في بلادنا والعالَم طفرة من الساسة ونُدرة من رجال الدولة. ربما لأن السياسة جِسر عبور إلى السلطة والمال والنفوذ، وأحياناً كثيرة إلى الفساد. لذلك يزدهر العمل السياسي في حين تنخذل الدولة...والسياسة تتجلى، معيارياً، في كفاءة القادة لصُنع الخير العام وصوْغ مستقبلٍ مشرق لكنها، وصفياً، مجبولة بالإنتهازية والمافياوية والإستغلال. مِنْ هنا أهميةُ التفريق بين رجال الدولة وأراخنة السياسة، ومن هنا حيويةُ الفرز بين الواقع والمرتجى. لذلك اعتبر بعض المؤرخين والمفكرين أن صناعة التاريخ هي استقصاء الوحشيات، قبل الإنجازات المتصلة بها اتصالاً عضوياً. ألم يعتبر النهضوي جبران خليل جبران الحضارةَ نُصُباً قائماً على رابية من الجماجم البشرية؟!
قال الرائد الفلسفي الإغريقي أفلاطون: «نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكّر، ومتعصبون إذا لم نُرِدْ أن نفكر، وعبيد إذا لم نجرؤ على التفكير» ... هكذا يتضح في هذا المأثور الأفلاطوني أن الفكر هو حجر الزاوية في الشخصية الإنسانية المتزنة والفاعلة. لذلك لا بُدّ، لكل مَن يحسب نفسه مواطناً واعياً لا تابعاً أعمى، مِنْ أن يفكر ويسأل ويحاسب، لأن التساؤل أبجدية الفكر كما أنّ الفِعل دليلُ نبضه وديمومته. هكذا تتبدّى الحرية الحقيقية التي يمنحها التفكيرُ الحر نكهتَها بل مبررَ وجودها. قال الفيلسوف العقلاني الألماني ليَبْنِتزْ: «لو أن الحرية تعني أن نُزعزع نِير العقل، لأصبح المجانينُ والحمقى الأحرارَ الوحيدين».
أين شعبنا وبلادنا من ذلك كله؟ أين أصحاب العقول والرؤية والإستشراف؟ أين معادن الرجالِ المناقبيين والنساءِ الأخلاقيات؟ أين الحريصون والحريصات على منع ابتلاع حتى الشّفّةِ الأخيرة من كأس الحياة المُرّة؟ أليس في هذا الشعب جرّاح واحد يستطيع إيقاف النزيف؟ أليس أطباؤنا الوطنيون وافرين عِلماً وخبرةً ونجاحات؟ أليس المدير العام للأمن العام واحداً من هؤلاء؟ ألمْ يُثبتْ اللواء عباس ابراهيم مقدرة نوعية على اتخاذ مبادراتٍ وتنفيذ أدوار ترفع من شأن المسؤولية التي هبطتْ عند بعضهم حتى الهزال؟ وإلامَ سنبقى متفرجين على الحقيقة لكنْ مُتراضين بالباطل، واعِدين بالوهم، ساكتين على الأبْلَسَة المعشّشة بين ظهرانينا ؟
بديهيّ أن إعلاء الصوت لا يكفي لأن إعلاء الممارسة هو ما يُعطي الصوت صدقيته وجَدواه، إذْ ذاك لا بُدّ من تحرُّكٍ مدروسٍ لكنْ سريع... إلا إذا كان بين المسؤولين مَنْ قرر تحويل الدولة المتهالكة إلى مقبرة جماعية صَغُر في لبنان كل شيءٍ... إِلّاها.