مهما كُتِب عن موضوع أنطاكية، لواء الإسكندرون والحدود الشمالية لسورية المغتصبة من العدو التركي، وكنّا نشرنا بعضاً من الدراسات، إلا أنّ هذا الموضوع يستحق أن يكتب عنه الكثير، والأهم أن يقرأه القوميون الاجتماعيون والمواطنون، فيتعرفوا على جانب من المؤامرة التي حدثت ضدّ أمتنا.
هذه الدراسة من إعداد قسم الدراسات في مكتب دمشق لمجلة "صباح الخير – البناء"، وقد نُشرت ضمن العدد 622 تاريخ 17/12/1988. ننشر اهم ما ورد فيها.
ل. ن.
*
مراكز التوقّد تنشر نسيج حضارتها، وتعانق توافد الرؤى والوجوه في الحضارات الساعية إلى التفاعل. تلك هي مدن الشمال السوري، توضِع أسماءها على باب الذاكرة شارات لتأريخ حميم ودافئ للعقل الرسولي المغيّر الفاعل.
*اسكندرونة، التي كان اسمها الأول مدينة "الملكة حيرا" – الملكة الفينيقية التي شيّدتها فوق لسان صخري ممتدّ في مياه البحر المتوسط – والتي دمّرها زلزال نتج عنه خليج اسكندرونة، انتصبت أعمدة بنيانها بعد معركة "ايسوس" عام 233 ق. م. فاحتضنتها سورية بتواصل حياتي لا يسمه فصام.
*وبعد الاسكندر جاء سلوقس فبنى في الشمال 60 مدينة، أهمها وأكثرها بريقاً (أنطاكية) التي قرنها بِاسم أبيه، وسلوقيا (........؟) التي منحها اسمه، ثم اللاذقية. وقد قرأ السلوقيون القسمات السورية الصريحة في وجه أنطاكية، فأسموها (أنطاكية سورية)، التي أضحت عاصمة المملكة ومركز التقاء حضاري راقٍ تستقبل الفكر الإغريقي وتنشر الرسالة المسيحية إلى سائر أنحاء العالم، بعد أن تعبر بها من لغتها الآرامية إلى الترجمة الإغريقية.
والتسمية السورية نجدها في سطور التاريخ واسمةً كلّ مدن ومعالم الشمال، لا أنطاكية وحدها. فممر (إيسوس: بيلان) خُطّ في الوثائق التاريخية بِاسم (باب سورية).
وبقيت (دفنة)، في العهد الهلنستي، واحة للمسرات يستقر فيها هيكل أبولو المبني وسط غابة يتدفق فيها الماء رحيقاً. أمّا (بعل)، فقد استمرت طقوس عبادته رغم مؤثرات الإغريق، الذين زاملوا بين الآلهة المحليين وآلهتهم، فاقترن اسم زيوس بـ"بعل".
وازداد بريق أنطاكية في ذلك الامتداد الزمني، بمعالمها الشهيرة وتدفق الحجاج والزوّار إلى ضاحيتها
(دفنة)، وشمخ فيها مسرح يوليوس قيصر وأعمدة السوق التي بناها (هيرودوس)، كما احتضنت الألعاب الأولمبية في ظلّ (كومودوس).
ووصف المؤرخون أضواء ساحاتها وشوارعها وقد حوّلت الليل نهاراً، وحدائقها وقد سوّرت بالخضرة الشارع الرائع الواصل بين المدينة ودفنة، والذي تتدفق على جانبيه عيون الماء وتنتصب على امتداده (المساكن الضخمة).
ومن يتابع وصف المؤرخين وحكاياتهم، يرسم في مخيلته أنطاكية ساحة لاحتفال بهيّ، يعبق بقصص الناس وطقوس فرحهم.
وقد بقيت مدرسة الرها جامعة للكنيسة السريانية وبؤرة إشعاع أدبي وفلسفي سوري حتى عام 489 م، حين عاد أساتذتها إلى (نصيبين) بعد حدوث النزاع اللاهوتي.
