث الروحي الخصيبي قائلاً: «إلى مقام الآلهة السورية يجبُ على الأدباءِ الواعين أن يَحُجّوا ويسيحوا، فيعودوا من سياحاتهم حاملينَ إلينا أدباً يجعلُنا نكتَشِفُ حقيقة النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تَناولها تفكيرُنا من قبل في أساطيرِنا، التي لها منزِلَةٌ في الفكرِ والشعورِ الإنسانِيَّين، تسمو على كلِّ ما عُرِفَ ويُعْرَفُ من قضايا الفكرِ والشعور".
كيف اكتشفَ هذا النابغة قبل غيره أهميةَ هذه الأساطير؟ يُعرّف إدوارد بارنِت تايلور، عالم الإنسانيات البريطاني، الحضارة بأنها كل مركَّب من عناصر تشمل: المعرفة، والتجربة الروحية، والقيم الأخلاقية، والشرائع، والتقاليد، والفن بأشكاله، والإمكانات أو الكفاءات التي يكتسبها الإنسان كعضو ممارس في المجتمع.
إنّ الذي يتجاهل هذه الحقائق يقعُ في هاوية فكرية لا يخرجُ منها إلا إذا انتُشِلَ منها انتشالاً. ولا حاجة إلى الاسترسال بما عَرَضَهُ سعاده عن المعرفة كقوة، وعن التجربة الروحية لإنساننا، والقِيَمِ الأخلاقية في الحق والخير والجمال، وفي كفاءات شعبنا إن فَعَلَت - وكان شاملاً في كلِّ هذا - وعن الفنِّ في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري». وقد اعترَفَ الشاعر أدونيس، أحدُ أعمدة الحداثة في «عصرِ بيروت الذهبي»، في كتابه «ها أنت أيُّها الوقت»، بأثر سعاده في تلك الحركة، إذ قال: «لم يكن لهذا الاتّجاهِ تَنْظيرٌ نقديٌّ، على الصعيدِ الشعريِّ-الأدبِيِّ، ولا يزالُ يَفْتَقِدُهُ حتّى الآن. غيرَ أنَّهُ كان يستَمِدُّ أصولَهُ من كتابٍ لم يكتبهُ، ويا للمفارقة، ناقدٌ أَدَبِيٌّ، وإنَّما كَتَبَهُ قائدٌ سياسيٌّ-فكريٌّ هو أنطون سعاده...» (ص 102).
قرأتُ الكثير من الملاحم التي عَبَّرَت عن التجربة الروحية لشعبنا. وكلُّ قراءةٍ كانت تكشفُ لي شيئاً جديداً. وقرأتُ عن المدرحية، مما خَلَّفَهُ سعاده ومن كتابات النخبة من القوميين الذين كتبوا عن هذا الفكر بكثيرٍ من التفاصيل، وقرأتُ عن العقل، ولكنّ السؤالَ الذي شغلني كثيراً هو: ما الذي رَبَطَ هذه الأشياء بعضَها ببعض؟ فبغيرِ الرابط لا يُمكن أن تتكَوَّن الأشياءُ اعتباطاً، فلا وجود لنا ولا كون إذا لم يكن هناك حركةٌ ومُحَرِّكٌ.
