الأمين أسد الأشقر، وقياديون آخرون في الحزب: جبران جريج، عبدالله قبرصي، عبدالله سعادة، عبدالله محسن، إنعام رعد، مصطفى أرشيد وغيرهم، لا تغطي مسيرتهم الحزبية الطويلة والغنية، نبذة، أو أكثر، إنما كتاب يحكي السيرة الشخصية والمسيرة الحزبية، ويضيء عبرها على أحداث ومواقف من تاريخ حزبنا. وإذا كنا، بسبب وفرة المواضيع الحزبية التي علينا الاهتمام بها، نكتفي بنبذات تعرّف عن مئات الأمناء والرفقاء في الوطن وعبر الحدود، إلا أننا نأمل أن يتمكن رفقاء، في أي مرحلة لاحقة من حياة الحزب، أن يضيفوا إلى تلك النبذات المنشورة، أو أن يُصدروا المؤلفات إدراكاً منهم إلى أهمية حفظ تاريخ الحزب، بأحداثه، وشهدائه ومناضليه، فيبقى لأجيال الحزب ولذاكرة الأمة.
**********
حفل العدد 534 تاريخ 21/6/1986 من مجلة "صباح الخير" الصادر بعد غياب الأمين أسد الأشقر، بالكثير من الدراسات والمقالات والمعلومات التي أخترنا منها ما يضيء على الحضور المميز للأمين أسد الأشقر على أصعدة متنوعة: سياسية، وحزبية وأدبية وفكرية.
**********
الأمين إنعام رعد (عميد الإذاعة في حينه)
أسد الأشقر اسم يحمل تاريخاً ومن هنا صعوبة أن يُـنصف في مقال، مناضل كبير وقائد تاريخي من قادة حزبنا ورؤسائه المميّـزين وقد طوى نصف قرن ويزيد في ساح الصراع.
إلا أن محطات رئيسية تستوقفني وانا أودع الرئيس الأمين الراحل وقد قدر لي أن أعمل معه في المسؤوليات الحزبية نحو ثلاثة عقود سواء في المجلس الأعلى أو في السلطة التنفيذية مما أتاح لي مشاهدة ثلج في الأعماق، وسأحاول أن أكتب بقدر من الموضوعية بعيداً عن تلك الصلة الحميمة التي تغمرك في العلاقة مع أبو غسان، الشخصية الغنية المتألقة المحببة، التي لها شخصية الوالد المحبب، والرفيق الحلو المعشر، الأنيس المجلس، العميق الثقافة والتجربة. فلو دخلنا الموضوع من هذه الأبواب لوقعنا في أسر جاذبية شخصية أبو غسان المحببة ولإشعال الدين الهادئ، للأبعاد الحقيقية والموضوعية لشخصية المناضل والمفكر والقائد في محطات خمس رئيسية:
أولاً: الشخصية الديناميكية الدائمة التوهّج التي لا تعرف اليأس يوماً، بل كان حلم الأمين أسد بالنصر يفتق باستمرار مشاريع جديدة لبلوغ النصر، إن إيمانه بالنصر كان تاريخياً، يشاهد الأوضاع السائدة بعين البصيرة التاريخية فتعكس على النضال تفاؤلاً مستقبلياً وعناداً في الصراع وقوة شكيمة.
من أجل هذا الإيمان الدائم التوهج صارع الأمين أسد دون هوادة. عرف السجون والمنافي، تعرّض للموت، والسلطة الباغية تطارده، لم يزعزع ذلك من صلابة إيمانه، عمّر البيوت الجميلة كأحلامه وشهدها مرة يقصفها جيش الطغاة ومرة يجتاحها الانعزاليون ـ وامتلك الأرزاق وحرمه الطغيان من التمتع بها فصار مهجراً بعد أن كان صاحب نعمة وارفة، كل ذلك دون أن يتزعزع إصراره على الصراع وإيمانه بالنصر الأخير.
كان حاداً بقدر ما كان مؤمناً ومصراً وملحاحاً على النصر تختلف معه، هذه فريضة من فرائض العلاقة المركبة مع شخصية دينامية قيادية، ولكنه دوما منفتح على الحوار.
ثانياً: من المصارع المسؤول في أعلى مستويات السلطة الحزبية إلى القلم المرهف الذي خط في الادب السياسي، ومن قبل في الأدب الروائي (معابد الريف)، أسلوباً ناري العبارة تجنح فيه الأفكار على رشاقة التعبير وجزالة في البلاغة والق لا يضاهى.
