هذه النبذة عن الدكتور خليل سعاده تغني ما كنت كتبت عنه.
شكرا للأمين الصديق جهاد العقل على ما ينتجه باستمرار خدمة لثقافة الحزب ولتاريخه.
لبيب ناصيف
*************
سبعة وسبعون عاما، عاشها العلامة خليل سعاده، أمضى منها أربعة عقود من عمره، متنقلاً بين مهاجر مصر، الأرجنتين والبرازيل، طبيباً يعالج الأجساد والنفوس، ويؤسس الجمعيات المهجرية وينشيء الصحف العربية الاغترابية، ويضع المؤلفات الطبية والأدبية والدينية، وهدفه، من كلّ ذلك، إبقاء الوطن حيّاً في نفوس أبنائه المنتشرين في العالم، وتعبئتهم من أجل تحرير بلادهم من الاستعمار الخارجي. يقول جورج صيدح، في كتابه "أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية"، (ص451): "الدكتور خليل سعاده إمام من أئمة الفكر والبيان ورائد من رواد النهضة الأدبية والحركة القومية في الهاجر. حلّ بين جوالي المغتربين في البرازيل فكان طبيبها وخطيبها وفيلسوفها ومنارها. ولد في ضهور الشوير وتخرّج طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت، وتعاطى الطبّ والصحافة... ونعرف عنه أنّه والد الزعيم القومي السوري المرحوم أنطون سعاده. وأنّه كان رفيع الخلق، إنساني العاطفة، عربيّ النزعة، سخيّ الروح واليد. وكانت حياته سلسلة جهاد لمحاربة الصهيونية والاستعمار، وبفضله اجتمعت كلمة المهاجرين الأحرار، ودوّى صوتهم في مسامع الدول الغربية، وانطلقت جريدة "الرابطة" تخاطب بلسانهم الدوّل العربية، وتقذف بالنار صنائع الإستعمار".
مرّت حياة خليل سعاده، بين الوطن وبلاد المهجر، في أربع مراحل رئيسة، وهي كما حدّدها الدكتور علي حميّة في كتابه "العلامة د. خليل سعاده، سيرته وأعماله" المرحلة السوريّة، نسبة إلى بلاد الشام، (1857-1892)، والمرحلة المصريّة (1892-1913)، والمرحلة الأميركيّة - الأرجنتين (1914-1920)، وأخيراً المرحلة الأميركيّة، البرازيل (1920-1934).
*************
ولد خليل سعاده في بلدة الشوير (المتن الشمالي) عام 1857. والده أنطون ولقبه "الشيخ"، للدلالة على شدّة تهذيبه واقدامه ومحبته للعلم وروحه المرحة، يروى عنه القول: "أنا لا أخاف الموت، إنّما أخشى أن يبطل الموت بعدي". والدته حنّة سعاده، اشتهرت بفضائلها وطهارة قلبها وتقواها، ودعوتها إلى أعمال الخير والبرّ.
إخوته خمسة صبيان وبنتان، برز من بينهم "الأستاذ" داود، وسليم المجاز في الفلسفة واللاهوت من جامعة أثينا، وله مقالات في الفلسفة نشر بعضها في مجلة "الجنان"، لصاحبها بطرس البستاني. تأهل خليل من نايفة نصير، ورزق منها سبعة أولاد، ستة صبيان وبنت واحدة، من بينهم أنطون مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تعهّد اخوته الصغار، وهو في الحادية عشرة، بعد وفاة والدته عام 1915، بسبب وجود والده في الأرجنتين.