للأسف الشديد كَلِمَةُ الأسطورة للعامة ترادفت مع الخرافة والخواء؛ وهي ليست كذلك. فالكلمة العربية، الأسطورة، بحسب «المعجم الكبير»، ذاتُ أصلٍ يونانيّ هِسْتُرْيا [Historia]: حكاية، تاريخ، ومنه إسْطُوريا بالمعنى نفسه في السريانيّة. وهي، في الحقيقة، تأريخٌ حقيقيٌّ للرؤية اللُّدَنِّية التي ظهرت وترعرَعت في بلادنا، والتي بدأت بالملاحمِ الشعرية في «قلقامش» السومريَّة و«إينوما إليتش» البابلية و«كِرِت» الأوغاريتية و«بعل» الكنعانية، وامتداداً إلى الكُتب المقدَّسة للأديان السماوية. فالرؤية جاء بها أوَّلاً الشعراء السوراقيون القدماء، واستمرَّت قديماً بالشعراء الإغريق الأيونيِّين الذين تركوا الجزر اليونانية وعبروا البحرَ إلى غربِ آسيا، فتثقَّفوا بالفكر المشرقي الخصيبي، فكانت الإلياذة والأُوذيسة. وقد تَجَدَّدَتْ حديثاً بالشعراءِ التمّوزيين في سوراقيا الذينَ بنوا عصر بيروت الذهبيَّ، خلال أعوام 1950-1975، والذي قضَتْ عليهِ الخنادقُ والمتاريسُ الطائفية والإقليمية. ومن رؤية الشعراء انبعَثَت الفلسفة، ومن الفلسفة أتى الأنبياءُ بوحيهم الرؤيوي، وليس هناك انفصال بين الفكر في رؤيتِهِ وبين التجربة الروحية. كيف حَدَثَ هذا؟ لا بدّ من العودة إلى الفكر السوراقي الخصيبي.
الأسطورة السومرية تقولُ بأن «نمو» انفصلت إلى نصفين: «آنو» إله السماء-الروح، و«كي» إلهة الأرض-المادة. والأمرُ تكرر مع الإله مردوخ في أسطورة «إينوما إيليش» البابلية حين شَطَرَ جسم إلهة المحيط الأولى المسمّاة «تيامات»، أو «تُعامة» إلى نصفين: النصف الأول رفعه إلى السماء (الروح)، والنصف الثاني بسطه أرضاً (المادة). واللهُ أوحى إلى نبيِّهِ بالآية الكريمة: «أَوَلمْ يرَ الذين كفروا أن السماواتِ والأرضَ كانتا رتْقًا ففتقناهما» (سورة الأنبياء).
فما الحكمة في هذا القرار الإلهي الذي فَصَلَ الشيء إلى اثنين؟ وكيف اتّحدتا لاحقاً، وكيفَ عُبِّرَ عنه في تجربتِنا الروحية وانتشارِها في الكون؟ وما علاقتها بالمادة وبالتالي بمفهوم المدرحية؟
أوّلاً، الحكمة الإلهية في الفصلِ والشطرِ والفتقِ هي أنَّ القطبَ الواحدَ لا يمكن أن يتفاعلَ مع نفسه، فالقدرة الإلهية لها عشقٌ لخيرِ الإنسان وتَطَوُّرِهِ. والآية تقولُ: «ثُمَّ خَلَقْناكُم أزواجاً».
والتجربة الروحية لإنساننا ارتبطت بتحولات الطبيعة ودورة الفصول فيها، وأخذَتْ عِبرةً منها، وفيها الكثيرُ من الرؤية والتحليل العقلي والمغزى. واستَنَدَ الفكر الروحي القديم في الهلال الخصيب، بعد الانفصالِ والشطرِ والفتقِ، إلى عدَّة مقوّمات:
1- السماء، وهي القدرة الروحية الكامنة في الكون. وهي في وحدَتِها كانت ساكنة
2- المادة، وهي التربة المادية التي كانت بحالها جامدةً أحاطَتْ بها السماءُ أو القدرة الروحية.
3- الإخصابُ.
4- الخلقُ.
5- الحركةُ.
6- الموتُ.
7- القيامة.
وأثنى على ذلك الفيلسوف الإغريقي «هزيود»، إذ قالَ؛ أصولُ الآلهة ثلاثة: «كاؤُوس» ومعناها الخلاء، أو ما يحيطُ بالأرض، «جايا» الأرض الخصبة، «أيروس» وهو قدرة الإخصاب، فجَمَعَ بين قدرة الخصبِ والخصيب.
أَيُدركُ الناسُ من أين جاءَ تعبيرُ «الهلال الخصيب»؟ قدرةُ الإخصابِ صفةٌ روحية مهمة كمفهومٍ وفعلٍ بعيدٍ عن آلية الاتّصال الجنسي، بل الرغبةُ في الخروجِ من حالة السكونِ، والانطلاقِ في الإنتاج ومشاركة القدرة الكونية في الخلقِ وفي استمرارية الحياة بكل أنواعها: النباتية والحيوانية والإنسانية، ونقيضُها العقم، وفيه اللاخَلْق.