عرفته المنابر خطيب مفاهيم وخطيب ثورة وخطيب مؤسسات. لكن الأمين أسد المفكر هو الأمين أسد المؤرخ القومي، ولقد راوده حلم كتابة تاريخ هنيبعل ثم هملقار برقة قرابة ربع قرن أو أكثر وكان يطالع ويبحث في المراجع حتى دخل السجن سنة 1962.
عندها بدأت التحولات الكبرى من صومعة السجن. التحول الأول أن السجن يتيح للمناضل، هدأة للتأمل والبحث والتوسع، خاصة متى امتدت مدة الأسر سنوات سبع.
وهكذا تحول المشروع، من مرحلة أو حقبة هامة من تاريخ سورية، إلى المشروع الأكبر: كتابة التاريخ السوري. وفي السجن كان مَـن نهض عند الفجر أو نام عند الفجر سواء بسواء، يشاهد الأمين أسد وهو يقرأ أو يدوّن ملاحظات. وكأنه ترهّب للبحث الذي استحوذ على كل مشاعره وتفكيره.
وأصبح الأمين أسد وهو في السجن يحيا الحقب التاريخية حقبة حقبة مع كبار الباحثين وفلاسفة التاريخ لكنه استقدمهم جميعاُ الى سجنه يقضي معظم أوقاته معهم ومع مؤلفاتهم ويدقق فيها ليخرج تباعاً بعد السجن مؤلفه الضخم "تاريخ سورية" الذي مات وهو يهجس به.
لقد أنشأ فيه مشاهدة كاملة للتاريخ السوري نفسه حتى ما قبل التاريخ حتى عصرنا، وهو أول جهد من نوعه يظهر في العربية مرتكز إلى نظرية تاريخية حول الحضارة السورية والحضارات. وهي نظرية قابلة للنقاش في هذا المنحى أو ذاك، ولكنها قدمت نظرة شاملة لأول مرة إلى تاريخنا وميّـزت بين حضارتنا وأصالتنا وما وصفه بالحضارات المزوّرة أو "المزيّفة"، كما أكدت الترابط العضوي بين حضارتنا السورية ونشوء العالم العربي.
ويعتبر إنجاز الأمين أسد لهذه السلسلة من الأجزاء حول التاريخ السوري أهم ما أعطى في حقل الثقافة القومية. إلا أن التحوّل الثاني الهام كان أن الأمين أسد وهو المصارع في الحاضر من أجل المستقبل، بل أخذ قلمه – كما وصفه أحد قادتنا – يدك كالمدفع البعيد المدى سدوداً انتصبت خلال السنين بين الحزب والقوى التقدمية، ولعل أبرز مقالاته القاصفة الرد على شارل مالك من السجن وما فيه من استشراف في كشف أحد اراخين الثقافة المزيفة.
فقد تحرر أسد الأشقر في السجن بعقله التاريخي وفكره المتوهج من تبعات وإرهاق السياسة اليومية ليشاهد المستقبل بعينين مفتوحتين، فكان ما كتبه في "ملحق النهار" بداية هامة ومنعطفاً تاريخياً "للقاء الثوري" كتابه الهام وكتبه اللاحقة "عصر العمالقة" و "الحروب المصيرية" و "مفاهيم الإنسان الجديد"، "نحن مع الثوريين ولو كانت ثوريتهم ناقصة ولن نكون مع الرجعيين لأن بيننا وبينهم معركة هي معركة الحق ضد الباطل".
بهذا حسم الأمين أسد في الخط السياسي والنضالي للحزب ورافق الثورات الأخرى وحاورها من موقع التمايز، ولكن ليس من موقع التناقض في اللقاء الثوري. فيقدر حرصه على خصوصية النهضة السورية القومية الاجتماعية بقدر حرصه على اللقاء مع قوى التقدم والتغيير في جبهة مصارعة. ان ما خلفه الأمين أسد في حقل الثقافة القومية ليشكل ثروة تحتاج إلى درس معمق وهو دون ريب أغنى الكتاب القومي بزخم جديد وثراء غزير.