تنقّل خليل في دراسته بين بلدته الشوير والكلية السورية الانجلية (الجامعة الأميركية) في بيروت. بدأ دراسته التمهيدية في "كتاتيب" بلدته، ثمّ التحق بأخيه سليم في مدرسة عبيه، وعندما فتحت مدرسة المرسلين الانكليز ابوابها في الشوير عام 1875، عاد لمتابعة تحصيله العلمي فيها، ومنها انتقل بعد سنوات ثلاث الى الجامعة الأميركية، طالباً في معهد الطبّ، حيث ظهر نبوغه مبكراً، وبدا ذلك من خلال اختياره لالقاء المحاضرات على زملائه، وهو ما زال طالباً، الى جانب انخراطه في النشاط الطلابي والثقافي؛ محرّراً في مجلتي "الجنان" و"الطبيب"، ومقتحماً باب "الممنوعات" من المؤلفات، المحظورة لاهوتياً، فقرأ اولاً لهربرت سبنسر، ثمّ كتباً في مذهب داروين، والجدال بشأنه ما زال محتدماً، ومن يتجرأ على مطالعة مؤلفاته، فهو يعدّ كافراً، وكانت عمدة الجامعة تنظر إليه نظرة الشكّ والارتياب، لقد أيّد خليل نظرية التطوّر، وظهر ذلك بوضوح، فعلياً في مشاركته الاحتجاج ضد ادارة الجامعة التي قرّرت طرد الدكتور أدوين لويس، بحجة أنّه من أتباع داروين، ممّا يتعارض ومسألة خلق العالم الواردة في التوراة، ونظرياً في مقدمة قاموسه، "قاموس سعاده"، الذي نشره في القاهرة عام 1911 .
تخرّج خليل في العام الدراسي (1882- 1883)، بشهادتين في الطبّ: الصحة العامة، والجراحة النسائية والتوليد، مع تقدير خاص من الدكتور بلس، كما اجتاز الامتحان النهائي بنجاح أمام "المكتب الطبي السلطاني" في اسطنبول، حيث أظهر تفوقاً وذكاءً، خصوصاً في تمكنه من اتقان اللغة التركية في فترة قصيرة جداً. ويذكر أنّه في تلك السنة، قاد خليل سعاده أول انتفاضة طلابية في العالم العربي، وذلك على أثر إقدام الجامعة على اعتماد الانكليزية، بدلا من العربية، لغّة وحيدة للتدريس. تنقّل د. سعاده بين عامي 1885 و1891 بين القدس وطبريا يزاول الطبّ والأدب، فقد اختارته "البعثة الملكية الإنكليزية" مديراً لمستشفاها في القدس، ومستوصفها في طبريا. وفي تلك الفترة تعرّف على الأمير عبد القادر الجزائري، وانتسب إلى الماسونية وترأس محفلها، وعهد إليه مرافقة أمبراطور إلمانيا غليوم الثاني، عند زيارته الأماكن المقدسة، كما رافق ملك انكلترا إدوار السابع أثناء قدومه إلى مدينة الخليل.
لم يكتف خليل سعاده، في المرحلة الأولى من حياته، في التخصّص في الطبّ لمعالجة الأجساد، بل سارع مبكراً، إلى العناية بالقضية الوطنية، فكتب أول مقال له، بعد عام من دخوله الجامعة، في مجلة "الجنان"، تحت عنوان: "تأخر بلادنا وتقدمها"، ويشترك د. سعاده في اسطنبول عام 1883، في مناظرة وصفت بالعنيفة، دارت رحاها بين مجلتي "الطبيب" في بيروت، و"المقتطف" في القاهرة، ونشرت لاحقاً في اسطنبول في كتيب "نبلة في كنانة". في نهاية العام 1884 أجاز المستشرق جورج بوست، إلى الثلاثي بشارة زلزل وابراهيم اليازجي وخليل سعاده، إعادة إصدار مجلته "الطبيب"، حيث ظهرت مواهب سعاده على صفحاتها، من خلال مقالاته العلمية والطبية، خصوصاً تلك المتعلقة بالامراض السارية، لاسيما السلّ الرئوي وعوارضه، نظراً لخطورة هذا المرض في تلك المرحلة.
