في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بدأت -وأنا المراهق المقبل بشغف على الحياة- أتحرّر تدريجاً، من رتابة التقاليد القروية التي نشأتُ عليها في محيطي الاجتماعي، وبلادة الحياة النائية في أقاصي «بلاد بعلبك» حيث ولدت، ميمّماً وجهي صوب بيروت التي كانت يومها تضجّ بحركة ثقافية وسياسية وحزبية وفنّية واسعة ومتنوّعة. اتخذت من دور السينما، والمسارح، والمقاهي، والمنتديات الأدبية، والساحات العمومية، والحركات الطالبية، والأحزاب السياسية، والجامعات، اللبنانية والأجنبية، بالسواء، منبراً لها، وكانت كلها منابر تلهج بخطاب ثوري تغييري يتماهى مع ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968. خطاب يدعو إلى تحرير المرأة والزواج المدني والجامعة الوطنية، ومناصرة الحركات الثورية في العالم من الصين إلى فيتنام في الهند الصينية، إلى فلسطين وأفريقيا وأميركا اللاتينية. شكّلت بيروت، يومها، بحقّ، محجّة لكل متشوّق إلى التعبير، بحرية، عن مواهبه، ولكل فارّ أو لاجئ أو مضطهد، في بلاده، يبحث عن مقر آمن يستقرّ في دفئه وينهل من حنانه، وكادت -لولا «الحرب الأهلية» التي عصفت بلبنان بين عامَي 1975 و1976، في ما عُرف بـ«حرب السنتين» وأتت على كل جميل فيها- كادت أن تفوز، عن جدارة، بلقب «عاصمة الثقافة العربية».
في تلك الفترة أو قبلها بقليل، بدأنا نسمع حديثاً في الصحافة والإعلام عن محاولات تجري لاستصدار «عفو» أو وعد بعفو عن القوميّين المسجونين، منذ سنوات، بتهمة القيام بانقلاب عسكري -هو في حقيقته مدني أكثر ما هو شي آخر- لإسقاط النظام السياسي الطائفي العشائري في لبنان. ولكن بازار «العفو» كان مشروطاً بتأييد القوميين لمرشحي السلطة في انتخابات 1968 التي كانت ستجري بعد أشهر معدودة، وكانت أصواتهم وازنة، في كل المناطق، وبإمكانها أن ترفع لائحة أو تُسقط لائحة، لا كما هم، اليوم، بعد أن تفرّقوا أيادي سبأ!
عندها بدأت أستعيد ما كان يُروى لنا، ونحن صغار، عن المحاولة الانقلابيّة التي جرت، ليل 31 كانون الأول/ 1 كانون الثاني 1961- 1962، وعن كل من الضباط فؤاد عوض وشوقي خيرالله وعلي الحاج حسن بصفتهم مكلفين بأدوار رئيسية في تلك المحاولة الفاشلة. كان الحاج حسن، ابن بلدة شمسطار جارة بلدتي طاريا، مكلفاً بالقبض على فؤاد شهاب بعد أن يكون عوض وخيرالله، ومن ورائهما الميليشيا القومية، قد سيطروا على الوضع تماماً. ولما وافته المنية في ربيع 1970، أُقيم له، في بلدته، مأتم حاشد شارك فيه عشرات الألوف من القوميين الذين كانوا قد خرجوا، للتوّ، من السجن، وفاجأ الحشد القومي الكبير بصفوفه الرباعية، البديعة النظام، أنصار الحزب وخصومه، على حدّ سواء، وقد انتمى المئات بل الآلاف منهم إلى الحزب متأثرين بمشهد الحشود المندفعة بحماس قلّ نظيره لوداع أحد أبطال حزبهم.
إن ما كان يثير اهتمامي بالضباط هو أنني كنت، يومها، مفتوناً بما يرمز إليه الجيش، كمنظمة عسكرية، من قوة يتمثلها الشباب في مراهقتهم، وكان لاشتراك شقيقي الأكبر في الانقلاب واستطاعته أن يفلت من الجلاد ويلتحق بـ«العصاة» على الدولة، في منطقة بعلبك-الهرمل، سبب آخر للتغني ببطولة الميليشيا القومية التي، بعكس العسكريين، أنجزت بسرعة واحترافية، كل المهام التي أوكلت إليها.