ومن أنطاكية ارتفعت رايات الثورة المقاومة للاحتلال الفرنسي، أشعلها (إبراهيم هنانو وصبحي بركات ومحمد أطه لي وغيرهم من القادة) في الفترة الممتدة بين 1919 – 1920.
(هذا القسم من إعداد الأمين صفوان سلمان)
*
الشمال السوري: حصن منيع وأرض خصبة
عدا عن كونه يحتوي أفضل مرفأ طبيعي في شرق المتوسط، وأكثر أمناً للسفن، وأشد لياقة لأن يستخدم ملجأ للأساطيل. فإنّ خليج اسكندون يشرف عسكرياً على جزيرة قبرص وقناة السويس، ويُعتبَر المنفذ الطبيعي الذي يمكن أن تسلكه الجيوش العدوّة الساعية إلى غزو الداخل السوري.
أما "البوابات الكيليكية" فإنها معبر استراتيجي، تهدد السيطرة الأجنبية عليه، ليس سلامة منطقة أضنة – مرعش ومنطقة الاسكندرونة – حلب فحسب، بل سلامة الوطن السوري كله.
واسكندرون وكيليكية مطوقتان بجبال طوروس وانتي طوروس "اللكام" بذراعين منيعين يحوّلان المنطقة إلى قلعة صعبة المنال.
ثمة ممر بيلان الذي يشطر جبال الأمانوس إلى شطرين، ويصل منطقة حلب وسهل العمق بساحل الخليج، ويمهّد السبيل للوصول إلى سهول كيليكية الفسيحة.
وثمة باب كلك، الذي سماه الرومان باب سورية، والذي شطر الجناح الغربي لجبال طوروس إلى شطرين، ويسهل المرور إلى سهل أضنة.
وهما الممران الوحيدان الصالحان لسَوق الجيوش، مع حماية خطوط تنقلها وتأمين الإمدادات إليها.
والخصائص الجغرافية التي تتمتّع بها أنطاكية، كما يقول البروفسور هوبارت، جعلت منها عاصمة لسورية. فإليها يتجه الطريقان المباشران من البحر المتوسط إلى الداخل، وهما يمرّان من مصب العاصي وممر بيلان فيلتقيان بالطرق المنحدرة من جبال الأمانوس وضفاف الفرات.
*
كثير من المعارك التي غيّرت وجه تاريخ الشرق، وربما العالم، دارت رحاها في هذه المنطقة الحصينة من سورية.
ففي بياس، شمال مدينة الاسكندرونة، انتصر الاسكندرون المقدوني على ملك الفرس (داريوس) في معركة ابسوس الشهيرة عام 333 ق. م. لتفتح أمامه أبواب الهند.
وفي سهل العمق استطاع الرومان أن يكسروا جيش زنوبيا ملكة تدمر، لتبدأ بذلك نهاية مملكتها العظيمة.
وفي بيلان، وقف هرقل الروم المهزوم أمام جيوش الفتح المحمدي العربي، يودع سورية قائلاً: "سلام عليك سورية، سلام مودّع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً".
أما الصليبيون، الذين اعتبروا أنطاكية مفتاح الشرق، فقد حاصروا هذه المدينة ستة أشهر قتلوا خلالها 30 ألفاً من سكانها. وقد توقّف زحف حملتهم الأولى عند "جسر الحديد" الذي يشكّل، دائماً، عائقاً أمام الغزوات.
وفي عام 1516 دارت في سهل العمق معركة (مرج دابق) التي انتصر فيها جيش السلطان (باودز سليم) العثماني على جيش (قانصو الغوري) ففتحت أمامه سبُل حلب وبغداد ودمشق والقاهرة، ودانت كلها للحكم العثماني.
وبعد الحرب العالمية الثانية، توجهت أنظار بريطانيا وأميركا إلى هذه المنطقة، فأقامت الأولى ميناءً جديداً في الاسكندرونة السليب، وأنشأت أميركا قاعدة بحرية وبرية تعتبر مفتاح قاعدتها العسكرية الكبرى في "كيليكية"، ومدت منها خطي أوتوستراد عالميين يتجه الأول نحو الحدود الشرقية المتاخمة للاتحاد السوفياتي، والثاني نحو مضيق البوسفور والبحر الأسود.