ملحمة «قلقامش» (تلفظ بالـ«GAF» العراقية) ومعناها القلِقون، هي ملحمة سومرية مشهورة انتقلت شفهياً من شعبٍ إلى شعب إلى أن اكتُشفت في مكتبة آشور بانيبال الآشورية في نينوى. «قلقامش» كان يسعى لخلود الإنسان كفرد بالانطلاقِ إلى غابة الأرزِ والإتيانِ بنبتة الخلود. حاولت عشتار ثنيَه عن سعيِهِ، فعرضت عليه إخصابها بدلاً من سعيه إلى الخلود. والمغزى هو أنَّهُ كإنسانٍ لا يخلد كفرد بل يموت، وأن الحياة الأبدية هي للمجتمع الذي يستمرُّ من خلال الإخصاب وتوالي أجيالٍ جديدة. فخلود النوع الإنساني يحدثُ من خلال الخلق والتوالد (هذا ما مثَّلتهُ عشتار في الأسطورة). وفي سورة الأنبياء يخاطبُ الله الرسولَ العربيّ: «وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخالدون؟». وفي سورة فاطر تقولُ الآيةُ: «واللهُ خَلَقَكُمْ من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجاً». والمعنى الباطني المُضمَر التكاثر من أجلِ الاستمرارية. وفي سورة الأنعام: «وربُّكَ الغَنِيُّ ذو الرحمة إن يشأْ يُذْهِبْكُمْ ويستخلفْ من بعدِكُمْ ما يشاءُ كما أنشأَكم من ذُرِّيَّة قومٍ آخَرين». فالإخصابُ هو سُنَّة الكون الأخرى.
هوميروس، الشاعر الإغريقي الأيّوني الذي هاجر أجداده من الجزر اليونانيّة إلى المشرق، قال:
الطبيعة حيَّةٌ مُريدة، وهي وَلَدَت الجبال والسماء والكواكب. تزَوَّجَت السماء فوَلَدَت أقيانوس والأنهار، وأقيانوس هو المصدر الأوّل للأشياء.
في الإنتاج الروحي البابلي يَرِدُ هذا الشعر في «أسطورة نينورتا والتنين".
"فانظرِ الآنَ: كُلُّ شيءٍ على الأرضِ/ فَرِحٌ بِحَمدِ نينورتا ملك البلادِ/ أَنْتَجَتِ الحُقُولُ الغِلالَ الوفيرة/ وثَقُلَتْ الكرومُ والبَساتينُ بالأَثْمارِ/ وكُدِّسَ المحصولُ في صوامع وتلال/ لقد أزالُ الربُّ الحدادَ مِنَ البلادِ/ وأَسْعَدَ أَرواحَ الآلهة». فالإنتاجُ عِشقٌ وهو هدفُ القدرة الروحية الكونية ومَسَرَّتُها، وهو ما دعا إليه سعاده: هو عمليةُ خلقٍ وولادة. والإنتاج تزاوجٌ نَظَّمَهُ العقلُ بين الروح والمادة، وفي العقلِ شيءٌ من الألوهة كما قال أفلاطون.
على مدى التاريخ، عبَّرَ شعبنا عن معاناته وتجربته الروحية في الكون بالملاحم الشعرية. وهو من الشعوب التي راقبت حركة الطبيعة. فالقيامة، في تصوُّره، كانت قيامة الأرض والطبيعة والاحتفاء بقيامتهما في الأوَّلِ من نيسان كرأسِ سنة. وكان الفارس المُرَمَّح يأتي على حصانه الأبيض، ليحمي المزارع بقضائه على التنينِ الخارجِ من جُحرِهِ حين كانت الأرض تسخُنُ بحلول الربيع. وكان تموزُ شهرَ الحصادِ والغلال وزمنَ مجالس الشراب والأعراس. والخامسُ والعشرون من كانون الأول لم يكُنْ عيدَ ميلادٍ للمسيح، إنَّما المسيحية تَبَنَّتهُ كهذا؛ وهو كان عيداً نبطِيّاً يُحتَفى به كعيدٍ للشمسِ أو عيدٍ للنورِ، إذ كان ضوءُ النهار يزدادُ طولاً وظلامُ الليلِ يبدأُ قصْرُهُ.
