إن ذكرى الثامن من تموز هي الذكرى المريرة والمؤلمة الممزوجة بالفخر والاعتزاز، لأنها تدمي قلوبنا على استشهاد أنطون سعاده، باعث النهضة القومية الاجتماعية، ولكنها ذكرى تُعظّم نفوسنا بما قدَّمَ هذا الزعيم لشعبه وأمته. هذا الرجل كان صاحب النفس الكريمة التي ما كفّت عن العطاء بسخاء حتى روت التراب بدمائه الذكية. وكان مالك الشخصية الفذّة في مواجهة التحدّيات وصاحب القناعة الصلبة بحق أبناء شعبه بالحياة العزيزة الراقية وحق أمته في أن تكون حرة أبية. فهو كما يقول عنه الدكتور عبدالله سعاده:
"كان صادقاً مع نفسه ورفقائه والمواطنين. كان رقيقاً إلى حد الشفافية، وقاسياً كالفولاذ في كل ما يتعلق بمصلحة قضيته وأمته. كان يخضع نفسه ويحملها أكثر بكثير مما يفرض على غيره. كان واثقاً كل الثقة بصوابية قضيته ونهجه وبأصالة شعبه."1
إن جريمة إعدام أنطون سعاده غيّبت جسده، ولكنها لم ولن تستطع أن تغيّب مبادئه عن عقولنا. وها هي الأجيال تعتنق هذه العقيدة المحيّية فتترسخ في العقول وتعزّز وحدة الروح فينا، ووحدة الروح، كما يقول عنها سعاده: "هي شخصية الأمة الحية."2
أنطون سعاده كان فيلسوفاً ومعلماً وقائداً وقد استطاع أن يخطط تاريخاً جديداً لأمته وأن يكتشف الوسائل المجدية لإنقاذها ويضع المبادئ الفعّالة لسيرها التصاعدي نحو النصر الأكيد. لقد رسّخ قواعد عصر جديد تدعم القيم الإنسانية والوجدان القومي في فكر كل فرد، سواء أكان رجلاً أو امرأة، فتتمخض نفسية متينة توّاقة إلى الإنعتاق والإنطلاق في أعماقه، وتتحرك كرامة دفينة للتعبير عن نفسها وفرض وجودها في أخلاقه. هكذا يحفّز سعاده أبناء شعبه على السعي الحثيث نحو الحرية زارعاً ثقتهم بأنفسهم وبجدارتهم ببقائهم وتفوقهم ليتلمسوا طريق الخلاص متطلعين إلى العالم الحضاري، فيسعوا لينعموا بحياة أجمل وأرقى.
كان سعاده منصفاً حين جمع أبناء شعبه بعقيدة واحدة تساوي بينهم، فلقد سمح لكل فرد يودّ أن يحيا حياة عزّ وكرامة بالانضمام إلى هذا الحزب مهما كانت خلفياته الثقافية ومعتقداته الدينية وشرائحه الاجتماعية. كما كان عادلاً عندما ساوى في المعاملة وفي الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة لإيمانه القوي بأن المرأة هي عضو فعّال ذو دور نهضوي مثل الرجل، وما قاله في الحفلة الليلية التي أقامتها مديرية السيدات عام 1938 على شرفه يؤكد هذا:
"ليس العمل القومي وقفاً على الرجال. لن يكون العمل قومياً حتى تشترك فيه المرأة وتكون عضواً عاملاً فيه.... وكما يجب على الرجل أن يعمل في سبيل أمتنا، كذلك نريد من الـمرأة أن تكون عضواً عاملاً في مجتمعنا. نحن في حاجة شديدة إلى المرأة."3
لقد وسّع سعاده الآفاق أمام طموحات المرأة ومكّنها من المشاركة الفعلية والميدانية في المجتمع. لهذا فمنذ تأسيس الحزب القومي، انتسب إلى صفوفه نساء كثيرات، اعتنقن المبادئ وانخرطن في معركة الوعي والثقافة وشاركن في العمل الحزبي والنهضوي، فأثبتن أنهن نساء القضية بجدارة وأهلٌ للثقة والحرية والفعل كالرجال تماماً. وهنا لا بد لنا من توجيه التحية لروح الأمينة الأولى ولأرواح الشهيدات الخالدات: سناء ومريم ونورما وزهرة وابتسام وغيرهن من الرفيقات الخالدات.
ففي النهضة القومية الاجتماعية، إذاً، تستطيع المرأة أن تقوم بكل الواجبات الذي يقوم بها الرجل وتتساوى في الحقوق معه. فعندما ينثر الفكر القومي الوعي في الأمة، سيتنشق الجميع من عبق النهضة الراقية.
كم نحن فخورون بانتمائنا لهذه النهضة العظيمة وكم نحن مدينون لأنطون سعاده لتأسيسه هذه النهضة القائمة على المبادئ الهادفة إلى معالجة الأمراض المتفشية في نفوس الأفراد كالطائفية والعبودية والنزعة الفردية وغيرها من المثالب.
كم نحن فخورون بأنطون سعاده الذي دعا إلى إصلاح شؤوننا وتعزيز نفوسنا بالمناقب السامية والفضائل الجميلة. وكم نحن مدينون لهذا الرجل ولعطاءاته وتضحياته حتى الشهادة.
إن مبادئ سعاده السامية هي البوصَلة التي توجّه اهتماماتنا نحو حياة أرقى. فهي الثروة الفكرية التي تبعث النهضة في الأمة بأسرها. بها يستمر الماضي في حاضرنا ويفعل في تقرير مستقبلنا، فنبني عليها شخصياتنا كي نصمد بصلابة في مواجهة الفتن منقذين أنفسنا ورافعين مجد أمتنا.
فألف تحية إجلال وإكبار إلى روح رجل المبادئ والقضية ومعلم الأجيال وقدوتها، فهو الحي في نفوسنا الذي ينطبق عليه ما نعت هو به إبراهيم حبيب طنوس قائلا:" نعتّك بالـحي، لأني لـمست نبض الـحياة في مقالاتك وفي حركتك الـحارة الـمشعة."4
تحيا سورية ويحيا سعاده