ثالثاً: رجل المؤسسات:
من يستعرض تاريخ الأمين أسد الحزبي الطويل يجد أنه رجل المؤسسات حرص عليها ودافع عنها، واستحق وسام سعادة في 1958 وفي طليعة الأسباب دفاعه عن الحزب ومؤسساته في وجه عملية الانشقاق وله في تلك المرحلة خطب توجيهية ذات قيمة حول معنى المؤسسات واستمرارها واكتنازها التجربة والخبرة إزاء الأفراد وغرورهم. ومنذ ذلك التاريخ والأمين أسد الأشقر رجل المؤسسات، وان أنسى لا أنسى ذلك العملاق وهو في لجنة الطوارئ عام 1978 – 1979 يسلك بنظامية وتواضع قدووي وصبر على المؤسسة من ضمن المؤسسة. كان اعتزازنا به كبيراً وهو يعطي هذا الدرس في المسلك من أحد شيوخ الحركة المتقدمين.
كان ذا رأي وذا شخصية، ولكنه كان عميق الجذور في حزبه، سنديانة عريقة لا تهزها العواصف، وجبل كصنين. ثم انه كان على لائحة المكرمة المضمونة النجاح بترتيب القيادة السابقة قبل عودة الزعيم وحين رفض الزعيم دخول الحزب تلك اللائحة، لبى الأمين أسد أمر الزعيم وخاض الانتخابات في لائحة أقل حظاً بالنجاح. والانتخابات كانت المحك والامتحان لعدد من مرشحي الحزب من قبل ومن بعد الذين فضلوا النجاح على الموقع الحزبي فانهاروا وسقطوا، أما الأمين أسد فالحزب عنده كان دوماً الأساس، والقرار الحزبي هو الملزم في كل الحالات. خسر النيابة وربح نفسه ليعود فيربح النيابة ضد مرشح الكتائب بعد عشر سنين.
رابعاً: المغتَـرب في الأمين أسد بُعد آخر لا بد من أن تقاربه بكثير من الاهتمام لأن هذا جزء في شخصيته هام وغني.
في مناقشته لوزير الخارجية اللبنانية شارل مالك في أحد جلسات مجلس النواب 1957 وقد كان شارل مالك يومها نجم العهد الشمعوني المفروض أميركيا على الوزارة والنيابة يحمل النائب أسد الأشقر على الوزير مالك لأن الأخير يريد اختصار السياسة اللبنانية بالعلاقة مع أميركا وينبه إلى آفاق أخرى لسياسة لبنان أهمها المغترب وإهمال الدولة اللبنانية للمغتربين.
كانت أفريقيا التي اغترب إليها تمثل له شيئاً من غربة هاني بعل، الفينيقي إلى أفريقيا والذي أبداً لم ينس صور وهو يزحف على روما.
لأن المغترب هو الخزان لتحرير الوطن,
هكذا سمعته يتحدث في زيارتنا كوفد مركزي برئاسته إلى المغتربات في 1959.
ولعل إحدى الوشائج القوية التي شدته إلى سعادة اهتمامهما المشترك المبكر بالمغترب كإحتياط وخزان للوطن في معركة تحريره.
خامساً: أسد الأشقر والصراع القومي في الجبل.
وصل للنيابة، ولكنه كان دوماً يحلم بتدمير النظام الطائفي والإقطاعي والمدرسة السياسية العتيقة. حتى في 1958 كان حريصاً على مد جسور مع المعارضة، ولقائه مع كمال جنبلاط معروف. كان يريد الانتهاء من شمعون شرط الانتهاء من خلفه. معه يستهدف إسقاط للنظام بالكامل وإذا لم يتوفر، تعامل مع الواقع مرحلياً. لم يهضم حتى في 1958 "الكتائب" فهم الخصم الأساسي. وخاض في 1957 المعركة ضد موريس الجميل وفي كل الدورات كان خصم الكتائب. الخصوصية التاريخية بين الحزب والكتائب التي رسخها سعادة على أساس عقائدي بين القومية والانعزال تشربها أسد الأشقر وكان دوماً الوجه الماروني الأبرز في الصراع ضد الكتائب في الجبل وقد ترك في المتن بصمات هذه المواجهات في القرى بين القوميين الاجتماعيين، وتيارهم والكتائبيين وتيارهم.
إن الأسماء الكبيرة تحاط بها تساؤلات كبيرة، ولكن اسم أسد الأشقر يبقى في الأخير أحد أعلام النضال القومي الاجتماعي الخفاقة، ففي المحصلة هو رمز صراع طويل من أجل العقيدة السورية القومية الاجتماعية على الساحة اللبنانية وخاصة في جبل لبنان.