*************
أدّت موجة الإرهاب العثماني الرسمي المنظّم ضد "الإصلاحيين" والمطالبين بالاستقلال والحريّة لشعوبهم، إلى هجرة العديد من مفكري بلاد الشّام. فانتقل سعاده الى القاهرة عام 1892، ملتحقاً بيعقوب صروف وابراهيم اليازجي وشبلي شميل وفرح انطون ورشيد رضا، وغيرهم. وكانت مصر، في ذلك الوقت، رازحة تحت الاحتلال الانكليزي، إلا أنّها كانت تتمتّع بالاستقرار وتنعم بالحرية الفكريّة إلى حدّ ما.
أسّس د. سعاده مع بعض زملائه، بعد وصوله إلى مصر، بفترة قصيرة، أول جمعية سياسية علمانية سرّية "الجمعية اللامركزية"، وغايتها النظر في "المسألة العربية، وتحرير العرب من سيطرة الأتراك"، وقد ضمّ الاجتماع التمهيدي لهذه الجمعية نخبة من المثقفين السوريين، من بينهم رفيق بك العظم وعبد الحميد الزهراوي وحقي بك العظم حاكم دمشق سابقاً ورشيد رضا صاحب مجلة "المنار"، وداود بك بركات رئيس تحرير "الأهرام" وابراهيم سليم النجار. شارك في تحرير جريدة "الاهرام" لصحابيها سليم وبشارة تقلا. كانت مقالاته العلمية، الإجتماعية والسياسية تنشر في الصفحة الأولى، إلا أنّه توقف عن الكتابة فيها، لمدّة ثماني 1905- 1913، انصرف خلالها الى الاهتمام بالادب ومراسلة الصحف، خصوصا "التايمز" الانكليزية. عاود الكتابة في الاهرام عام 1913، وغالباً ما نشرت مقالاته في الزاوية المخصّصة لافتتاحية مؤسس الجريدة أو رئيس تحريرها. وأثناء وجوده في مصر، توطّدت علاقاته بالزعماء المصريين: عرابي باشا قائد ثورة 1882 ضد الانكليز. مصطفى كامل أحد مؤسسي مصر الحديثة وسعد زغلول مؤسس حزب الوفد (الحزب القومي). كما قام بزيارة وطنه مرتين، الأولى عام1904 اثناء ولادة ابنه انطون. والثانية عام 1908 من اجل العمل على بناء "المستشفى السوري" في بيروت، لمعالجة أمراض السّل الرئوي، فشكّل لهذه الغاية "لجنة المستشفى السوري"، كلّفها السهر على تنفيذ المشروع، وباشرت اللجنة عملها بالإعلان عن اكتتاب مالي في جريدة "لسان الحال"، كما أحيت اللجنة أمسية فنية في بيروت، مثّلت خلالها مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير، على أن يجمع ريعها لبناء المستشفى، ولكنّ صداماً وقع بينه وبين القنصل الفرنسي في لبنان، أجهض بناء المستشفى، بسبب رفض هذا الأخير تسديد ثمن تذكرة المسرحية، فاعتبر سعاده الأمر إهانة، فوجّه إلى القنصل رسالة شديدة اللهجة، ختمها بالقول: إن زمن الارادات الأجنبية المطلقة، قد انقضى منذ عهد طويل. ولأنّ من يقف في وجه قنصل فرنسا، في ذلك الزمن، كمن يقف في وجه الألهة، أهدر القنصل دمّ سعاده، وبناء على نصيحة من متصرف جبل لبنان، وحفاظا على حياته، اضطر خليل سعاده إلى مغادرة أرض الوطن نهائيا. وعاد إلى مصر في صيف 1905، حيث افتتح عيادة له في القاهرة (الفجالة) لمعالجة الامراض الصدرية والباطنية والزهرية والجراحة، وعيّن عام 1909 طبيبا في "مصلحة الصحة العامة"، ومنحه الخديوي عباس حلمي الثاني لقب باشا الا انه لم يستعمله ابداً. أصدر سعاده في القاهرة العديد من المؤلفات (راجع فقرة مؤلفاته). إلا أنّ لعنة الاضطهاد لاحقت د. سعاده إلى مصر، إذ غضب عليه الخديوي عباس الثاني، لعلاقته بزعماء المعارضة المصرية، خصوصاً أنّه كان يعمل على ترجمة مذكرات عرابي باشا إلى الإنكليزية، فغادر مصر وحلّ في العاصمة الأرجنتينية (بيونس أيرس) في مطلع العام 1914.