تشكّل أرض الشمال امتداداً طبيعياً للبيئة السورية الخصبة؛ إن من حيث تنوّع التضاريس وتشابكها، وإن من حيث غنى الأرض بالثروات. فعلى شواطئ اسكندرون وبياس وأرسوز والسويدية وغيرها، رمال تدغدغها الشمس ويراقصها البحر، وأشجار تشرب فرح التراب وتوزّعه على الناس فيئاً وغلالاً.
وفي سهل العمق، وسط اللواء السليب، وسهول أضنة والرها وماردين وديار بكر، بساتين مشمش وتفاح وبرتقال ورمان، وحقول قطن وبطيخ وسمسم وبقول شاسعة سخية.
أما مصادر المياه فكثيرة، أهمها النهر الخالد (العاصي) الذي يغذي سهول أنطاكية وما حولها، ماراً بجسور نقش عليها التاريخ كلمات من نور وخضرة.
ثم أنهار هونبيك، ولي، بكرلي، بدركة، القواسية، الحسينية، الأسود، عفرين، والريحانية، وكلها غزير عذب.
وأيضاً بحيرة (عمّر) التي أسماها الأتراك (ياني شهر)، وشلالات دفنة حيث عشق أبولو حورية سورية وصار شجرة غار. وتختزن أرض الشمال السوري كنوزاً معدنية ممتازة. فالذهب متوفر في بعض مناطق اللواء، وهو ينجرف مع سيول الجبال في نهر العاقلية، إضافة إلى الكروم والنيكل والنحاس والبترول والاميانت.
صيد السمك، وعصر الزيتون، وصناعة الزجاج والنسيج، هي المهن التقليدية في الشمال، يُضاف إليها الآن العمل في قطاع النقل البري والبحري.
(هذا القسم من إعداد وليد المطر)
*
وبذلك كشفنا عن آثار مدينة "آلالاخ" – التي عُرفَت فيما بعد بِاسم أنطاكية – والتي يتعدّى تاريخها النطاق المحلي، مسجلاً باستمرار ذكر الإمبراطوريات الكبرى مثل سومر، بابل، مصر، وإمبراطورية الحثيين وعاصمتها "بوغازكي" في الأناضول، والحوريين والميتانيين. وتحمل حضارة آلالاخ سمات الفن الكريتي المدهش، وتظهر على تماس مع العصر البرونزي في قبرص، وتعطينا معلومات جديدة عن الأوضاع الاقتصادية في أثينا، وتدلّ على أنها في الزمن المتأخر ساهمت في تأثير الحضارة
السورية على النهضة الإيطالية. (ليونارد وولي في كتابه "آلالاخ مملكة منسية").
لقد اهتم جميع الصليبيين بأن تكون أنطاكية هدفاً لهم، والواقع أنهم لم يأملوا في أن يكون بوسعهم المسير جنوباً نحو فلسطين، ما لم يقع بأيديهم الحصن الكبير: أنطاكية. (ستيفن رنسيمان "تاريخ الحروب الصليبية").
إنّ أهمية الاسكندرون ناشئة عن علاقاتها مع ممر بيلان، باب سورية عبر التاريخ، لأنّ بيلان مدخل هيّن إلى سهول سورية الشمالية التي كانت أنطاكية وحلب عاصمتَين لها منذ القديم. كذلك، فإنّ الاسكندرون هو المرفأ الشمالي الطبيعي والأهم لسورية. (البروفسور هوجارث).