**********
الأمين د. منير خوري
سيكتب العديد من الذين عرفوا أسد الأشقر، عن إيمانه يعقيدة سعاده، وصلابته في النضال من أجل هذه العقيدة.
أما أسد الأشقر – الإنسان – فقليلون جداً الذين يعرفونه على حقيقته. فمعظم الذين عرفوه، عرفوه عبر تصاريحه ومواقفه وكتاباته. فهو في نظر هؤلاء قائد سياسي، مناضل عنيد، أو كاتب ومفكر غاص في أعماق تاريخ أمته سوريا. عرفه الناس يهمدر ويزمجر ويهدد، فإذا هجا كان هجاؤه كالقذائف المدمرة، وإذا غضب، انقضت قبضة يده على المنضدة أمامه وانكسر معصمه. كان يثور كالبركان، فيقطع الرؤوس ويطالب بدك العروش دون هواده.
كان كل هذا، وأكثر... هذا هو مظهره، فما هو جوهره؟ ما هي حقيقة هذه الشخصية الفذة؟
صحيح أن علاقة الجوهر بالمظهر علاقة عضوية، غير أن المظهر لا يعبر دوماً عن حقيقة الجوهر ولذا تبقى معظم أحكامنا على بعضنا البعض خاطئة، لأننا في أحكامنا هذه نتوسل المظهر كمؤشر إلى حقيقة الجوهر. قد يكون هذا المؤشر المظهري مصيباً أحياناً في دلالته هذه، وقد لا يكون، وهنا تكمن صعوبة فهم الإنسان، خاصة إذا اعتمدنا التفسيرات السطحية لهذه المؤشرات المظهرية.
وأسد الأشقر هو من هذه الفئة النادرة التي لا يعبر مظهرها عن كامل حقيقة شخصيتها. الذين لم يعايشوا هذا الأسد عن كثب لا يمكنهم سبر أغوار شخصيته. ولذلك لا يستطيعون أن يروا فيه أكثر مما يرون أنفسهم في المرآة. وهنا أرى من واجبي أن ألقي بعض الضوء على جوانب أخرى من شخصية أسد الأشقر والتي لا يمكن أن يراها الناظر السطحي عبر معرفته الهامشية لهذا الإنسان.
تعرفتُ إلى "الأستاذ" الأشقر صيف العام 1943 في عكار، وبعد عدة لقاءات متكررة، كرّسني عضواً في الحزب السوري القومي، فأصبح "الاستاذ" اسد الاشقر الرفيق الكبير. قلت تعرّفت الى اسد الاشقر عام 1943، ولكني لم اعرفه حقاً إلا بعد أن توطدت علاقاتي معه وتوثقت تدريجياً بعد دخولنا السجن عام 1962 إثر الإنقلاب الذي فشل. هناك تكشفت لي أمور عديدة وتبيّـنت من حقائق كنت أجهلها تماماً لا مجال لذكرها في هذه المناسبة. بالنسبة إلى اميننا الراحل تبيـّن لي ان هناك قلباً رقيقاً عطوفاً يكمن وراء زمجرات الأسد المرعبة. كان يحنو هذا الأمين على رفقائه الأسرى كما يحنو الأب على أطفاله. ولقد أصابني من حنوه وعطفه الشيء الكثير، فان أنسى لن أنسى ذات ليلة عندما أفقتُ من نومي على شخص يحاول، بكل رفق وهدوء، تغطيتي "بالبطانية" ليقيني شرّ البرد القارس المخزون في بلاط ثكنة المير بشير. فتحتُ عينيّ وإذا بالأمين الجزيل الإحترام أسد الأشقر ينحني ليوشوشني بصوت خافت كي لا يزعج بقية الرفقاء قائلاً: تغطى مليح، البرد قارس، لازم تدير بالك على صحتك ".
إن جمال شخصية الأسد الأشقر هي في أصالة ثورته وبراءة تهديداته. فقلبه الوديع كان دوماً على إتصال بعقله الراجح وفكره الثائر. الزمجرة التي كانت تصدر عن لسانه لم تكن في حقيقتها سوى التعبير الحقيقي والشعور العميق عن ثورة حضارية أصيلة وألم مرير وتوق إلى تحقيق الذات. فالقلب المحب حقاً هو القلب الذي يتفجر ثورة وغضباً. ألم ينفجر السيد المسيح، سيّد المحبة في الكون، ألماً وغضباً، عندما زمجر وهدد وطرد اليهود من الهيكل؟ ألم يشتمهم بقوله: يا أولاد الأفاعي...