*************
كان د. سعاده من طلائع المهاجرين الى "العالم الجديد"، وصل العاصمة الأرجنتينية في مطلع العام 1914، أمضى فيها ست سنوات، إنصرف خلالها إلى تأسيس الصحف، وانشاء الجمعيات السياسية والأدبية والاجتماعية، التي تعنى بالمغتربين والمقيمين من أبناء وطنه، كما راسل بعض الصحف الإنكليزية. ونورد في ما يأتي أبرز الانجازات التي حقّقها سعاده أثناء وجوده في الأرجنتين:
أولاً: مراسلة جريدة الستاندار اللندنية الانكليزية، كان مراسلها الرسمي، ونشر فيها العديد من المقالات الخاصة بالشرق وأحوال مصر، استهلها بمقال نشر في هذه الجريدة بتاريخ 30 تشرين الثاني 1914، تحت عنوان "الحرب الأوروبية". جمع الباحث جان داية مقالات الستاندار في كتاب، عنوانه "الدكتور خليل سعاده، نتاجه الفكري وجهاده السياسي، مقالات مجهولة في جريدة إنكليزية".
ثانياً: أصدر خليل سعاده مجلة "المجلة" الشهرية في 15-5-1915 في بيونس ايرس، واستمرت في الصدور مدّة خمس سنوات، توقفت على أثر انتقال صاحبها إلى البرازيل، وكان شعارها: صحيفة علمية فلسفية جامعة، أنشئت لتكون صلة بين الأوطان والجوالي اللبنانية والسورية، ولسان حال النهضة العصرية"، راجع جهاد العقل "صحافة الحركة القومية الاجتماعية"، الجزء الأول. يروي الأديب داود شكور أنّ طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، وهو منهم، كانوا يترقبون وصول "المجلة" بمزيد اللهفة ليقرأوا مقالات الدكتور خليل. وكان من أبرز الأبحاث والدراسات التي كتبها السلسلة التي حملت العنوان "تأخر الشرق وتقدمه".
ثالثاً: أنشأ "الجامعة السورية" عام 1916 و"الحزب الديمقراطي الوطني" عام 1919 وهو أول تنظيم سياسي بالمعنى العصري للكلمة، في أوساط الجالية في اميركا. وغايته تتركّز على مبدأين أساسيين: استقلال بلاد الشام، إقامة الحكم الديمقراطي العصري، وإزالة الفوارق بين طبقات الشعب، وبسط سلطته على حكومته، وفصل الدين عن السياسة. كان سعاده يردّد: "الاستقلال مع البداوة، خير من العبودية مع الحضارة".
رابعاً: أسس "نقابة الصحافة السورية"، عام 1915، وهي أول تنظيم نقابي في المهجر كله، وترأسها، ودعا اصحاب الصحف العربية في المهاجر والوطن إلى تأسيس نقابات مماثلة، تتعاون في ما بينها، وتتبادل الخبرات والمعلومات والتقنية، لما فيه إعلأ مجد الصحافة وخدمة الوطن.
خامساً: أسس "الجامعة السورية"، في ت1 1916، "تعنى بالتاليف بين عناصر الجالية، والشؤون الاجتماعية والادبية للمواطنين، والمحاماة عن مصالح الجالية، وتكون نواة للسوريين القاطنين الجمهورية الفضية عموما، وبونس ايرس خصوصا".