يقولُ السواح في «مغامرة العقل الأولى» إنّ الشعب راقب الرياح وحركة الشمس والقمر، وتوالي الفصول، ومجاري الأنهار، وصخب البحار، وهطول الأمطار، وتحركات السحاب، واندلاع البرق والرعد والصواعق، وتغير وجه الأرض بفعل الخصب، إلى آخر حركة من حركات الطبيعة. وفي مقالٍ للكاتب صخر أبو فخر في «العربي الجديد» بتاريخ 4 أيّار 2022: «كان فرح أنطون يدعو إلى «الدين الطبيعي». والدينُ الطبيعي مُصطلحٌ ظَهَرَ في أوروبا حين اكتَشَفَ العلماءُ أنَّ النظامَ والقوانينَ الطبيعية تتحَكَّمُ بحركة الكون بدقة، ووجدوا أنَّ القداسة تَكمُنُ في الطبيعة». الكاتب أبو فخر لا يعرفُ بأنَّ شعبَ الهلال السوريِّ الخصيب كان قد سبَقَ أوروبا إلى هذا المفهوم بأكثر من أربعة آلاف سنة.
هذا الاهتمام لشعبنا بتحولات الطبيعة، انعكس على معتقداته. فالإنسان، هنا، حاول التفاعلَ مع هذه الحركات وتفسيرها، والبحث عن كنهها وإيجاد مسوِّغٍ لها. وأخيراً حاول التحكُّمَ بأمرها، لتسخيرها في خدمته وفي حمايته. إلّا أنه كثيراً ما اصطدم بعجزه عن التحكُّم بكُلِّ واحدةٍ منها، فعمَدَ إلى الاعتقاد أن وراءَها قوةً روحيةً خالقةً وخارقة، ليس في إمكانه السيطرة عليها، وأعطى هذه القوة صفةً إلهية. وهكذا، فقد كان هناك إله للقمر، وآخرُ للشمس، وآخرُ للمطر. وكذلك نُسِبَ الرعد والبرق والخصب... إلى أَربابٍ أُخَر. ولا يزال شعبنا إلى اليوم يطلق اسمَ «أرض بعل» على الأرضِ التي يرويها المطرُ فقط. وهكذا ظهرت الآلهة المتعددة في تجربته الروحية، إلى أن وصل إلى قناعةٍ بأن هناك قوةً واحدة تتجلّى في حركة الإنسان الحيِّ وفي حركات الطبيعة، هي قوة الله الواحد. فالطبيعةُ هي المُحرِّكُ في الكون، ودوراتُ الفصولِ هي الحَرَكَة. وهكذا ظهرت الرؤية في تجربتِنا الروحية. «فلا بد إذاً من وجود قوى خارقة تقفُ وراء المظاهرِ المتبدّية لهذا العالم، قوى إلهية، مفارقة لهُ، فَعّالة فيه. ولا بدَّ أن يكون الكونُ تَبَدِّياً مادياً لتلك الطاقات الإلهية، ومظهراً لفعّاليتها وقواها المستمرة. وبذلك ابتدأتْ مرحلةٌ جديدةٌ تتميَّزُ بالتقرُّبِ لتلك القوى واجتذاب عطفها، ومحاولة تفهُّمِ رغائِبِها وآلية فعلها وشروطها، فظهرَ الدينُ» (مغامرة العقل الأولى، الطبعة السادسة، ص 13). وهكذا، وبهذا المفهوم، ارتبطت أسامي الأفراد الآرامية (وليس العبرية) بالقوة الروحية الكونية «إيل» كـ«عمَّنوئيل» الذي يعني اللهُ معنا، و«شموئيل» أو إسمائيل بالعربية، ويعني باسم الله، و«ميخائيل» الذي يعني مشيئة الله، و«دانئيل» الذي يعني قضاء الله وغيرها... فـ«إيل» تعني الله. وحين كان المسيحُ يُسْلِمُ الروح على الصليب، لم ينادِ يهوه، لا بل هتف بالآرامية سائلاً: «إيل... إيل لمانا شْوَقْتني؟» أي إلهي... إلهي لماذا تركتني؟ وكان، عندئذٍ ينادي القدرة الإلهيَّة العادلة صاحبةَ الصفات الحسنى التسعِ والتسعين.