*
من الأمور التي تستحق التأمل، أن سوريّة كيليكية واسكندرون، لم تكن في أي وقت من الأوقات موضع جدل أو نقاش. لولا المؤامرات الاستعمارية العدوانية التي قام بها الأعداء، الذين أصبحوا أصدقاء على حسابنا، ومع أنّ فرنسا وتركيا كانتا – خلال الحرب الكونية الأولى – عدوّتين تتقاتلان، فإنهما – فجأة – أصبحتا صديقتين.. بل حليفتَين، تجمعهما مع إنكلترة غاية واحدة.. تركيا لا ترغب أن تقوم بجوارها دولة سورية قوية، كما كان الأمل يومها، وفرنسا تخشى منذ زمن بعيد كل محاولة سوريّة تهدف إلى إقامة الوطن السوري المنيع بنهضة الأمة السورية الواحدة، الواعية مصالحها، الراقية بمفاهيمها ومثلها العليا، القوية بنفسية شعبها المستمدة من تاريخها الثقافي السياسي القومي الطويل.
ومن جهة ثانية، فهي ارتبطت – بما لها من مصالح استعمارية – مع بريطانيا الاستعمارية باتفاقيات ليست أخطر وأولها اتفاقية سايكس – بيكو، ولن يكون آخرها "إقامة وطن قومي لليهود" على جنوب وطننا فلسطين، حسب وعد بلفور البريطاني.
وهكذا التقت السياسة الاستعمارية الفرنسية مع سياسة أعداء سورية، والتقت مطامع الأتراك الذين كانوا يرغبون في استعادة بعض أسلاب الإمبراطورية العثمانية، مع السياسة الفرنسية. لذلك، ما أن وضع الفرنسيون أقدامهم في سورية، حتى تعاونوا مع الحركات التركية المناهضة للمصالح السورية إلى أبعد حد، وعقدت فرنسا مع تركيا "معاهدة أنقرة" سنة 1921(1)، وكانت هذه المعاهدة أول خطوة عملية لتجزئة الوطن السوري.
فقد تخلى الفرنسيون(2) بموجبها عن جزء غالٍ من أرض الوطن السوري هو كيليكية وما حولها من مناطق، وبلغ مجموع مساحة هذه المناطق 60 ألف كيلو متر مربع، وبالإضافة إلى ذلك منح الأتراك امتيازات لغوية وثقافية في لواء اسكندرون(3) تمهيداً لاستكمال مؤامرة سلخه! فتضمّنت معاهدة أنقرة مادة تنص على تطبيق نظام إداري خاص بالنسبة لاسكندرون، وعلى منح الأقلية التركية امتيازات خاصة لا تستحقها بأي وجه من الوجوه، وبدأت فرنسا لعبة تقسيم سورية إلى حكومات ودويلات، التي استمرت حتى سنة 1924، والتي انتهزت فيها فرنسا هذه الفرصة لتقطع ارتباطات لواء اسكندرون الطبيعية بباقي بقاع سورية، ولتدع المجال مفتوحاً أمام التسلل التركي المفضوح، يقابله ضغط وحشي على السوريين وقادة ثوراتهم ومناضليهم.
ففي 12 أيلول 1922، عيّن المفوض السامي الفرنسي بقراره (1025) حدود سنجق اسكندرون، والذي روعي فيه إلحاق أجزاء ذات غالبية تركية واستثناء أقضية كاملة وبسبب كون سكانها سوريين، وذلك أدى إلى تغييرات ديموغرافية لصالح الجالية التركية في اللواء(4).
وأعقب القرار 1025 سلسلة من الاتفاقات والمعاهدات والقرارات. فمن معاهدة الصلح الموقعة في لوزان 24/07/1923، التي اتفق فيها على تثبيت اتفاقية أنقرة (الفرنسية – التركية)، واعتبرت سارية المفعول، والمرجع الوحيد في تعيين الحدود بين سوريا وتركيا، إلى إعلان المفوض السامي في 05/12/1924، حل الاتحاد السوري وإنشاء دولة سورية تضمّ دمشق وحلب، وأُعيد ربط لواء اسكندرون برئيس الدولة السورية على أن يحتفظ باستقلاله الإداري.
وفي 03/05/1930، تم توقيع بروتوكول رسم الحدود السورية – التركية بشكل نهائي.