سادساً: أسس في آذار 1917 "لجنة منكوبي سورية"، وغايتها جمع الأموال، من أجل مساعدة منكوبي سورية المتضررين بسبب أعمال الحرب العالمية الاولى. تركزت نشاطات هذه اللجنة على صعيدي استنهاض المهاجرين عبر "المجلة"، وتنظيم الحفلات الخاصة التي كان يجمع ريعها لمنكوبي الحرب في سورية (بلاد الشام).
سابعاً: أسس "الحزب الديمقراطي الوطني"، في شباط 1919، وهو أول حزب ذهب إلى وجوب إستقلال سورية استقلالا تاماً عن كل سلطة أجنبية على حدّ تعبير مؤسسه. أمّا غايته فقامت؛ أولاً على مبدأ استقلال سورية (بلاد الشام) وقيام حكومة جمهورية على نسق حكومة اميركا، وثانياً، قيام الحكومة في احكامها على "الطريقة الديمقراطية العصرية" وازالة الفوارق بين فئات الشعب، واعلانه مصدر السلطات، وفصل الدين عن السياسة. عقد سعاده بصفته رئيس الحزب "المؤتمر الديمقراطي الوطني" الاول عام 1919، "المؤتمر السوري الاول في الوطن وفي بلاد الاغتراب" وهو "الصيحة الاولى المطالبة بحريّة الوطن واستقلاله"
*************
ما إن انتهت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حتى قرّر خليل سعاده، الانتقال إلى الولايات المتحدة عبر البرازيل، حيث استقبلته الجالية السورية بحفاوة، وطلبت منه الاستقرار في البرازيل، فاستجاب لطلبها بعدما استقدم أولاده من الولايات المتحدة، وعلى رأسهم أنطون، ووصلوا ساو باولو في 7 شباط 1920.
واصل د. سعاده في البرازيل ما قد بدأه في مصر والبرازيل، فأصدر الصحف وأنشأ الجمعيات، ومارس الطبّ، وأخضع نفسه لتجارب طبّية خدمة للإنسانية، فصام أكثر من أربعين يوماً، إلى أن لاقى وجه ربّه عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاما، اهتزّ على أثره الوطن والمغتربات ألما وحزنا لخسارته.
ولأنّ الصحافة هي مرآة أخلاق الأمة، وعنوان مجدّها، وهدى خطواتها، وهي المرشد الأمين، والناصح المخلص، وهي سيف الوطن إذا نبا سيفه، وترس الشعب إذا ما تثلم ترسه. وهي الوطن تجاه أوطان الأمم، والشعب تجاه شعوب العالم. لأنّ الصحافة كلّ ذلك وأكثر، في نظر د. سعاده، من هنا، فقد بدأ نشاطه الفكري في البرازيل بتأسيس جريدة يومية، أسماها "الجريدة"، فصدر العدد الأول منها في 5 آب 1920، واستمرت بالصدور لمدّة ثلاث سنوات، وأوقفها نزولا عند رغبة نجله أنطون، واستبدلها بإعادة إصدار مجلة شهرية، هي "المجلة"، حيث تولى فيها ابنه انطون مسؤولية الشؤون الإدارية، وتحرير معظم موادها. صدر العدد الأول منها في أول شباط 1923، (راجع نواف حردان "سعاده في المهجر"، الجزء الأول).
