مؤسسة سعاده للثقافة، تفقدُ اليوم أحدَ أعمدتِها الرئيسيين..
أمينٌ مميزٌ وعضوٌ في المؤسسة معطاءٌ، آمن بأهميةِ نشاطِها، ودَعَمَها بشكلٍ مستمر.
ورفيقٌ تتقاطرُ من دفّتَي كتابِ حياتِه، صفحاتٌ مضيئةٌ،
تزيّنُها صورُ العطاءِ والتضحية والشموخ.
كلماتُ الرِّثاءِ هذه لن تَفيكَ حقَّك، يا أمين مهاب..
فأنت الذي لم تَحِدْ يوماً عن التزامك بمبادئِك ومناقبيّتِك،
في زمنِ الإنحطاط والتحلّلِ القيَميّ والعَقَديّ،
في حقبةِ المدنيةِ الزائفة،
في عهود التبعيةِ والهوانِ والردّةِ، عن المبادئ الناصعة والمعاني الجميلة.
فأبيتَ إلّا التمسكَ بالمناقبيةِ التي خطَّها لنا سعاده، والمساعدةَ الدائمة وغير المشروطة لمجتمعٍ افترسَتْهُ وحوشُ الطائفيةِ والاستغلال. فطبعتَ بصماتِكَ المؤثّرة في كل مكان، وتركَتْ أعمالُكَ آثارَها العميقة، لتنظرَ اليها الأجيالُ القادمة بفخرٍ وإعجاب.
ساعدتَ مؤسسة سعاده للثقافة، لتنهضَ وتصارعَ على أكثرِ من صعيد، لمواجهةِ هذا الواقع المرير، ولتبقيَ فكرَ سعاده منيراً ومنتشراً في مجتمعنا والعالم، وتُظهِّرَ الصورةَ الحضارية الحقيقية، التي يجسدها هذا الفكر.
نقف اليوم جميعاً هنا، لنودّعَك جسداً، موقنين أنّك ستبقى حياً أبداً، في ذاكرةِ النهضةِ والمجتمع، وفي قلوبِ ووجدانِ عائلتِك واصدقائِك ورفقائِك ومحبِّيك.. الذين نتقدم منهم بأحرّ التعازي فرداً فرداً، باسم المؤسسة إدارة وأعضاء.
أُنظُر كيف جاؤوا من كل حدبٍ وصوب، الى بشامون الأبية، لوداعِك، تجمَعُهُم روحُكَ الجميلة، ومسيرتُكَ النقيّة، ووقفاتُكَ التي لا تنسى، في ساحات الوغى ومواقع العمل الاجتماعي،
تجمعُ بينَ البطولةِ والمروءة،
بينَ الشجاعةِ والكرم،
في ثقافةِ البذلِ والعطاء،
لكلِّ ما فينا، حتى الدماء...
إستمعْ الى نبضاتِ القلوب، وشهقاتِ الصدور، وانظرْ الى لَمَعانِ المآقي، لترى الجمعَ هنا قد تحوّلَ بحراً من الدمع والحُبِّ والحُزن.
كلُّنا راحلون..
وقبلَنا رحلَ الكثيرون، وغداً نلحقُ بكم نحن وغيرُنا. فهذه سنّةُ الحياة، نمرُّ بها لبِضعةِ سنينٍ أو عقود، فإمّا نَمضي ولا يشعُرُ بمرورِنا وغيابِنا أحد.. وإما نتركَ أعمالاً ومواقفَ تَبقى خالدة، بمدى قيمتِها وأهميّتِها وأثرِها على الآخرينَ والمجتمع.
من هنا تنبعُ أهميّةُ نموذج مهاب حسان.
المناضلُ الأصيل،
والرياديُّ في العملِ والانتاج،
والانسانيُّ المحتضنُ لأبناءِ مجتمَعِه وبيئتِه وحزبِه،
العقائديُّ الصلبُ الحرّ،
الذي لا يهادنُ الفسادَ والتسلّط،
ولا يتركُ معتقداتِهِ ورفقائَه يومَ تُنعمُ عليه الحياةُ والجهدُ، ليصبحَ أحد كبار الأثرياء.
لم تَغرُّه الثروةُ والنجاح، ليصبحَ فردياً برجوازياً مستبداً متكبّراً، متنكراً لقيَمِهِ واصالتِه ووطنِه وعقيدتِه وحزبِه، كما فعلَ ويفعلُ الكثيرونَ من مختلفِ المشارب.
بل ازدادَ تواضعاً وتجذُّراً ومحبةً وأصالةً وبذلاً وحرصاً ومتابعة...
كانت يمينُهُ تجهلُ ما تُعطي يسارُه.
وكان مقصداً موثوقاً لكلّ محتاجٍ صادق.
برّ بقسمِهِ الى أقصى الحدود على مدى نصف قرن، فقدّم كلَّ مساعدةٍ ممكنة لمن هُم بحاجة اليها، لمرّاتٍ لا تحصى، كما كان الداعمَ الدائمَ للحركة والمؤسسات والأنشطة والمبادرات والمشاريع والمخيّمات، وللثقافةِ والفكر، ولمجهوداتِ الدفاع، على مدى عقود.