ماذا جرى في تلك الليلة الأخيرة من عام 1961؟ تتحدث الروايات عن أن النقيب شوقي خيرالله كان يؤدي عقوبة السجن لتمرّده على مسؤوليه إبّان العرض العسكري الذي جرى في ذلك العام بمناسبة استقلال لبنان، وتُضيف الروايات أنه كان ينتظر «ضيوفاً» يجيئون لـ«معايدته» في تلك الليلة، وبينما كان يدردش، قتلاً للوقت، مع حارسه، بانتظار زوّاره، يصل الضيوف وكانوا ثلاثة: أوغست حاماتي ورستم الضيقة وشخص ثالث لا أذكر اسمه، ويحمل أحدهم قالب حلوى هدية للنقيب لمناسبة «عيد ميلاده» ويتمنطق كل من الشخصين الآخرين بمسدس حربي. يتقدّم الحارس، وبندقيته على كتفه، لتسلّم الهدية من الضيقة وما إن تسلّمها حتى انقضّ عليه حاماتي وجرّده من بندقيته وأمره بالتزام الصمت. هكذا خرج خيرالله من السجن وتوجّه مباشرة، مع مرافقيه، إلى وزارة الدفاع التي كان قد احتلها النقيب فؤاد عوض ولكنه بقي يفاوض بعض الضباط المختبئين في مكاتبهم على الاستسلام، طوعاً.
في هذه الأثناء، كانت كتيبة شوقي خيرالله قد تحركت، بإمرة النقيب بديع غازي، من بلدة مرجعيون، مقرّها الأساسي في اتجاه بيروت، وكان آمرها -شوقي خيرالله- ينتظر وصولها، على أحرّ من الجمر، إلى وزارة الدفاع لتقوم بما هو مخطط لها القيام به في تلك الليلة من رأس السنة. لقد فاجأ الفجر الجميع، على حين غرة، وانكشفت المحاولة الانقلابية وراحت قوات «الشرعية» تسدّ الطرقات المؤدية إلى بيروت بالسواتر الترابية وتُقيم الحواجز لإبطاء حركة الآليات المندفعة، مع طواقمها، في اتجاه العاصمة وكذلك سيارات الميليشيا القومية التي كان أفرادها يُعدّون بالمئات، وقد اصطدمت كتيبة شوقي خيرالله بالعوائق التي نُصبت أمامها، على الطريق الساحلي، قبل وصولها إلى صيدا، الأمر الذي أخرجها، كلياً، من المعركة قبل أن تدخلها!
في أواخر الستينيات-أوائل السبعينيات، صدرت في بيروت مجلة فكرية متميّزة، شكلاً ومضموناً وإخراجاً، اسمها «فكر» لصاحبها المثقف والقيادي القومي الشاب هنري حاماتي، وتتضمن، في عددها المزدوج، تاريخ 7و8 أيار 1970، دراستين: الأولى لأسد الأشقر والثانية من 77 صفحة، من الحجم الكبير، للسجين شوقي خيرالله، خرجت من عتمة السجن قبل 5 حزيران 1967، حاملة إلى مواطنيه سعة اطّلاعه، وعمق بصيرته، وصفاء ذهنه، وقوة أعصابه، ووجهة تفكيره، في القضايا المصيرية الراهنة، وقدّمته «فكر» إلى قرّائها بـ«الإنسان الحر، المتخطّي السجن، العاكف على قضية بلاده، يحقّق في مشكلاتها، ويترسّم مستقبلها». يبدأ خيرالله دراسته بقوله: إذا كان القرن التاسع عشر بدأ عام 1789 مع الثورة الفرنسية فإنه قد انتهى عام 1918. ولو أردنا أن نفحص مساهمتنا أو مكاننا (كسوريين) فيه لأدركنا للتوّ أننا كنا لا نزال نحتفظ بمظاهر القرن الثامن عشر وبعقلية القرون الوسطى. وهكذا، يُتابع خيرالله، نكون قد ولجنا القرن العشرين بمظاهر القرن الثامن عشر «العصملّي» وعقلية القرون الوسطى، فقد قرعت الثورة الصناعية، أم القرن التاسع عشر، أبوابنا حاملة المحرك، والنول المؤلل، والديموقراطية البرجوازية الليبرالية، والدولة القومية، والجيش الوطني النظامي، وسلاحه الحديث، وتشكيلاته الكثيفة، والبذور الثورية التقدمية، فاستقبلناها بالآلة اليدوية وبالإقطاعية الطائفية، بدون أي جيش أو سلاح، وبعقول مقفلة دون التفكير الجديد.