يقول المثل العامي "القلب الذي لا يكره لا يحب"، وقلب أسد الأشقر كان يحمل من الحب بقدر ما كان يحمل من الكره والغضب والثورة. كان يقول لنا دائماً أن القائد الحقيقي عليه أن يكون فيلسوفاً وذئباً معاً. وهذا ما كأنه أسد الأشقر الحقيقي، إلا ان قلبه الكبير كان دوماً صمام الأمان الذي حافظ على التوازن بين الحكمة والتذؤب.
أسد الأشقر صخرة تدحرجت من المتن الأشم فكان لها دوي لمّا يزل وسيبقى بقاء هذه النهضة. واليوم يعود الأسد إلى عرينه ليرقد بأمان في مسقط رأس النسور. فطوبى لك ولأمثالك أيها الأمين الجزيل الإحترام ".
**********
حبة القلب
الأمينة سهام بشير جمال
وترحل الأحبة قوافل إيماناً بالأرض وإنسانها. كل واحد مقتطعاً منا حبة من القلب والخاطر.
معك يرحل منا ماضي جميل ضج بالصبا الطامح للحق والخير والجمال جسدناه عملاً بناءً بروحية الإنسان الجديد يوم كنت رئيساً، ونعْم الرئيس.
غياب من نبكي، غيابك، أم غيابنا في كل واحد منكم؟ نبكي من التهجير والخطف والغربة في الوطن المشلّع؟
نبكي يا أميننا من الإحباط.
لا.. فأنت تكره البكاء والإستكانة يا بركاناً دافقاً بالحياة، بكل حلوها وفرحها وخلقها وكبريائها ومحبتها. ما عرفت الهزيمة يوماً سبيلاً إلى عقلك وإرادتك ولا الحقد، حتى في أحلك الساعات وما كان أكثرها.
حملت إسمك أسداً كأنبل ما تكون الأسود، هيبة وسطوة، وحلماً وكبر، وشراسة في الذود عن العرين، حزبك، حزب سعاده العظيم.
أذكر ضحكتك، مشيتك، نبرة صوتك خاطباً في الجماهير، لهفتك على كل معتب الدار الفسيحة في ديك المحدي.
أقرأك فكراً وحضارة وتاريخاً، يخضوضر الأمل في نفسي الذابلة. وأتحسّر على المجموع الجاهل. قارئ لا يفهم، وآخر لا يقرأ إلا ما يكتب، والباقون غارقون في جحيم طائفيتهم.
طال إنتظارك لحزيران منتصر بعد حزيران الهزائم وفي الثالث عشر تعبت من الإنتظار وأيقنت أن من يسمح بإقفال جامعة، مهجراً لا يكون في خط النهضة.
أغمضتَ عينيك كالأسود حين ترتاح وقررتَ الرحيل.
يا أميننا الحبيب ستظل ذكراك عطرة في الخاطر وستظل في البال إشراقة عنفوان وأمل وسط هذا الظلام.
**********
الرفيق جوزف نصر [1]
" غياب أسد الأشقر، عن الحياة الحزبية والسياسية منذ بعض الوقت، لم يمنع الرجل حتى غيابه صباح أمس وارتحاله إلى جوار ربه، من أن يتابع ولو وحيداً الإهتمام بقضايا بلاده وهمومها من خلال مثابرته على التأليف والكتابة ومراجعة انتاجه الضخم "تاريخ سوريا" قبل دفع آخر مجلداته إلى الطبع.
أسد الأشقر غاب أمس عن 78 عاماً أمضى 50 منها في جهاد حزبي وسياسي لم يهدأ يوماً.
ولد في ديك المحدي عام 1908 من عائلة لها في لبنان والمهاجر الكثير من العاملين في السياسة والتجارة والأدب والموسيقى.
دخل في صباه مدرسة القرية، ثم تدرج إلى حين غادر لبنان إلى فرنسا حيث كان عمه الأب بولس الأشقر، فدخل مدارس باريس ودرس علم التاريخ والسياسة. وشأن كثيرون من اخوته وأخواته وأقاربه، انتقل إلى غانا حيث شارك في الأعمال التجارية والعقارية وأصاب مع اخوته وأخواته ثراء لا بأس به.