لم يطلبْ شيئاً لنفسه. لم يساوم. لم يتبجّح. لم تكن تَعنيهِ المناصبُ والرُّتب. يكرهُ المديحَ الكاذب، ويمارسُ المثالية في العلاقات الاجتماعية على أكمل وجه.
غيرُهُ ممن قدّموا بعضَ ما قدمه هو في سبيلِ قناعاتِه ومجتمعِه، تحوّل الى وجيهٍ متسلطٍ مُتَشاوِف، أو منافسٍ على مواقع السلطة ومراكز القوى داخل الحزب، أو تخلّى عن الحركة، وتنكّر للفكر، ليدخلَ أنديةَ رجالِ الأعمالِ ودوائر الأثرياء.
فيما هو بقي من أنصعِ كبارِ القومِ قيمةً، وبقيَ بنفسِ الوقت، حتى الرّمق الأخير، الرفيقَ المثاليّ، الملتزمَ الخلوقَ اللائق، الحريصَ المتواضعَ المحبَّ الأمين. ثابتٌ على الحقّ والقيم، ومواجهٌ شرسٌ للمفاسد والانحطاط... ورافضٌ بحزم مسايرةَ الفسادِ والتبعيّة، حتى لو تضرَّرَتْ أو تأثَّرَتْ مصالحُه وأعمالُه..
اليوم يغيبُ أبو محمد بالجسد. لكن نموذجَ مهاب حسان، بهذه الصّفات، سيبقى خالداً ومجلجلاً في وجدانِ أجيالنا القادمة، وفي سِيَر المناضلين الأخيارِ الأصفياءِ المميّزين.
كم هي فقيرةٌ وضحلةٌ، الحركاتُ والتياراتُ والمؤسسات، التي لم يمّرْ في تاريخها نموذجٌ حيٌ نابضٌ، كمهاب حسان، صمدَ خمسين عاماً في النضال القومي والاجتماعي، ولم تهزُّه المغرياتُ والنجاحات، ولا المصائبُ والتهديدات، وبقي صامداً شامخاً مؤمناً رصيناً قوياً...
كانت لدينا في النهضة، نماذجُ كثيرةٌ للشهادةِ والبطولة، والفكرِ والتضحيةِ والمواجهة، وحتى الفقرِ مع العزّ... فجئتَ أنتَ لتضيفَ اليها نموذجاً جديداً، يمزجُ العملَ والجهدَ والتميّزَ والإنتاجَ والعصاميةَ والغنى، مع التمرسِ بالقيمِ والمناقبِ والمبادئِ، والمحبةِ والتواضعِ والعطاءِ بدون شروطٍ أو مقابل.
غداً على دروب العزّ الآتي يا أمين مهاب،
إن أردنا ان نعلّمَ أبناءَنا وأجيالَنا الجديدة
على الصمودِ والبطولةِ والمروءةِ،
والعطاءِ والرقيِ والمحبةِ،
والتألقِ والنجاحِ والتميّز في حياتهم المهنية والاجتماعية،
وعلى التواضعِ وبذلِ الذاتِ في سبيلِ المجتمع،
فإننا سنفاخرُ أنَّ في تاريخِ نهضتنا نموذجاً يقاربُ المثالية،
عاصرناهُ وتعلّمنا منهُ وأحبَبْناه،
وكانَ دائماً يفاجئُنا بقدرتِه المتجدّدة،
على المزيد من المحبة والعطاء والسموّ والتميّز،
والتمرّسِ بالمناقبيّةِ الصّافية...
هذا النموذجُ هو أنت...
يغيبُ الجسد، ويبقى النموذجُ خالداً...
علّمتَنا بالممارسة العملية، وبعيداً عن التنظير والسفسطة، كيفَ نطبّقُ في تفاصيلِ حياتنا اليومية، العقليةَ الأخلاقيةَ الجديدة، التي جاءَ بها سعاده، واعتبرها أثمنَ ما يقدمُّه الحزبُ للأمة..
وعلّمتنا بالقدوة، أننا لا نخلُصُ ولا نخلُدُ لمجرّدِ أننا قوميون. بل إنَّ الأثرَ الذي نتركُه في المجتمع، من خلال أعمالِنا وإنجازاتِنا، وتضحياتِنا وعطائِنا، وسلوكيّتِنا وأخلاقِنا، هو الشرطُ الضروريُ، لكي تفرضَ نفوسُنا حقيقتَها على هذا الوجود، عندما تسقطُ الأجساد...
أتخيّلكَ في خلودِك، وكما كنتَ تسارعُ دائماً، لجمْعِنا على مائدَتِك، كلّما حلَّ أحدُنا وارتحل، اتخيّلك في الضّفة الأخرى، ترتّبُ مائدةً يترأسُها سعادة، ويحضرُها أحبابُك الأمناءُ الخالدون، كامل حسان، إنعام رعد، بشير عبيد، محمود عبد الخالق، جبران عريجي، والكثيرون غيرُهم... فهينئاً لك خلودُك.
نعاهدُك أن نكملَ مسيرةَ الصّراعِ والعطاء، مثلَك، حتى الرمقِ الأخير، ونسلّمَ الرايةَ الى أجيالِ النصرِ الآتي، لنستحقَ أن تولمَ لنا مجدداً معكم، وليمةَ الخالدين.
البقاء للأمة ولتحيَ سورية وليحيَ سعاده