مما سيق نلاحظ أن تخطيط الحدود المتعلقة بشمال لواء اسكندرون لم تكن موضع خلاف على الإطلاق – في الظاهر على الأقل – والبروتوكولات الموقعة بين الجانبَين الفرنسي والتركي تؤكد مجدداً اعتراف تركيا بسيادة سورية على لواء اسكندرون.
وفي 10 كانون الثاني 1936، أصدر المفوض السامي قراراً بتطبيق نظام المحافظات في سورية، وعددها تسع محافظات وكان بينها محافظة اسكندرون. ونصّت المادة 149 من هذا القرار على أن: "يُطبق هذا القرار على محافظة اسكندرون ومدينة دمشق الممتازة إدارياً، في كل ما هو غير مخالف للأحكام الخاصة بهما".
*
واستمرت المؤامرات في طريقها التي لم تكن تخفى على أحد من أهل اللواء.. فالأقلية التركية كانت تعرف أن لها دوراً معيّناً تؤديه بمعرفة الدولة المنتدبة نفسها وتركيا، وهو إثارة الشغب والاضطرابات في اللواء والمطالبة بفصله عن سوريا، والأكثرية السورية كانت تعرف حقيقة المؤامرة، فقاومتها بكل ما أوتيت من قوة، رغم بطش السلطات ورغم أسلوبها الوحشي في قمع الإرهاب، حتى أنهم أنزلوا دباباتهم وجنودهم وأقاموا الأسلاك الشائكة في أنطاكية عدة مرات.
وبعد توقيع المعاهدة السورية – الفرنسية في 9 أيلول 1936، تسارعت الخطوات الاستعمارية التركية وزادت شهيتها لالتهام اللواء، فبدأت في مد يد الصداقة نحو فرنسا – بعد أن لاحظت التوتر الذي ساد العلاقات الأوروبية بعد ظهور قوة ألمانيا – مقابل سلخ لواء اسكندرون.
ففي اجتماع عصبة الأمم في 22 كانون أول 1936، ألقى وزير خارجية تركيا (رشدي أراس) خطاباً جاء فيه: "إنّ الرأي العام التركي لا يتحمل أن يرى أخوانهم القاطنين في اللواء تحت الحكم العربي.. والترك في هذه البقعة يستندون على دولة قوية في الشرق، ألا وهي الدولة الحربية التي بناها أتاتورك، وعليه فإننا نود أن تضع عصبة الأمم مسألة "تحرير" هذه المنطقة على بساط البحث".
وفي مطلع عام 1937، ألقى رئيس الوزراء التركي (عصمت اينونو) خطاباً قال فيه: "إنّ مندوبينا هم على الطريق لبحث قضية اسكندرون وأنطاكية في عصبة الأمم... إنّ سياسة الصداقة والشعور بالصداقة الذي نكنّه لفرنسا يجعلنا نأمل بخروج هاتين الأمتَين، التركية والفرنسية، من قاعة الاجتماعات وهما على أتمّ وفاق"، وخاطب رجالات سورية الوطنيين بقوله: "لا بد لي من توضيح بعض النقاط (للسوريين الذين فقدوا أعصابهم) جداً بسبب هذه المسألة، وهم يعارضون فصل اسكندرون وأنطاكية وما جاورهما من الأراضي عن سورية. إننا لا نرى صواباً طمع السوريين بالاستيلاء على وطن تركي. أما فكرة احتياج سورية إلى مرفأ اسكندرون، فهذا لا يعني أن تكون سورية حاكمة على تلك المنطقة، لأن احتياج المناطق التركية لمرفأ اسكندرون هو أشدّ من حاجة بعض أقسام شمال سورية". (؟!)