في غربته لم ينقطع أسد الأشقر عن وطنه، بل كان دائماً على اتصال بأهله وأبناء منطقته الذين ساعد كثيرين منهم في صنع مستقبل زاهر. عام 1936 تنقلب حياة أسد الأشقر من حياة إنسان تاجر إلى حياة إنسان آخر، في رحلة بين فرنسا وشاطئ الذهب، وقع في الباخرة على جريدة فرنسية، فيها أخبار عن إكتشاف حزب سري في لبنان، والقبض على زعيم هذا الحزب أنطون سعاده ورفاقه، فلما وصل إلى غانا واتصل بالمهاجرين من منطقته وأبناء عائلته، وجد أن هناك فرعاً لهذا الحزب، وأن مؤسس الفرع هو رفيق الحلبي[2]، وأول المنتمين إليه أمين الأشقر[3] وشاهين شاهين[4] ونسيب عازار[5]، وكلهم من المتن الشمالي. فإنضم أسد الأشقر إليهم وبدأ مشواره الحزبي الطويل.
بعد خروج الزعيم سعاده من السجن واغترابه الأول إلى البرازيل، رافقه أسد الأشقر في جولة استمرت سنة تقريباً، وسجن معه خلالها في البرازيل 20 يوماً. وكان يقول أنها "معمودية النار" ومن أميركا الجنوبية عاد إلى أوروبا، ثم إلى لبنان عبر أفريقيا، ووصل إلى بلاده مع مطلع الحرب العالمية الثانية. في أول أيام الحرب اعتقل وسجن في القلعة، لكنه ما لبث أن أطلق من دون رفاقه، وقيل يومها أن السلطة اللبنانية تدخلت مع السلطات الفرنسية لتخليته، إذ كان الماروني الوحيد بين المعتقلين، وكانت السلطة المحلية لا تريد أن يقال أن مارونياً لبنانياً يمكن أن يدعو إلى وطن سوري قومي.
فور إطلاقه لم يشأ أسد الأشقر أن يستكين، فصارع الإستعمار واشترك في الأعمال الحزبية السرية وأصدر منشوراً بإسم الحزب السوري القومي يؤيد ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق، فاعتقل مجدداً وأرسل إلى سجن القلعة.
بعد فك أسره، وأسر الذين اعتقلوا في أيام الحكم "الفيشي" في لبنان، شارك أسد الأشقر في الأعمال الحزبية على كل الصعد، خصوصاً في الحقلين السياسي والإذاعي، وساهم في تحرير جريدة "صدى النهضة" وعند عودة سعادة من المهجر عام 1947، سارع مع نعمة ثابت إلى مصر لاستقباله ومواكبته إلى بيروت.
بعد عام 1949 كان أسد الأشقر دائم الحركة حلاً وترحالا. سافر كثيراً وإتصل برفاقه في المهاجر حاملاً إياهم على مؤازرة الحركة التي نذر لها نفسه.
عام 1957، على أثر وفاة رئيس الحزب مصطفى أرشيد، انتخب أسد الأشقر رئيساً. وانتخب في العام نفسه نائباً في المجلس النيابي عن منطقة المتن الشمالي.
كان رئيساً للحزب في أثناء "ثورة 1958" التي كان للحزب السوري القومي الإجتماعي كلمة قوية في مصيرها. وأسد الأشقر كان النائب الوحيد الذي لم يشارك في إنتخاب الرئيس فؤاد شهاب، لأن وصوله إلى المجلس كان بعد عملية الإقتراع. وقيل يومها أن هذا التأخير كان متعمداً، وأنه دبر بالإشتراك مع جهات لبنانية لم تكن ترغب في صول قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية.
أسد الأشقر شارك في الإنقلاب الذي قام به الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1961 وكان نصيبه السجن. فبعدما تمكن من الإختفاء مدة طويلة بعد محاولة الإنقلاب، وأصيب بكسر في إحدى قدميه لمحاولته الفرار من الجند الذي حاصره في "بيت الشعار"، وقع في الأسر وسجن وحوكم وتنقل من ثكنة الأمير بشير إلى سجن الرمل إلى مستوصف الكرنتينا إلى "أوتيل ديو" إلى سجن القلعة حيث بقي مدة طويلة كتب خلالها مقالات كثيرة نشر معظمها في "ملحق النهار" بتوقيع سبع بولس حميدان. وباشر خلال سجنه تحضير الوثائق لـ "تاريخ سوريا". له مؤلفات كثيرة مخطوطة، إنما له كذلك كتاب "معابد الريف" يتحدث فيه عن الريف اللبناني ويصفه وصفاً ولا أجمل.