وجه سعاده في صدر العدد الاول من "الجريدة" نداء سياسياً الى الجالية السورية في البرازيل، بدأه بتحية "مواطنينا الكرام الذين يؤلفون جالية راقية يفتخر بها الوطن ويعدها من أركانه وأغزر موارد عمرانه" كما حّدد الغرض من انشاء الجريدة على أنّه: "تأدية خدمة للوطن وأبنائه دون سواهم". وعلى صفحاتها وبتوجيه منه برزت مواهب العديد من المفكرين أمثال ابنه أنطون والشاعران الياس فرحات ورشيد سليم الخوري. منعت سلطات الانتداب دخول "الجريدة" وكتابات سعاده الى سورية بسبب الحملة التي شنها خليل على فرنسا وسياستها الاستعمارية في مقالاته تحت عنوان: "سورية وفرنسا اثناء مؤتمر الصلح". توقفت "الجريدة" في منتصف ك2 1923. كما توقفت "المجلة" عن الصدور في اب 1925، ليتولى سعاده بعد ذلك رئاسة تحرير مجلة "الرابطة" لسان حال "الرابطة الوطنية السورية" من مطلع 1930 حتى وفاته عام 1934. ويذكر أنّ جريدة "الرابطة"، ممثلة برئيس تحريرها د. سعاده، قد نظمت حملة تبرعات عام 1931 لإنشاء تمثال للشهيد يوسف العظمة، بطل معركة ميسلون عام 1920، تكلّلت الحملة بالنجاح، وأرسل التمثال بعد صنعه إلى دمشق ونصب في ميسلون. ويشهد الأستاذ أكرم زعيتر في كتابه "مهمة في قارة" أنّه عندما زار البرازيل عام 1948، لمس في الجالية العربية إجماعا على أنّ د. خليل سعاده كان من أخلص وأعفّ من عرفتهم المهاجر من الأدباء، ويعتبرونه العالم الصوفيّ الأول في البرازيل. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى قضية شغلت اهتمام د. سعاده، منذ تخرّجه من الجامعة الأميركية، ألا وهي السعي إلى إنشاء مستشفى خاص بالأمراض الصدرية، تلك المحاولة التي فشلت أولا في بيروت، كما ذكرنا سابقاً، ومن ثمّ فشلت مجدّداً في البرازيل، على أثر النزاع الذي اندلع بين أفراد الجالية، حول تسمية اسم المستشفى، (للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، راجع "أنطون سعاده: الأثار الكاملة"، الجزء الثامن، ص 15: شعب منقسم على ذاته: عبرة المستشفى السوريّ).
*************
توفي د. سعاده، وهو يحمل لقب العلامة لكثرة علمه، في العاشر من نيسان 1934، في ساو باولو، عن عمر ناهز السابعة والسبعين، بعد صيام استمرّ ثلاثة وأربعين يوما أراد منه أن يختبر الصوم كعلاج لبعض الأمراض، وقد فاجأه الموت في اليوم الخامس من عودته عن الصيام، ولم يترك له فرصة أن يسعف نفسه، وهو الطبيب المشهور. عمّ الحزن الوطن والمهاجر على وفاة د. سعاده، فأعلنت "الرابطة الوطنية السورية" الحداد، وتصدّرت الصفحات الأولى من الصحف الوطنية والمهجرية خبر الوفاة، ودبّجت المقالات التي تنوّه بالفقيد ومآثره، وأقيم للفقيد مأتم مهيب، كما أحيت "الرابطة الوطنية السورية" ذكرى الأربعين في 6 تموز 1934 في ساو باولو. وصدر كتاب "الرابطة" العدد 106 في البرزيل عام 1971، قدم له الأمين نواف حردان، ويضم أهم مقالات د. سعاده السياسية التي نشرت في جريدة "الرابطة" و ومجلة "المجلة"، وهاجم فيها دولتي الانتداب، اللتين تآمرتا على الشعب السوري في توقيع معاهدة سايكس- بيكو واصدار وعد بلفور المشؤوم، كما يضم الكتاب نبذة عن حياة سعاده تحت عنوان "ترجمة د.خليل سعاده". وأزيح الستار عن تمثاله في ضهور الشوير في 13 أيلول 1981، وهو تقدمة من الجالية في البرازيل، ومن صنع النحات عارف أبو لطيف ابن بلدة عيحا – راشيا. كرّم "تجمع النهضة النسائية" – فرع الشوير د. خليل سعاده في إطار "عيد المغتربين" لصيف 2002.