*
ولإعطاء سرقة اللواء السوري (الصفة القانونية) قرّرت الحكومتان الفرنسية والتركية عرض موضوع اللواء على عصبة الأمم، وتعهدت فرنسا بالتصويت إلى جانب تركيا، ولدى مناقشة عصبة الأمم لهذه القضية أصدرت قراراً بوضع (نظام خاص) لسنجق اسكندرون، جاء فيه: "تنظيماً لكيفية انتداب مجلس السنجق الذي يبلغ عدد أعضائه 40 عضواً ينتخبون لمدة أربع سنوات، يؤمن لكل طائفة في المجلس المذكور كحدّ أدنى العدد التالي(5): الطائفة التركية (8)، الطائفة العلوية (6)، الطائفة العربية (2)، الطائفة الأرمنية (2)، الطائفة اليونانية (1). على أن تجري الانتخابات بإشراف لجنة دولية تعينها العصبة.
كما أصدرت العصبة (القانون الأساسي) لسنجق اسكندرون(6) الذي يتضمن بنوداً اعتبرتها تركيا خطوة أولى لسلخ لواء اسكندرون عن سورية، بدءاً من 29 تشرين ثاني 1936، حيث أصدر المفوض السامي دي مارتيل بياناً إلى أبناء اللواء طلب فيه مؤازرة السكان لمندوب فرنسا وتسهيل عمله في الإشراف على التحضيرات لإجراء الانتخابات التي حُدّد يوم 15 نيسان 1938 موعداً لإجرائها، وشكلت لجنة دولية للإشراف عليها.
وما أن بدأت اللجنة المشتركة أعمالها، حتى باشرت تركيا بوضع العراقيل في طريقها، فأبرقت إلى اللجنة تعترض على مشروع تنظيم مراقبة العملية الانتخابات، وأكدت أنها ستعترض على تطبيقه ما لم يراجع باشتراك الدولتين الضامنتين (تركيا وفرنسا).
ولم تكتف تركيا بالإطار السياسي الدولي للضغط وإسباغ (الصفة القانونية) على سلب اللواء، بل أوعزت إلى عملائها للقيام بعمليات إرهابية الغاية منها الضغط على السوريين وعدم تسجيل أسمائهم خشية رجحان كفة المقترعين السوريين، وبالتالي فقدانها تلك الصفة (القانوية)، وكانت منطقة العمق هدفاً لأعمال إرهابية ضدّ السوريين ليمتنعوا عن التسجيل. ولا مجال لذكرها هنا، غير أننا نثبت بعض الحوادث التي وردت في تقارير لجنة عصبة الأمم:
1- 13 أيار 1938، أطلق الأتراك النار على سيارتين للفلاحين السوريين المتوجهين للتسجيل في الانتخابات.
2- 31 أيار 1938، قُتل خمسة سوريين على أيدي عصابة تركية إبان حوادث (عنف) جرت في منطقة العمق.
3- وضع العراقيل أمام أبناء اللواء القاطنين خارجه من عبور أراضي اللواء لتسجيل أنفسهم.
4- مشاهدة رجال الدرك التركي في اللواء وأمام مراكز التسجيل.
5- تعطيل الصحافة غير التركية في اللواء بموجب أمر عرفي صادر عن المندوب السامي.
6- وفي 13 حزيران، أصدر المفوض السامي أمراً باعتقال بعض الشخصيات اللوائية، منهم زكي الأرسوزي رئيس عصبة العمل القومي، والدكتور سليم خوري، والدكتور بيلوني النائب الأرمني في مجلس النواب السوري، مدعياً بأن هذا الاعتقال قد جرى بعد أن اكتشف مؤامرة دبرت لاغتياله.
كل هذه الممارسات، وخاصة عمليات الاعتقال الأخيرة، زادت في الاضطرابات، حيث اقتحمت 200 امرأة الفندق الذي تُقيم فيه اللجنة الدولية واعتصمت به حتى يتم الإفراج عن المعتقلين، وظلّت الأسواق مغلقة في كافة أنحاء اللواء منذ 14 ولغاية 28 حزيران موعد مغادرة اللجنة سنجق اسكندرون.
وبذلك اقتنعت اللجنة بأن الاستمرار في نشاطها أصبح مستحيلاً، فأعلنت بصورة لا تقبل الشك أنها "مع احترامها لمهمة سلطة الانتداب، ترى نفسها مضطرة لأن تؤكد بإجماع أعضائها، أن هذه المهمة ستؤدي إلى تزوير العمليات الانتخابية وتشويه حريتها، الأمر الذي ينال بشكل خطير من مبدأ حق تقرير المصير للسكان".