قبل خروجه من السجن عام 1970، كان الحزب القومي قد عقد مؤتمراً عاماً باسم «مؤتمر ملكارت»، هو الأول من نوعه في تاريخ الحزب، وخرج المؤتمرون بتعديلات فكرية ودستورية مشينة شكّلت خروجاً فاضحاً على عقيدة الحزب وزعيمه ودستوره ونظامه، ولكنّ القوميين الاجتماعيّين، ومنهم شوقي خيرالله، احتجوا -إلا قلة منهم- على تلك التعديلات ورفضوها رفضاً قاطعاً، ففصلت قيادة «ملكارت» المئات منهم ومُنع خيرالله من تسلّم أيّ مسؤولية حزبية. ولكنّ القيادات الحزبية المتعاقبة اضطُرت، تحت الضغط، إلى التراجع تدريجاً عن معظم التعديلات التي أدخلتها على العقيدة والنظام.
بعد فصله، انكبّ خيرالله على الخطابة والمحاضرة في الأندية والجامعات، وكذلك الكتابة والتأليف والصحافة والنشر، وأصدر عشرات الكتب منها: «ملكوت آرام»، «سراديب النور»، «النخبة المعاكسة»، «الطريق إلى القدس»، «قرطاجة: العروبة الأولى في الغرب»، «صقلوب» (مسرحية)، و«الإنجيل الخامس» الذي استوحى فكرته من كتاب سعادة «الإسلام في رسالتيه: المسيحيّة والمحمدية». ويمكن التصريح، باعتزاز، أن شوقي خيرالله كان العسكري الوحيد في الجيوش السوريّة (الشامية-العراقية) وربما العربية كلها، الذي وحّد بين النظري والتطبيقي في فكره وثقافته وحياته العملية، فهو مثقف واستراتيجي وإيديولوجي، ويظهر ذلك جيداً في كتابه عن القدس، المذكور أعلاه.
في أواسط السبعينيات، استحدثت صحيفة «النهار» ملحقاً إنمائياً يغطي أوضاع المناطق اللبنانية الاقتصادية والزراعية والاجتماعية وتحرره مجموعة من الصحافيين الهواة من أبناء تلك المناطق، وخصوصاً النائية منها، وعهدت «النهار» إلى شوقي خيرالله الإشراف على الملحق وانتسبت، كغيري من الهواة، إلى مجموعة المراسلين، وحضرت اجتماعاً في مكتب الجريدة في بيروت في المبنى الغربي من المبنى القديم، في الحمرا، والذي شغله شوقي خيرالله حتى انتقال «النهار»، في مطلع الألفية، إلى المبنى الجديد في «ساحة البرج» (الشهداء) حيث تقاعد صاحبنا من العمل.
في تلك الفترة، وتحديداً عام 1972، صدر للنقيب فؤاد عوض كتاب «الطريق إلى السلطة» روى فيه قصة الانقلاب وما ترتّب عليه من تبعات شخصية وعائلية ومن تداعيات حزبية ووطنية وسياسية. ومن الطبيعي أن يُثير صدور هذا الكتاب ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، خصوصاً أن بعض المشاركين في الانقلاب، العارفين ببعض الوقائع التي جرت لاشتراكهم فيها، شكّك في مرويات المؤلّف عن بعض الوقائع التي جرت قبل وأثناء وبعد المحاولة الانقلابية. وراح بعض الصائدين في الماء العكر يتقوّلون في الكتاب أقاويل شتّى ويبثون شائعات كاذبة عن خلاف وتباينات في وجهات النظر بين النقيبين «الصديقين –العدوين» فؤاد وشوقي، وكان هذا الأخير قد أصدر كتابه «الطريق إلى القدس» واتخذته الأحزاب الثورية وحركات المقاومة دليلاً لها، وخصوصاً أنها كانت في بداية انطلاقتها وتحتاج، في التدريب والتوجيه والإعداد، إلى مثل هذا الكتاب الطليعي. وكادت الشائعات، لكثرة تردادها وانتقالها من شخص إلى آخر، تصبح حقيقية، لولا أن حسمها النقيب خيرالله على طريقته الانقلابية، قال: هو (يقصد فؤاد عوض) كتب: «الطريق إلى السلطة»، أما أنا فكتبت «الطريق إلى القدس»، وشتّان ما بين الطريقين والغايتين! وأسدل الستار على هذه القضية.