أسد الأشقر تاريخ، وله أخبار يطول سردها قد يتعهدها يوماً من يهمه تاريخ بلادنا من خلال رجالاتها.
تزوّج رؤوفة الخوري من بلدة رحبة في عكار، وله منها غسان وأمل ونضال ونظام. قد يعود غدا إلى ديك المحدي محمولاً، ولكن بعدما هجرها قسراً، إذ دمر مواطنون له منزله ومنازل عائلته، فينام إلى جوار من سبقه من أبنائها المتفيئين ظلال صنوبرها ".
**********
أسد المتن: لك العرين
الأمين أنطون غريب[6]
رحلت عنا؟!
حاشا لمثلك الانكفاء وكنتَ لنا السيف والقلم.
أنت لم ترحل، بل نحن من رحل وتشتت ونأى، وبقيتَ أنت، أنت صنوبرة عتية تشمخ على رابية المتن الأشم.
أسد الأشقر القائد الرائد المقدام، واحد من رصيدنا الكبير، من رعيل المناضلين الطوباويين. آمن بالأمة، بالشعب والوطن، رسالة حضارة أبدية الى العالم، فانتضى النضال مهمة، وحمل ايمانه سلاحاً على الكتف وفي الفكر والعقل والبصيرة، وعاد من مغتربه بجني النجاح يبذره حقل عطاء وخير في مراتع الوطن ليحصد أشبالاً تعتز بهم الأمة سياجاً لوحدتها وكرامتها وحقها القومي.
رفض البعد عن الوطن في محنته وهو القادر لأن يبني له في اية بقعة من العالم امبراطورية ثراء كما فعل الغير. أصرّ على أن يذوب فيه خميرة خير وبركة يشاهد وهو على فراش المرض أشباله الأبطال يتحوّلون الى براكين دماء تطهّر الأرض من دنس العدو المحتل، فاستعاد في رؤيته أمجاد بيبلوس وصيدون وصور، وملحمة ميسلون.
اقام على عناد مع القدر، فهو في التحدي سيد.. انغرس في بيروت المشعلة المستباحة، أسداً جريحاً يرمق بتحفز العرين في ديك المحدي ويترقب التحرير الزاحف من قمة ضهور الشوير.. اجمات القمم في المتن الشمالي هي اليوم كما في كل مراحل تاريخها على جوى التلاقي والالتحام المصيري، قلعة منيعة ومنارة، تصون وترفد الفكر والحضارة على وسع الوطن وعبره في أرجاء المعمورة.
أعاد الوديعة بشموخ الرئبال الجريح، وللمرة الأولى كانت له وصية ذاتية، وهو الذي منح الذات والعمر بسخاء للقضية، لأمته. وصيته لحزبه، لأشباله، للوطن الذي منحه كل ما يملك حتى الروح، أن يغرس في قمة المتن مشرفاً على العرين في ديك المحدي وسط عبق الصنوبر المنثور امتداداً بين الاجمتين.
لعينيك يا رفيقنا القائد، يا أمين القضية التي ساوت وجودك ونطمح نحن اليوم أن تساوي وجودنا.
لعينيك يا أسدنا، فالمتن وقمة قممه ضهور الشوير، الذي اشتاق لزأـرة الحق تطلقها في أرجائه ولوئبة الأقدام والتحدي على رباه.. متنك، ومتننا كلنا على موعد اليوم معك سنديانة عتيقة، صنوبرة شامخة العبير تنغرس في أرضه المعطاء لتستكمل أجمة العرين أفياء المغروسين فيها شوامخ عز وعنفوان.
أديت قسطك كاملاً في النضال الحق، قيادة وفكراً، وأنت اليوم مقيم أبدي بيننا لنا في مثالك قدوة وفي فكرك نبراس هداية، فكما كنت في أسرك منارة حوّلت ظلمة السجن إلى أنوار استشراف فكري نير، انت اليوم لنا جميعاً مشعل تراث يصنف في خزائن حضارتنا المتجددة.
لك منا اليوم عهد وفاء والتزام بالنضال في سبيل القضية حتى تسليم الوديعة، فالبقاء الدائم للأمة التي بها آمنت ولمجدها ناضلت ".
