انفرد أنطون سعادة بالتأسيس لحزب عقائدي، من مهماته نصرة الأمة وإقامة نظام جديد وتحريرها من الاستعمار والاحتلال والتخلف والطائفية، ليقوم شعبها الحر بدوره في معركة الوجود، عبر هوية واضحة، لا لبس فيها، ولا ظلامية دينية وطائفية فيها، ولا ارتهان للخارج، إلى آخر منظومته التي ما حاد عنها في كتاباته وفي سلوكه وفي قيادته لحزبه قيد أنملة.
************************************
لم يعطِ الزمن أنطون سعادة فرصة الإنجاز. ما إن عاد من مغتربه القسري، حتى لوحق وحوصر وطورد.. وتوّج نضاله بالشهادة، أو بالقتل المدبّر والسريع. كانت «محاكمته» وصمة عار.. كان الظن البائس لدى طغمة القتل، أن بنهاية سعادة، تنتهي القضية ويتفرق الأتباع. إنها مرحلة مأساوية ودموية وجريمة من كبريات الجرائم، يا للتاريخ السياسي للشعوب المتقدمة.. وحوش الطوائف المفترسة، أشد حيوانية وتكالبًا من اللصوص والقراصنة.. إنها جريمة ارتكاب ترقى إلى مستوى الخيانة.. إنما هذا لا يعفينا من طرح الأسئلة.
عملية القتل كانت مدبّرة وموقّع عليها من دول وأنظمة تدور في فلك المهادنة والمسالمة مع إسرائيل. فلسطين كانت قِبلةَ سعادة. كتاباته وخطبه ومتابعاته واستمراره في التعبئة النفسية والفكرية والعملية قادت عصابة الإجرام إلى قتله بأبشع وأفدح الوسائل.
إنما، مرة أخرى، في مراجعة للحدث المأساوي، تطرح أسئلة ميدانية:
أ – عندما هبط سعادة من الطائرة عائدًا إلى أرض الوطن، كانت الساحات والطرقات قرب المطار قد امتلأت بالقوميين الذين حضروا من لبنان وسوريا وفلسطين.. يقال: كانت الأعداد بعشرات الآلاف.
ب – عندما جرى الاعتداء في الشارع، من قبل الكتائب على مطبعة الحزب القومي، حيث كان سعادة يتابع مقالته للنشر، اضطر سعادة أن يخرج ويعود إلى بيته، وهناك لوحق وقرر التخفي.
جـ – المواجهة في الشارع بين كتائب وقوميين. السؤال: أين كان القوميون إبان حادثة الجميزة وبعدها؟ أين عمدة الدفاع؟ أين «الحشود» لتنزل إلى الشارع، أو إلى الشوارع، وتخوض مواجهة موضعية، مع «الكتائب» ومع «الأمن» الذي عاث بحثًا وتفتيشًا عن قوميين، لجؤوا إلى الهرب بدل المواجهة؟
د – أين القوى النظامية؟ لماذا لم يتم تحريك القوميين للمواجهة؟ مما اضطر سعادة إلى اللجوء إلى سوريا، حيث وقع في مصيدة الأنظمة العربية والدول الغربية معًا، وتم تسليمه إلى الإعدام.
هـ – لماذا اقتنع سعادة بالتعاون مع حسني الزعيم، برغم النصائح التي قدمت له من عارفين بمزاج حسني الزعيم وتقلباته وسرعة استجابته للهدنة مع «إسرائيل».
و – لِمَ انتهت المعركة عندما بدأت وقبل أن تطلق رصاصة واحدة. حجم المعارك خجل جدًا، لا استعداد، ولا «جيش قوميًا» ولا شيء يشي بتنظيم واستعداد وأهلية. كان من المفترض، أن يخوض القوميون معركتهم في شوارع بيروت والمدن والقرى، حيث هم منتشرون. لم يحدث شيء من ذلك، ما يعني وجود «فراغ للقوة المفترضة”. ولا أتصور أن يكون هناك قوة، لا تصمد ساعات قليلة في مواجهة جيش وأمن ركيكين.
لقد خسر الحزب، زعيمه وقائده وقاعدته في لبنان. ثم قاعدته في سوريا، وهنا أتوقف عن الكلام، مع الرجاء بأن تكون الردود موضوعية ولا اتهامية.. إنها أسئلة وقراءة.. إنني أفضل دائمًا، الاستشهاد كطريق للانتصار وليس الانكسار. ما حصل كان انكسارًا، أورث الحزب مسيرة من الانكسارات.