وفي 22 حزيران 1938، طلب مندوب تركيا الدائم لدى عصبة الأمم إلى الأمين العام شفهياً بِاسم حكومته أ، توقف اللجنة العمليات الانتخابات بأقرب وقت، كذلك أرسلت الحكومة الفرنسية في اليوم التالي برقية مفادها أنها ترى أيضاً أنه ينبغي على اللجنة أن توقف العمليات الجارية فوراً.
وبذلك غادرت اللجنة الدولية لواء اسكندرون في 28 حزيران نهائياً دون إنجاز مهمتها.
*
وفي 21 تموز 1939، وقعت فرنسا وتركيا على اتفاقية "تسوية" الحدود، والقضايا الإقليمية بين سورية وتركيا بصورة نهائية، حيث نصّت في مادتها الثانية على اكتساب مواطني السنجق للجنسية التركية، ثم أصدرت تركيا النظام الأساسي للواء اسكندرون وسمّته (سنجق هاتاي" وجعلت مركزه مدينة أنطاكية. وهكذا تم سلخ اللواء.
وقد ردّ سوريّو اللواء على هذه المؤامرة الدنيئة مثلما ردّ جميع السوريين بالاحتجاج والتظاهر ومعارك الشوارع التي انتهت بعدد غير قليل من الضحايا والمعتقلين. واستطاع المتظاهرون آنئذ إعادة رفع العلم السوري على كثير من الأبنية والمحلات العامة والخاصة، مما أدى إلى تشرد عدد كبير من العائلات.. ولم تستطع تلك الغضبة العارمة أن تقف في وجه الجحافل والجيوش الغازية والمؤامرات الاستعمارية.
وتكاد قصص البطولات التي أظهرها اللوائيون لا تعدّ، كل منهم كان بحد ذاته قصة بطولة، كلهم شاركوا في المقاومة.. كلهم ناضلوا وقاتلوا ببسالة.. كلهم ما تزال كيليكية واسكندرون جرحاً دامياً ينزّ في قلوبهم لا يندمل أبداً. (هذا القسم من إعداد محمد الأسطة)
الهوامش
سوريين قبل 12 أيلول 1922 |
النسبة المئوية |
|
النسبة المئوية |
|
|
|
|
|
|
بعد 12 أيلول 1922 |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
.. وحديث مع عضو تحرير "اللواء"
صبحي زخور
نشرت مجلة صباح الخير – البناء في عددها 662 تاريخ 17/12/1988 هذا الحديث الذي أجرته مع المناضل صبحي زخور:
للتعرّف على جزء من صورة نضال الشعب السوري دفاعاً عن هوية الحدود الشمالية وارتباطها بوطنها الأم سورية، التقت "صباح الخير – البناء" بالمناضل السوري "صبحي زخور"، الذي روى من ذاكرته الحوادث التالية:
في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي أقيم في مسجد حي العفان بأنطاكية، شارك المسيحيون
إخوانهم المحمديين فرحتهم، وألقوا خطباً عن النبي محمد.
طريق دخول الجنة
وحين أُعلِن في جنيف عن قرار "عصبة الأمم" (المجرمة) القاضي بجعل لواء اسكندرون مستقلاً، وإرسال لجنة دولية لإجراء الانتخابات فيه عام 1937، اتفق الحلفاء مع تركيا على تقسيم السكان إلى طوائف، فالطائفة التركية أخذت كوحدة انتخابية كاملة، بينما السوريون قسّموا إلى وحدات مذهبية فكان هناك سنيّون (سنيون – علويون – أرثوذكس – أرمن – بروتستانت – شركس).
وصدر أمر بأن يتقدم كل ناخب ويُبرز هويته في المركز الانتخابي ليصوّت لطائفته فقط.