ونختم مقالتنا بهذه الصلاة القومية للعلامة خليل سعاده، لعلّها تكون عبرة للجميع: "يا بني وطني، لنتحد ولو مرّة واحدة في سبيل أقدس واجباتنا لوطننا. ولنتقدم إلى هذا الوطن العزيز، ونقول: يا وطننا المقدس، لقد فرّقتنا التعصبات الدينية، وأفضت بنا إلى المنازعات السياسية والمشاحنات الاقليمية والاضطرابات الطائفية. أمّا الآن وقد انفتحت أعيننا وبزغ فجر عصر جديد، فإننا نقسم بك أنّنا نتحد إتحادا منظماً، وأن لا نختار لخدمتك إلا من نعتقد به الكفاءة لها والإخلاص لك.. نقسم بك أنّنا نربّي ذريتنا تربية وطنية.. أبانا الذي على الأرض، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك فينا كمشيئة الله في السماء. روح الاتحاد أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرير، لأنّ لك الملك والقوّة والمجد، إلى أبد الأبدين، آمين".
*************
ترك العلامة د. خليل سعاده، مجموعة من المؤلفات الأدبية والعلمية، إلى جانب بعض الترجمات، ومن أبرز مؤلفاته:
1- الطوالع السعدية في آداب اللغة الإنكليزية: وهو عبارة عن دليل لتعليم اللغة الانكليزية بدون معلم. نشرته المكتبة الشرقية في القاهرة عام 1886.
2- رواية مراد او الامير السوري: وهي بالانكليزية عام 1892، طبعت في القاهرة عام 1892. ترجمت الى العربية عام 1981 بعدما عثر عليها صدفة الباحث بدر الحاج في مكتبة المتحف البريطاني عام 1978. وهي قصة شرقية تحتوي على اهم العادات والتقاليد في لبنان وحوران.
3- رواية قيصر وكليوبترا: كتبها اثناء زيارته للشوير عام 1895 طبعها في لندن عام 1898 نقلها الى العربية ونشرها في ساو باولو 1925. وفيها ينتقد رواية شكسبير. لعبت على مسرح كازينو ساو باولو سنة 1928، قدّمها سعاده بقوله: "إنّ تأويلي لمصرع يوليوس قيصر، غيّر حكم التاريخ في هذه القضية".
4 -كتب في مصر ثلاث روايات: انطونيو وكيلوباترا. اسرار الباستيل. والشركسية الحسناء (اعتبرت مفقودة).
5- أسباب الثورة الروسية عام 1906.
6- الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه، عام 1906.
7- ترجمة "انجيل برنابا": طبع في القاهرة عام 1908 وصدرعن مجلة المنار. يختلف هذا الإنجيل عن بقيّة الأناجيل القانونية المنحولة، أثار الكثير من النقد والشك والتأويل. رفض اللاهوتيون المسيحيون هذا الإنجيل، في حين رحّب به بعض الفقهاء المحمديين.
8- "قاموس سعاده": يقع في مجلدين من الحجم الكبير (1765 صفحة)، طبع في القاهرة 1911، وهو كما عرّفه المؤلف: "معجم إنكليزي عربي، محيط بمواد اللغة الإنكليزية وموضعاتها العلمية والفنية، ابتكر فيه المؤلف أوضاعاً عربية شتى في جميع العلوم والفنون العصرية، سدّاً لحاجة طلبة المدارس وغيرهم من طلاب العلم والأدب"، ووصفه بأنه أكبر قاموس من نوعه في العالم.
9- المعجم العربي المطوّل، وعنه يقول سعاده: إنّه معجم عصري، لم ينسج على منواله أحد، ولا يستغني عنه طالب أو كاتب او مترجم أو أديب أو محام أو طبيب أو غيرهم، كما يذكر أنّ تنضيد حروفه وطبعه استغرق سبع سنين.