هل كان الحزب بعد سعادة، حزب الانتصارات أم حزب الانكسارات؟
ليس الهدف نكء الجراح، بل مراجعة جريئة وملتزمة لمسيرة تعثرت، فأخفقت في ترجمة العقيدة فعلًا وإنجازًا. والدليل ما آلت إليه مسيرة القوميين بعد تسعين سنة من التأسيس، وأفتح قوسين لملاحظة ملفتة للإنتباه وهي إكثار القوميين، يوميًا، وفي كل منعطف، بالاستشهاد بأقوال سعادة. ولا نجد استعادة لأفعال وإنجازات المؤسسة الحزبية، حيث كانت دائمًا في سباق مع الفشل.
أ – فشل في إدارة الصراع في «سوريا»، مقتل عدنان المالكي، قصم ظهر الحزب في الشام لعقود وما زال. لا أعرف من قتل المالكي، ولكن أعرف أن مقتله، كان مقتلة للحزب أيضًا.
ب – الاستئثار بالسلطة الحزبية والصراعات عليها، أودى بالوحدة فتشلع الحزب وانشطر ولا يزال. خسارة الوحدة، خسارة للحزب. والحبل على الجرار.
جـ – لجوء الحزب إلى لبنان، بعد اضطهاده في الشام، أدى به إلى أن يتقيأ رئاسة كميل شمعون، والوقوف إلى جانبه، علمًا أن الحزب كان قد دشّن عدائيته لجمال عبد الناصر، وكان موقفه من “العدوان الثلاثي” مثير للشكوك. وما يبرر الشكوك، أن يصبح سلاح الحزب القومي في الحرب الطائفية اللبنانية إلى جانب الكتائب و«أنصار شمعون» و..
د – من يراجع تلك الحقبة، يجد أن الحزب حالف، نوري السعيد في العراق، وأميركا في لبنان، والأردن في الإقليم، أي كان في صف الأعداء والرجعية.. هل هذا حزب نضال أم خادم في السياسة؟
هـ – خرج الحزب القومي من معارك 1958 عاريًا. الطوائفيات استعادت مواقفها، ودُفع بالحزب إلى الخارج، جريدته كانت تشنّ هجومات متتالية على العروبيين الناصريين الذين كانوا يتصدون للنفوذ الأميركي- الإسرائيلي في المنطقة.. ولم يكن مستبعدًا أن يتهم الانقلاب بأنه مدعوم من الغرب.
و – جرت محاكمة حزبية للانقلاب والمسؤولين عنه، وصدرت أحكام تدين العمل وتعاقب المسؤولين. وهذا دليل، على أن الأداة النهضوية ضلّت الطريق، وتحولت إلى فاعل سياسي عادي، شبيه بالتيارات السياسية الرجعية والطائفية، والسؤال، كم كان الحزب، كأداة نضال، بعيدًا عمّا جاء في العقيدة.. العقيدة ناصعة. الممارسة ناقصة ومضادة للفكر والأعراف، وإذا، فتحت الملفات لوجدنا أن الانقلاب كان قد أعدّ قيادة سياسية لا تختلف عن التوزيع الطائفي الراهن. فكروا برئيس جمهورية ماروني، ورئيس حكومة سنّي!
ز – تشظى الحزب بعد مؤتمر ملكارت التصحيحي سياسيًّا، والمبادر إلى تثبيت الديمقراطية الحزبية التي قضت بإلغاء طبقة الأمناء. الانقسامات أطاحت بالوحدة. ازدهرت الاتهامات المتبادلة. حرب داحس وغبراء. انشقاق يحاكم انشقاقًا. اغتيالات، تصفيات، ارتباطات، عداوات. لم يعد يطاق، لم يعد لمعنى الأمين الأمانة، ولا الرفيق الرفقة. أعداء، التحريض لغتهم إلى آخر معزوفة الشقاق والبعاد والارتهان.
في الخلاصة، التجارب الفعلية الفاشلة، مفيدة جدًا إذا نُظر إليها كتجارب يلزم تجنبها. مسارات الحزب بائسة جدًا، ومخيبة للآمال، والطموحات والممكنات. وهذا النقد لا يهدف إلى التشفي، بل إلى التأمل، وطرح الأسئلة الحقيقية ذات البعد العقدي المرتبط عقديًّا بالإنجاز. لا قيمة لمؤسسة، أو مؤسسات تتنافس دستوريًّا وقانونيًّا، ولا تستفيد من حركات الانفصال والانشقاق. لصياغة مشروع وحدة الحزب. كونها فوق كل اعتبار، بهدف العمل الأساسي، لوحدة المجتمع، ولو بعد عقود، ووحدة الأمة ولو بعد أكثر من ذلك.