والأمرُ كذلك بالنسبة إلى الرؤية الفلسفية الإغريقية، فقد مَرَّت بدوراتٍ أربع:
الدورةُ الأولى، كانت للفلسفة النظرية.
الثانية، كانت للفلسفة الأخلاقية مع سقراط.
الثالثة، كانت للفلسفة العقلية مع أفلاطون وأرسطو.
أمّا في الدورة الرابعة للفلسفة الإغريقية، فدخل فيها الدين والتصوف والرؤية الروحية مُتأثّرةً بالشرق (يوسف كرم، الفلسفة اليونانية، ص 9). فالدين رؤية، وليسَ طقوساً ونصوصاً، فالنبوة تكلَّمَتْ بالأمثال، والنصوصُ رموزٌ، وما وراء النصوصِ إيحاءٌ وَوَحْيٌ. والرؤية وصفها جبران بالعين الثالثة، ووصفها الحَلّاج في أشعاره.
وتعبيرُ شعبِنا عن تجربته الروحية كانَ بقصصٍ رمزيّة تناقلها الناس من جيل إلى جيل. هذه القصص، التي نسمّيها اليوم بالأساطير، ما كانت إلا نتيجة خيال وتفسيرٍ لحوادث عقلية جرت على مدى آلاف السنين. إلاّ أن معظم علماء الآثار يعتقدون أنها إيحاءات تولَّدَتْ من نظرة الإنسان إلى تغيرات الطبيعة والكون، ولا يمكن فصلها عن بيئتها التي نشأت فيها. هذا الخيال عُبِّرَ عنهُ بأشعار رمزيةٍ، ولكن متناسقة. هذا الشعر، كما الشعر الحديث، كلماتُهُ وجملُهُ لا تعني الظاهر والمكشوف، لكنها تحملُ قوة رمزية إيحائية عميقة، وتنطوي على تأريخٍ لحوادث جرت على مدى الزمن المتسارع، تناقلتها الأجيالُ من واحدٍ إلى آخر.
وأيضاً في مقدمة «مغامرة العقل الأولى» يقولُ السَّوَّاح: «عندما يئسَ الإنسانُ من (تفاسير) السحرِ كانت الأسطورة كلَّ شيءٍ لهُ: كانت تأمُّلاتِه وحكمتَهُ، مَنْطِقَهُ وأسلوبَهُ في المعرفة، أدَاتَهُ الأسبق في التفسيرِ والتعليل، أدَبَهُ وفنَّهُ، شِرعتَهُ وعرفَهُ وقانونَهُ، انعكاساً خارجياً لحقائقِهِ النفسية الداخلية...». ويتابع: «الأسطورة ليست انفعالاً صرفاً، لأنها توسِّطُ الأفكارَ في محاولتها للتعبير عن ذلك الانفعال ومَوضوعيَّتِهِ في الخارج".