المرحوم المهندس فريد أنطونيوس خوري – شقيق زوجتي – تقدم إلى رئيس مركز انتخابي وسجّل نفسه في (الطائفة العربية)، فسأله: كيف تسجّل نفسك عربياً وأنت أرثوذكسي؟ فأجابه المرحوم فريد – وكان يتقن الفرنسية – "نعم يا سيدي، ولكن الأرثوذكسية مذهب ديني، ولسنا هنا بقصد أن نعيّن أي طريق نسلك لدخول الجنة، بل بقصد أن نحافظ على قوميتنا وحقوقنا المشروعة هنا على هذه الأرض". فابتسم رئيس المركز وتطلّع إليه معجباً وأوعز إلى الكاتب المختص بتسجيل صوته في الطائفة العربية، وحذا حذو المرحوم فريد خوري مواطنون آخرون كنت واحداً منهم.
*
الأرسوزي سهّل لي
امتياز العروبة
منذ العشرينات كانت تصدر في أنطاكية واسكندرون جرائد تركية وجريدة عربية واحدة اسمها "أنطاكية"، سرعان ما توقفت عن الصدور.
وفي الثلاثينات، حين أحسست أن الانتخابات قادمة، وأن من الضروري أن يكون لنا جريدة تصدر بلغتنا وتعبّر عن أفكارنا، عرضت فكرتي هذه على المرحوم زكي الأرسوزي فقال لي إنه سيقابل رئيس اللجنة الدولية عندما يأتي إلى أنطاكية 1937، وفعلاً قابله وحصل منه على إيعاز إلى السلطات الفرنسية بالموافقة على هذا الطلب، فرخصوا لي بإصدار جريدة يومية هي "العروبة" التي كنت أنا صاحبها ومديرها المسؤول، وكان (زكي الأرسوزي الموجه السياسي للجريدة، وجبرائيل نقّول، نخلة ورد وغيرهم) كتاباً فيها.. وكنا كلما نشرنا مقالاتنا الوطنية والقومية تعرّضنا للاعتقال من قِبَل السلطات الفرنسية وتعطّلت الجريدة.
*
اعتقلت لفلسطين
دخلت السجن مرات كثيرة، المرة الأولى كانت في سبيل فلسطين. فحين قدمت من أوروبا شاحنة كبيرة تنقل الفواكه إلى المستوطنات اليهودية في فلسطين، كمن لها بعض شباب اللواء على مشارف أنطاكية، وأوقفوا السيارة وأتلفوا البضاعة. فاعتقلتهم قوات الأمن، وسيقوا إلى سجن حلب. هنا قال لي زكي الأرسوزي: "اذهب إلى حلب واهتم بأمرهم"، وحين ذهبت إلى المحكمة الأجنبية التي كانت تجري فيها محاكمة أولئك الشباب، اعتقلني الفرنسيون وزجّوا بي في السجن.
أمام اللجنة الدولية تظاهر في أنطاكية حوالى ثلاثين ألفاً من السوريين الذين هتفوا بحياة سوريا واستقلالها، مارّين بالفندق الذي تقيم فيه، راجمين أعضاء اللجنة والجنود الفرنسيين بالحجارة. بينما حاول الأتراك أن يردوا على مظاهرتنا هذه بمظاهرة أخرى لكنها كانت ضئيلة الحجم والفعل.
ومرة، اجتمعنا في (نادي العروبة) ووضعنا مذكرة احتجاج على المؤامرة التي تُحاك بغية سلخ اللواء عن وطنه الأم، ووقّع عليها رئيس وأعضاء اللجنة المركزية لعصبة العمل القومي.
فذهبت على دمشق لأتصل بقناصل الدول العربية وأعرض عليهم هذه المذكرة، وهناك – في فندق الشرق – التقيت القنصل المصري وأعطيته نسخة منها، فقرأها وقال: "لماذا تتذمرون وتحتجون؟ تركيا دولة مسلمة. من هذه الجيب إلى هذه الجيب (؟!!!!). (حاوره محمد الاسطة)
*
صبحي زخور
في: 21/04/2021 لجنة تاريخ الحزب