**********
النائب البير مخيبر[7]
أسد الأشقر الذي أفرزته أرض المتن المعطاء، يعود إليها اليوم ليغني تربتها.
عندما جاء المحامي الفرنسي الكبير موريس غارسون من باريس ليدافع عن سجناء القلعة آنذاك وبعد مقابلته الطويلة لهم، عاد ليقابل الرئيس فؤاد شهاب وليقول له: " يا فخامة الرئيس، أتمنى أن يكون عندكم في لبنان كثرة من اللبنانيين النخبة بالمستوى الثقافي والفكري لهؤلاء السجناء غير العاديين ".
نعم، أسد الأشقر كان بين هؤلاء، كان عالماً مفكراً يستصغر الدنيا لفرط طموحه، وكان طموحه طموح هنبيبعل بالذات.
عمل في التجارة والصناعة المهجرية، فجمع المال الكثير بكده وذكائه، وعاد إلى لبنان لينفق ماله في المشاركة في بنائه، وكان عوناً لكل طالب عون على أي صعيد. ثم عمل في السياسة وعلى رغم إنتمائه الحزبي لم يكن يوماً متحجراً، فكان النقاش والجدل الرفيع أسلوبه في أي ظرف وأي مكان. كانت لديه محرمات أهمها التيارات الطائفية القاتلة التي كان يقول أنها ستدك بنيان لبنان إذا إستمرت، والأيام السود التي نعيشها اليوم خير شاهد ودليل على صدق قوله وأصالة رأيه.
أحبّه المتنيون فانتخبوه نائباً عن ثقة وتقدير، وها هي سجلات مجلس النواب خير إثبات على بلاغة خطبه الوطنية وجديتها.
أجبر على ترك قريته، ديك المحدي، وشاهد من بعيد حريق بيته وشاهد من عمان النار تأكل كل لبنان فعاد إليه وقد أثقلت أحداثه ظهره فإنحنى يكتب التاريخ وانزوى في تأملات الرهابين القدامى والصوفيين يخاطبون ربهم من زنزاناتهم ومناسكهم.
التقيته آخر مرة في ربوع بلدة المروج، وعلى رغم ما لمست من إنهيار صحته، وجدته في حديثه هو هو، الأسد ذاته الثأئر الدائم والمؤمن بالغلبة – بالحياة وكأنه سيحيا أبدأ – ويغيب اليوم، وغيابه لن يكون سوى أفول المغيب ليعود فيشرق مجدداً على ربوع المتن وغاباته، وفي قريته ديك المحدي المحظورة عليه وقد أعاد إليه الموت حرية العودة.
**********
نعي الحزب للامين اسد الأشقر
الحزب السوري القومي الإجتماعي وآل الأشقر ينعون إلى الأمة فقيدها المناضل الكبير
الأمين أسد بولس الأشقر،
رئيس الحزب السابق ونائب لبنان السابق وحامل وسام سعاده
توفي في بيروت صباح الجمعة 13/6/1986
يصلى على جثمانه الساعة العاشرة قبل الظهر يوم الأحد 22/6/1986 في كنيسة سيدة الوردية في رأس بيروت وينقل إلى ضهور الشوير حيث يشيع باحتفال تأبيني الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.
تقبل التعازي للمشيعين في ضهور الشوير بعد الإحتفال التأبيني، ويومي الإثنين والثلاثاء 23 و24 حزيران الجاري في دار الفقيد في رأس بيروت شارع عبد العال بناية ارتوا قبالة وزارة الإقتصاد.
يرجى عدم إرسال أكاليل والتبرع بالبدل لعائلات شهداء الصراع ضد العدو الإسرائيلي.
والبقاء للأمة والخلود للشهداء
[1] جوزف نصر: صحافي معروف، للإطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الإجتماعية www.ssnp.info
[2] رفيق الحلبي: من بلدة "بشامون". مؤسس العمل الحزبي في "كوماسي". للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.
[3] امين الاشقر: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.
[4] شاهين شاهين: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.
[5] نسيب عازار: من عينطورة. سقط شهيداً في مجزرة عينطورة. عرف بـ"قديس الحزب"
[6] أنطون غريب: من الدامور، صحافي عريق، تولى في الحزب مسؤوليات مركزية عديدة منها عميد للإذاعة، ومدير تحرير جريدة "البناء".
[7] نشرها في جريدة "النهار" بتاريخ 17/6/1986.