ونأتي إلى الموتِ، فهو، في التصوُّر العاميّ، نهايةُ حياةٍ، إلّا أنَّهُ سكونٌ مرفوضٌ يناقضُ مفهوم الروح الإلهية التي تخزُنُ قدرة (Potential) الإخصاب، ورغبة الانعتاق من الجمودِ، وتَعْشَقُ الانطلاقة في المادةِ لتفجيرِها حركة وحياةً وإنتاجاً في الكونِ. والعبرةُ في طمرِ بذرة القمحِ تحتَ التُّرابِ لتنفجرَ بالحياة سنابلَ تُطْعِمُ الإنسانَ خبزاً. فالموتُ ما هو إلاّ انتقالٌ، بالتسامي، إلى حياة أخرى. واستمرَّ هذا المفهوم في الإنسان وعبادتِه لله في الفكر الإسلامي بفرعيه المسيحي والمحمدي، ففي مقدمة «بعل هدَّد» يقولُ حداد ومجاعص: «يُمكنُ القول إنَّ الثابتَ العِبَاديَّ الأكبر في الشرق الأدنى، قديمِه وحديثِه، هو عبادة البعل هدَّاد بصفة الإله الذي يموتُ ثمَّ يُبعثُ حيّاً». وفي المصدر نفسه يقولان: «مفهومُ موت وقيامة الإله أكثرُ مفاهيم الفكر الديني ديمومة وانتشاراً، من بدايات الأعراف الدينية البدائية حتى عصرنا الحاضر». ففي ملحمة بعل الكنعانية تقولُ أختُهُ «عناة»، تُفَسِّرُ غيابه: «بعلُ لم يَمُتْ، نُثِرَ في الحقول». وعن مفهوم الله، فقد وافق السواح أفلاطون على أنَّهُ صورةٌ ذهنية. وقد جَسَّد الإسلامُ في هذه الصورة الصفاتِ الحسنى التسعَ والتسعين.
كلُّ قدرةٍ في الكون تتحوَّلُ إلى حركة. والحركة سُنَّة الكون. وبغير الحركة ليس من الممكن تصوُّرُ أيِّ نوعٍ من الحياة. والحركة تضمرُ حقيقة، وهي «انقلاب الشيء من حالٍ إلى حال». والمدرحية، بمفهومِها الإخصابيِّ، هي أساس الحركة في الكون.
الأجسام، على اختلافها، مصنوعةٌ من مادةٍ أولى هي محلُّ التغيُّرات. والتغيُّرات هي من ابتكار العقل وصناعته. الفيلسوف السوري طاليس (624-546 ق.م) قال إنَّ الماءَ هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكَوَّنُ منه الأشياء. وكان هذا القول مألوفاً عند الأقدمين:
- أسطورة بابلية قالت: في البدء، قبل أن تُسَمَّى السماءُ وأن يُعرَفَ للأرضِ اسمٌ كان المحيطُ وكان البحرُ.
- وجاءَ في قصَّةٍ مصرِيَّة: «في البدء كان المحيطُ المظلِمُ أو الماء الأول حيثُ كان آتونُ وحدَهُ الإلهَ الأوَّلَ صانعَ الآلهة والبشرِ والأشياءِ".
- عبارة من الشاعر الفيلسوف هوميروس تقول: الأقيانوس هو المصدر الأول للأشياء.
- وجاء في التوراةِ، وهي نقلٌ بتصرف للرؤية البابلية إلى الكون: «في البدءِ، خَلَقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ. وكانت الأرضُ خاويةً خاليةً، وعلى وجهِ الغمرِ ظلامٌ، وروحُ اللهِ يرُفُّ على وجه المياهِ".
- والقرآن يقولُ: وهو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيَّامٍ وكان عرشُهُ على الماءِ (سورة هود).
إذاً، فالماءُ مادةٌ، وأصلٌ للأشياءِ، لكنه ساكنٌ لا يتحوّل إلا إذا اقترن بالقوة الكونية الروحية. والسماء هي القدرة الروحية الساكنة، لا تتحوّل إلا إذا اقترنت بالمادة، وهو ما نسمّيه الإخصاب، بعيداً عن معناه الجنسي، ولكن في نطاقه العلمي، أي التفاعل. وما جَمَعَ بين الروح والمادة هو العشقُ والعقل. والعناصرُ الأربعة المادة والروح والإخصاب (الإنتاج) والعقل هي أساس الفكر الخصيبي وأساس فلسفة سعاده.
* كاتب وطبيب