إبان «الحرب الأهلية» في لبنان، انتقل النقيب خيرالله إلى دمشق، وراح، من إذاعتها، يُقدّم برنامجه اليومي: «يا سامعين الصوت» الموجّه أساساً إلى اللبنانيين الذين كانوا قد انقسموا إلى شيع وأحزاب متنافرة، متقاتلة ومتصادمة حتى أصبحوا في عيون الآخرين مجموعة قطعان بشرية لا شعباً واحداً! وقد لاقى البرنامج تأييداً واسعاً من شريحة كبيرة من اللبنانيين، ولعب دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين القوى المحتربة على التراب اللبناني، وكان له أثر كبير في تهدئة الرؤوس الحامية والنفوس المضطربة، ومهّد الطريق لانتقال ألوف اللبنانيين، يومياً، (خصوصاً من ما كان يُعرف بالمناطق الشرقية) إلى دمشق، عن طريق فاريا- عيون السيمان- زحلة – المصنع فجديدة يابوس، وكان لي ولأمثالي من أحزاب الحركة الوطنية، شرف الاهتمام بهذه الموجات البشرية التي كانت تنتقل بواسطة الباصات والمواكب السيارة، من لبنان إلى عاصمة الأمويين في دمشق.
بعد عودته من دمشق إلى بيروت، أكمل شوقي خيرالله مشواره التثقيفي والإعلامي في مجلة سمّاها «تموز»، على اسم تموز، رمز التضحية والفداء في الميثولوجية السورية القديمة، وتيمّناً بسعادة، شهيد الثامن من تموز 1949. بدأت المجلة شهرية ففصلية فسنوية إلى أن توقفت عن الصدور لأسباب مالية، لا تحريرية، فقد كان في وسعه كتابياً، أن يصدرها وحده دون مساعدة أحد ولقد فعلها أكثر من مرّة!
في شهر نيسان 2004، ينشر الصديق جوزيف (يوسف) معوّض مقالاً، في صحيفة «النهار» تحت عنوان: «الزعيم واليعربي: بين أبي نوّاس وابن خلدون وأنطون سعادة». لكنّ الصحيفة عدّلت العنوان قبل النشر على الشكل التالي: «الشعوبي واليعربي والجبلي». يتّصف المقال بالجدّة والأصالة، لجهة عنوانه وموضوعه ومصادره وصياغته وإحالاته، ويدور حول «سعي» سعادة وحزبه القومي، على ما جاء في المقدمة، إلى بعث «الشعوبية القديمة»، وهي عبارة استشهد بها معوّض من الكاتب جاك برك، ويُلقي الضوء، تأسيساً عليها، على نظرة سعادة إلى العرب والأعراب و«العُربة»، موطن العرب أو الصحراء. وتنسجم نظرة سعادة إلى العرب، بحسب الكاتب، مع كل من أبي نواس، الشاعر الفارسي العصبية، السوري البيئة والثقافة، في رفض النموذج البدوي، ورفض الصحراء عموماً، كما تنسجم مع ابن خلدون الذي ميّز بين العمران الحضري والعمران البدوي الذي يمثل الأعراب أعلى مراحله.
بعد أيام على ظهور هذا المقال، يردّ شوقي خيرالله، وهو المتحمّس للعرب والعروبة كأحد دعاتها النجباء، يردّ على معوّض، في «النهار» أيضاً، ناقداً ومنتقداً كلامه، متهماً إياه بالتحامل على سعادة وفكره وحزبه ومشروعه، معلناً أن السوريين هم من أصول عربية، ولا يعفي عائلة سعادة نفسها من انتمائها إلى أرومتها العربية!
كان من الطبيعي أن أتدخل في هذا الحوار، فأنا صديق لمعوّض ورفيق لخيرالله، فضلاً عن أن الموضوع يهمني، كقومي اجتماعي، ونشرت في «النهار» أيضاً مقالاً حاولت أن أناقش فيه مقولة خيرالله في العرب والعروبة مدافعاً، إلى حدّ، عن معوّض، خصوصاً أنني وجدت في ما كتبه وما نشره لاحقاً ينسجم، كثيراً، مع كتاباتنا في الكثير من المواضيع الملتهبة.
كان شوقي خيرالله بارعاً في افتتاح معاركه الفكرية، ولكنه غالباً ما كان يوقفها قبل أن تكتمل فصولها... أخذ موقفاً مني، ونادراً ما اتفقنا على رأي أو موقف.
نفتقده!
* أستاذ جامعي